لنفهم طبيعة القرار رقم 1593 الذي أصدره مجلس الأمن الدولي بإحالة مرتكبي جرائم دارفور للمحكمة الجنائية الدولية والآثار المترتبة عليه، لابد من استقراء النظام العدلي الدولي وتوضيح طبيعة الأجسام المكونة له وأنواع المحاكم المختلفة فيه، ومدى القوة القانونية للقرارات التي تصدرها، والآثار المترتبة عليها، وإمكانية تنفيذ هذه الأحكام التي تصدر عنها.
قامت الأمم المتحدة بإنشاء بعض هذه المؤسسات العدلية من تلقاء نفسها، مثل محكمة العدل الدولية التي تختص بالنظر في النزاعات بين الدول، إضافة إلى بعض المحاكم الخاصة التي أنشأها مجلس الأمن الدولي مثل المحاكم الخاصة بيوغسلافيا السابقة International Criminal Tribunal for Yugoslavia (ICTY)، والمحكمة الخاصة برواندا ICTR، كما أن بعض هذه المحاكم الدولية قد تم تكوينه بناء على طلبات بعض الدول تلبية لاحتياجات آنية لمعالجة بعض الأوضاع لتطبيق العدالة الدولية وتمكين السلطة الوطنية، مثل محكمة سيراليون، وأخيراً ما توافقت مجموعة من الدول على إنشائه مثل المحكمة الجنائية الدولية ICC التي ظهرت للوجود في يوليو عام 2002م.
محكمة يوغسلافيا السابقة:
في أعقاب حرب البوسنة والمآسي التي خلفتها في بداية التسعينات أصدر مجلس الأمن في مايو 1993قرارا بتشكيل محكمة خاصة ICTY للنظر في جرائم الحرب التي وقعت في يوغسلافيا السابقة منذ 1991، وذلك لتحقيق العدالة لضحايا هذه الحرب. وقد قامت هذه المحكمة مؤخرا بالنظر في جرائم حرب كوسوفو في آخر التسعينات. وبذلك تعتبر أول محكمة دولية خاصة ينشئها مجلس الأمن الدولي، ولا تزال أعمالها مستمرة إلى اليوم في لاهاي. و قد تمت فيها محاكمة الرئيس سلوبودان ميلوسوفتش رئيس يوغسلافيا السابقة.
محكمة رواندا:
تم تشكيل محكمة رواندا ICTR للنظر في جرائم الحرب والابادة التي ارتكبها مسؤولون عسكريون وسياسيون أثناء الحرب الدائرة هناك بين الهوتو والتوتسي عام 1994.
لا زالت محكمة رواندا مستمرة إلى الآن حيث تنظر حالياً في الجرائم والفظائع التي ارتكبها ضباط الجيش. ولم يسلم منها أي مسؤول حيث طالت حتى الإعلاميين، إذ تمت محاكمة عدد من رؤساء الصحف بتهم التحريض على حرب والابادة والتآمر وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وصدرت ضدهم أحكاماً بالسجن المؤبد.
محكمة سيراليون:
محكمة سيراليون الجنائية الدولية هي محكمة خاصة تم تكوينها بدعم من مجلس الأمن الدولي استجابة لطلب تقدمت به حكومة سيراليون للنظر في جرائم الحرب التي دارت في سيراليون في ا لفترة من 1996-2002م وقد تم تحديد فترة عملها بثلاث سنوات. وجهت فيها التهم من ضمن آخرين لرئيس ليبيريا السابق شارلس تايلور لدوره في إشعال فتيل الحرب الأهلية والفتنة في بلاده وفي سيراليون على السواء، و ارتكاب والتحريض على جرائم الحرب، وترويع شعب سيراليون، والاغتصاب، وتجنيد الأطفال، والاختطاف، والقتل الجماعي، وغيرها من تهم جرائم العنف ضد الإنسانية. وكان أن قامت ليبيريا في عهد الرئيس شارلس تايلور بتقديم الدعم للجبهات العسكرية في الجرائم والفظائع التي ارتكبوها في سيراليون.
ولعل من المثير في هذه المحاكمة هي توجيه التهمة الأساسية فيها لرئيس دولة أجنبية وصدر أمر باعتقاله في منتصف يونيو 2003م، إلا انه لم ينفذ حتى الآن. وقد أجبر على الاستقالة وتم طرده بواسطة الحكومة الجديدة وغادرة البلاد دون اعتقاله، كما رفضت كل من غانا ونيجيريا تسليمه للمحكمة. وتعتبر محاكمة الرئيس الليبيري السابق تايلور هي المرة الثانية التي توجه فيها تهمة لرئيس دولة بواسطة محكمة دولية. وفي هذا تأكيد أن لا احد يستطيع الهروب والنجاة من الجرائم التي اقترفها أثناء توليه منصب قيادي في دولته حتى ولو كان ذلك المنصب رئاسة الدولة نفسها. وتولى تمثيل الاتهام فيها الأمريكي ديفيد كرينر.
تختلف محكمة سيراليون عن كل من محكمة يوغسلافيا ورواندا التي تم تحديد مكانيهما في كل من لاهاي وأروشا/تنزانيا بحسب الترتيب، أما محكمة سيراليون فتنعقد في سيراليون نفسها أي داخل الدولة، كما أن تعيين القضاة فيها تم بصورة مختلطة بين الأمم المتحدة وسراليون، وتقوم بتطبيق قانون سيراليون بالإضافة لمبادئي القانون الدولي العام. وبهذا تبدو كأنها محكمة دولية مختلطة، في القوت الذي تعتبر فيه محكمة يوغسلافيا ورواندا محاكم دولية صرفة تطبق القانون الدولي ونظام روما الأساسي. وليس من اختصاصها تطبيق عقوبة الإعدام. وقد وافقت خمس دول (ايطاليا، بنين، فرنسا، مالي، سوازيلاند) على استضافة المحكوم عليهم في سجونها.
كذلك تختلف هذه المحاكم الخاصة عن المحكمة الجنائية الدولية وهي مؤقتة و يتم تحديد اختصاص كل منها نوعياً ومكانياً وزمانياً، كم يتم تحديد صلاحيتها بموجب قرار تشكيلها.
المحكمة الجنائية الدولية:
تم تأسيسها في يوليو عام 2002م بعد جولة طويلة من المفاوضات بين الدول( 144 دولة) التي وقعت على مؤتمرها الدبلوماسي الأول عام 1998، وأخيرا وقع على النظام الأساسي 98 دولة ليصبحوا أعضاءها الحاليين، من بينهم 27 دولة افريقية، وهي بهذا تتمتع بالتأييد الأفريقي القوي، وبها ثلاثة قضاة كبار من دول افريقية ( مالي، جنوب إفريقيا، غانا) كما أن نائب المدعي العام من دول غامبيا.
وعارضت إنشائها بعض الدول على رأسها الولايات المتحدة. ولم تكتف الولايات المتحدة بمعارضتها تلك بل عملت على استصدار قرارات تؤمن موقف جنودها وموظفيها العاملين في الخارج. فقد أصدر مجلس الأمن القرارين رقم 1487 و 1422 لاستثناء الجنود الأمريكان والعاملين في قوات حفظ السلام الدولية من المثول أمام هذه المحكمة، و لتطمين الولايات المتحدة على عدم خضوعها لهذه المحكمة التي تعارضها.
وتهدف المحكمة الجنائية الدولية إلى وضع حد لهروب القادة والمسئولين دون عقاب عن الجرائم التي يقترفونها، وتحقيق العدالة الجنائية الدولية وتطوير نظام حكم القانون. وهي بهذا الفهم محكمة مكملة لأنظمة العدالة الوطنية الخاصة بالدول، ويحكمها قانون يسمى نظام روما الأساسي لسنة 1998 والذي تم التوقيع عليه ودخل حيز التنفيذ في يوليو عام 2002م.
والمحكمة الجنائية الدولية هي المؤسسة القضائية الجنائية الدولية الدائمة الوحيدة التي تتمتع باختصاص النظر في جرائم والابادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. ومقرها في لاهاي ولها مكاتب دائمة، وموظفين، ولها ميزانية مستقلة عن الأمم المتحدة تعتمد بشكل أساسي على التبرع والدعم الدولي. وهذا يعني جاهزية المحكمة للشروع فورا في النظر في قضية دارفور اخذين في الاعتبار حماس الدول الأوربية لإنجاحها.
وتنظر المحكمة حالياً في ثلاث قضايا بسيطة تقدمت بها ثلاث دول طلبت منها محاكمة بعض مواطنيها مثل يوغندا التي طلبت محاكمة بعض عناصر جيش الرب، وكذلك فعلت كل من الكونغو وأفريقيا الوسطى.
وبتاريخ 31 مارس 2005 تم تقييد قضية السودان لتصبح بذلك أول قضية يحيلها مجلس الأمن الدولي للمحكمة الجنائية الدولية للنظر في جرائم دارفور، مما يشكل سابقة جديدة في القانون الدولي.
هناك تهم وانتقادات كثيرة وجهت لمحكمة الجنايات الدولية وهي تتعلق بكونها قد تصبح أداة سياسية يبطش بها الكبار على الدول الفقيرة، ومعلوم أن السودان ليس عضوا فيها. ورغم ذلك إلى أن طبيعة نظام المحكمة ذي قوة ضاغطة، ولا تعترف بالحدود أو العضوية Intrusive لذلك سعت الولايات المتحدة إلى تأمين موقفها باستصدار تلك القرارات التي تحميها من مجلس الأمن الدولي. كذلك يصور هذا النوع من المحاكم على انه يتم تشكيله بغرض الإدانة فقط، لذا فان عواقبها السياسية والقانونية ستكون وخيمة على الإنقاذ خاصة إذا شملت القائمة مسؤولين كبار في قمة هرم السلطة التنفيذية، اخذين في الاعتبار ما حدث للرئيس تايلور الذي اجبر على الاستقالة ومغادرة البلاد بمجرد ظهور اسمه في قائمة المطلوبين.
ويحكم نظام روما الأساسي الإجراءات الجنائية المتبعة، إذ يصدر أمر القبض ويتم نشره وتوزيع بين الدول لأخذ العلم به، ويلزم أي دولة بتنفيذه، كما تقوم الشرطة الدولية بتنفيذه ايضا. ويلزم إعلان جنيف في هذا الشأن جميع الدول الموقعة عليه واجب تسهيل مهمة هذه المحكمة وتيسير اعتقال المتهمين وتسليمهم أو محاكمتهم.
قضية السودان/ محاكمة دارفور:
في 24 مارس طلبت فرنسا من مجلس الأمن الدولي إحالة موضوع دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية ICC وقد تم ذلك استنادا على المادة 13 من نظام روما الأساسي الذي يعطي مجلس الأمن الدولي استنادا على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الحق في تفويض المحكمة الجنائية الدولية الاختصاص والنظر في جرائم دارفور.
وقد وضع هذا الموقف الولايات المتحدة في حرج بين خيارين لا ثالث لهما: أما أن توافق وبالتالي تقوي من المحكمة التي ظلت تعارضها منذ قيامها، أو تستخدم حق الفيتو وتقتل القرار في مهده، مما يظهرها وكأنها لا ترغب في محاكمة مقترفي جرائم دارفور خاصة وهي التي بادرت بوصفها بأنها حرب ابادة (الكونجرس)، ومن ثم انهيار حملة الضغط التي ظلت تمارسها ضد حكومة السودان في الفترة الأخيرة.
للخروج من هذا المأزق اتبعت الولايات المتحدة استراتيجية كانت قد رفضتها في بداية الأمر رغم موافقة الخرطوم عليها، وهي قسمة مشروع القرار الأول إلى نصفين ليصبح قرارين منفصلين: النصف الأول أصبح القرار الذي يحتوي على فرض عقوبات الحظر المعروف( حظر السفر وحظر تجول الدبلوماسيين، وحظر الطيران فوق دارفور، وحظر بيع السلاح وغيرها) حيث لا تمانع الولايات المتحدة من التوقيع عليه. أما النصف الثاني فهو قرار المحاكمة الجنائية، حيث اتبعت كل من الولايات المتحدة والصين أسلوب عدم استخدام الفيتو، وعدم التصويت لصالحه، مما يعني موافقتهما الضمنية عليه.
وبناء على توصية اللجنة الدولية للتحقيق اختارت هذه الدول الإحالة للمحكمة الجنائية الدولية بدلا من تشكيل محاكم خاصة للسودان حتى يتم تفادي التأخير الذي كان سمة المحاكم السابقة لكل من رواندا ويوغسلافيا. كذلك شكل الموضوع فرصة ذهبية للأوربيين لإحياء المحكمة الجنائية الدولية وضخ الدماء فيها-بعد ان كادت معارضة الولايات المتحدة لها أن تقتلها-، وتكليفها بأول قضية تتهم فيها حكومة بحالها. وبذلك شكل القرار سابقة دولية جديدة حيث تعتبر هذه المرة الأولى التي يقوم فيها مجلس الأمن الدولي بإحالة قضية ما للمحكمة الجنائية الدولية.
ويعتبر هذا القرار هو أعلى قرار تصدره المنظمة الدولية ممثلة في أعلى سلطة فيها هي مجلس الأمن الدولي، بما له من قوة وضغط وقدرة على التنفيذ بموجب الفصل السابع الذي يصل حدي التنفيذ فيه إلى استخدام القوة العسكرية وغيرها. كما يشكل السابقة الثالثة لمحاكمة مسئولي دولة ما على مستوى رفيع.
وبحسب القرار رقم 1593 فان المدعي العام مكلف بأن يضع تقريرا أمام المجلس الدولي في خلال ثلاثة شهور بما تم تنفيذه من القرار. وستقوم المحكمة فور تسلمها قائمة المطلوبين السرية بإصدار أوامر الاعتقال وتوزيعها ونشرها بين الدول والشرطة الدولية في جميع أنحاء العالم. وهذا يعني انه لن يكون في مقدور احد من المطلوبين التجول في بقاع العالم أو السفر بحرية دون خوف حيث يصبح بإمكان أي جهة تنفيذ أمر الاعتقال، كما حدث للدكتاتور الأرجنتيني بينوشي في أسبانيا عندما تم اعتقاله فيها أثناء زيارته لها رغم أن الأمر صدر من محكمة أرجنتينية، وقد احتفت بهذه الواقعة الكثير من المنظمات الإنسانية.
وقد يفتح الأمر شهية المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية لتطالب بتشكيل محاكم دولية خاصة لمحاكمة مرتكبي جرائم التعذيب الوحشي والاغتصاب التي كانت تتم في بيوت الأشباح ذائعة الصيت، كما حدث في محاكمات كوسوفو التي أصبحت امتدادا لمحاكمة يوغسلافيا. هذا يعني أن الأمر قد يطول منسوبي المؤتمر الشعبي أيضا الذين كانوا يتبوءون مناصب قيادية في الأجهزة الأمنية والذين تشتتوا الآن في أوروبا مما يسهل التقاطهم واعتقالهم، وهنا يكمن دور المعارضة بعد أن انفتح الباب الذي أغلق في نهاية التسعينات.
وعلى الصعيد السياسي يتميز القرار بأنه أول قرار يصدر بحق مسؤولين رفيعين ما زالوا يمسكون بزمام السلطة في السودان. وبغض النظر عن إمكانية تنفيذه وسرعتها، إلا أن آثاره السياسية تظل وخيمة ومعقدة ويصعب التغلب عليها وتجاوزها في فترة قصيرة، خاصة وان مثل هذه الأحكام الدولية لا تعرف الانتهاء والسقوط بمرور الزمن. لذا سيظل القرار و الأوامر التي تصدرها المحكمة سيفاً مسلطاً على رقاب المتهمين إلى يوم الدين، أو إلى أن يتم إلغاء القرار من مجلس الأمن الدولي بمعجزة ما. وحتى الآن لم يحدثنا التاريخ عن مثل هذه المعجزة المفترضة.
كذلك سيحدث القرار وأوامر الاعتقال التي ستصدرها المحكمة بحق مسؤولين حكوميين رفيعين آثارا سلبية على مصداقية هذه الحكومة والتعامل معها دولياً، مما يعرض هيبة الدولة إلى هزات عنيفة قد تكلف الوطن غالياً، و قد يؤدي إلى صدور إعلانات دولية من بعض الدول الأعضاء تعلن فيه عدم اعترافها بحكومة بعض وزرائها مطلوبين للعدالة الجنائية الدولية، مما يعني انهيار سلطة الإنقاذ وفقدانها للشرعية. لذلك قامت ليبيريا بدفع الرئيس تايلور للاستقالة فور ورود اسمه في قائمة المطلوبين للمحافظة على هيبة وكرامة الدولة. فهل يحدث هذا في السودان؟
وقد يؤدي الأمر إلى حدوث صراع داخلي بين "أهل الباطن" لان الأمر هذه المرة يخصهم ويعنيهم وحدهم، مما ينذر بحدوث احتكاك وتبادل للتهم والشائعات مما قد يقود إلى نشوب صراع سياسي عسكري بينهم، خاصة وان القائمة شاملة(وزراء، ضباط امن، ضباط جيش، قادة جهاديين، وغيرهم). فهناك احتمال أن تدفع جهات دولية ومحلية بعض "أهل الباطن" للسيطرة على الأمور والتخلص من قائمة الـ 51، وتسليمهم للعدالة الدولية، وهي فرصة ثمينة لو يعلمون حيث يتاح فيها التأييد الدولي في ثواني، وتكسب احترام الداخل أيضا وتأييده. أما الاحتمال الثاني فهو أن يحدث انقسام بين القائمة ويحاول كل فريق التخلص من الآخر، ففي هذه الحالة أما أن يحسم الأمر بنصر أو ينتهي إلى حرب أهلية ضروس تضرب بين أهل الباطن، وتدفع ثمنها الخرطوم غالياً. وعندما تنهار السلطة المركزية يصعب التنبؤ بما يمكن أن يحدث في الجنوب ودارفور والشرق والجبال.
وعلى كل فإن الإنقاذ لم يكن لها أصدقاء بالداخل سوى منتسبي التيار الإسلامي السياسي المنقسمين، كما ليس لها أصدقاء خارجيين. وقد أسست أسطورتها بناء على استخدام القوة والعنف والبطش بمعارضيها وإتباع سياسة تجفيف السودان من أبنائه البررة، مما اكسبها سمعة سيئة بين الدول، وذاع صيتها كأكبر مخالف ومعتدي ومنتهك للحقوق والقوانين الإنسانية في العالم.
ولعل إتباع الإنقاذ لسياسة التمكين بالقوة والعنف وإعلان الجهاد والبطش بمواطنيها في الأقاليم هو ما أوصلها لهذه الحال اليوم، ولن تجد من يبكيها. وقد عقد من مشاكل الإنقاذ هذه الهوة السحيقة التي حفرتها بنفسها بينها وبين أبناء الأقاليم الفقيرة بإتباعها لسياسات التمييز العرقي والديني والتهميش الاقتصادي في دارفور والشرق وجبال النوبة والانقسنا وجنوب السودان. وحقيقة في ظل هذا الانهيار يتضح أن الإنقاذ لم تحكم إلا الوسط النيلي وولايات نهر النيل في أقصى الشمال، و أن سياساتها المتبعة منذ التكشير عن طبيعتها العسكرية المستمدة من مبادئ الجهاد، واستراتيجية الحكم القائمة على الانفراد وحرمان بقية الشعب من الثروات والسلطات كل هذا وقف عائقا في سبيل إيجاد تسوية وطنية لقضية الحكم في السودان.
واذا كانت سلطة الإنقاذ قد قامت على حكم المؤسسات الشخصية التي تمارس عبر بيروقراطية الأجهزة الأمنية والعسكرية السرية قد ظلت محصنة ويصعب اختراقها، فإن هذه المحاكمات ستعمل على كشفها جميعاً وتعريتها وكشف فضائحها وفظائعها للعالم اجمع. وهكذا يعتبر هذا القرار الدولي هو كسر حقيقي وعميق لهذه الحلقات السرية وتفتيت لنظام القوة والسيطرة المهيمن في السودان منذ عام 1989، وكم هو غال هذا الثمن. وهكذا وقعت الإنقاذ ضحية وفريسة للمؤامرات التي نسجتها والظروف التي صنعتها بنفسها (وعلى نفسها جنت براقش)
ولعل للإنقاذ في ختام الأمر، قصة غريبة مع الأرقام فهي قد بدأت بسيطرة كاملة للسلطة مارسها مجلسها الأربعيني ذائع الصيت في بداية الأمر، ثم فقدت تأييدها الشعبي الذاتي بانقسامها الذي هندسته مجموعة العشرة مما اضعف أركان دولتهم، والآن ها هي تنتهي بقائمة الـ51، في محافل القضاء الدولي وسجون أوروبا الباردة.
انتهى
إبراهيم علي إبراهيم المحامي
متخصص في شئون الكونجرس
واشنطن
التعليقات