نشر الملحق الثقافي لصحيفة لاريبوبليكا" الجمهورية" الإيطالية "التي تعتبر الأكثر انتشارا في البلاد مقابلة مع الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي تحت عنوان " شاعر الشبيبة العراقية في أفضل مراحلها.. معجب بمارلون براندو" ما يلي نص اللقاء الذي أجراه الصحافي الايطالي ماركو شيكاله:


داعيا للحرية ومعاديا للحركات الإسلامية المتطرفة، الكاتب عبد القادر الجنابي الذي غادر بغداد قبل صعود صدام حسين. الآن يستحضر تاريخ مدينة حين كانت الشبيبة فيها تعارض وتقرأ ماركوز، وتحلم مع هوليود، وتعرفت على جنود المارينيز فقط من خلال وجه الممثل جون وين.

في الشوارع لم تخيم بعد الصور العملاقة لصدام حسين ليتبارك بها الناس، لكن لكريكوري بيك وانتوني كوين. والجنود المارينيز الأمريكيان لم يرى منهم أي عراقي، فقط من على شاشات السينما: كان لهم وجوه بالأسود والأبيض كما هو الحال لكل من جون وين وايرول فلاين. كان الصبية يتبادلون مجلات فلاش كوردن وسوبرمان، وصور بوجي ومنغمري كليفت، يلفونها كهدايا داخل علب العلكة.

عندما كان فصل الصيف الحار يقترب، فان المدينة تتحول الى فرن، يتجه الجميع للاحتماء داخل صالات السينما. كانت بمثابة واحات للبرودة العذبة، وللأحلام المطلوبة. صالات السينما كانت لها أسماء مثل غرناطة، تخليدا لإسلام أسطوري: "مدرستي الحقيقية كانت سينمات بغداد، الأفلام الأمريكية في سنوات الخمسينات، وكان مارلون براندو يشحن أحلامنا ويستحوذ عليها. ماذا أقول عنه الان؟ لكن في تلك الحقبة الزمنية تحت رحمة هوليويود، فان العراقيين كانوا يعيشون قصة حب رائعة مع الولايات المتحدة. غريتا غابو ومارلين مونرو جعلتا البانيثون الرافديني في ثورة".
يقهقه بدون أي ظل لابتسامة، عبد القادر الجنابي، شاعر، وناقد، ومحرض ثقافي، عربي غير مريح للبعض كأنه " قرصان" بين المثقفين العرب. كان في نهاية الستينات قد غادر العراق، وهو في قمة المعاصرة، لانهم كانوا يضايقونه، لان خلف الانقلاب العسكري الذي قاده حزب البعث كان يشم رائحة المستقبل الغير مشموم والذي نعرفه جميعا. " الانقلاب العسكري في شهر تموز1968 كان يقرع لنهاية جرس حرية الثقافة، في نهاية تلك الساعة كانت بغداد تبدو وكأنها مكان يوعد الجميع. كنا نقضي ليالينا في المقاهي نبني ونعيد بناء العالم، كنا نقرأ كل ما يأتينا من بروتون وماركوز، ولرتود، والين غينسبرغ، حتى وان كانوا يتهموننا بكوننا ألاعيب تآمرية صهيونية".
في نهاية الستينات لم يعد ابدا الى وطنه، لكن لا يمكن تسميته بالمنفي لان مثل هذه التسمية لا تعجبه "المنفيون على اية حال، هم غير المحظوظينمن الذين بقوا في العراق طيلة هذا الزمن". في عام 1970 وصل الى لندن، ليصبح اول هيبي عراقي كما يؤرخ لذلك في كتابه "تربية عبدالقادر الجنابي"، اذترجمت السيرة الذاتيةالى اللغة الفرنسية( طبعة اكتيز سود) وشكلت ثقافته وليام رايخ، ديب بوربل، جانيس شوبلن والاخرون وبضمنهم ترتسكي والاممية العربية، كان عبد القادر يعرف كيف يسخر من الطلبة العرب بتوزع مناشير تدعو الى الحرية الجنسية، والدعوة الى حرية الإجهاض. سنتان بعد ذلك يحل في باريس بدون ان يعرف كلمة واحدة من اللغة الفرنسية، اذ كان يلفظ بعض الكلمات بصورة رديئة، وفي معرض لابنة اندريه بريتون يتعرف على مونا وهي ابنة فوضوي أسباني منفي وهي اليوم متخصصة بعلم الاجتماع، لتكون زوجته، تقول عنه." كان متسكع و متسخ وسكير على الدوام". وكما هو الحال في شقتهما الباريسية حيث يعيشان في حالة عبث كلي ، ما بين اللوحات السريالية، وأكداس الكتب المركونة بثقلها على الرفوف، ومجاميع كبيرة من الاسطوانات الموسيقية للأفلام التي جمعها عبد القادر طيلة هذه السنوات. " من بغداد جلبت معي عشقي للموسيقى التصويرية"

يس هذا وحده فهو خلال ثلاثين سنة أسس، وكتب وأدار عدة مجلات أدبية، إضافة الى مقالات وموضوعات شعرية، و تحريضات لانهاية لها، مثل تحويله جواز سفره العراقي في غاليري للفنون، بهدف التحريض، في كل صفحة من صفحاته كان يطلب من كل فنان ان يضع دعابته، تخطيط ما، او أي شيء يخطر على باله حتى ان احد الصفحات كانت تحمل صورة بورنو. وكان يعامل بصورة سيئة من قبل الصحافة في البلدان العربية وخاصة على صعيد العلاقات وخاصة مع مثقفي تلك البلدان الذين يتسمون بالتشدد والتعصب.
"انا اكره الازدواجية عند الانتجليسيا العربية، فعندما يكونون في أوربا فإنهم يعانون من الاضطهاد والتعتيم في أوطانهم، وعندما يعودون الى أوطانهم يكتبون في الصحف أشياء معيبة ضد الغرب" انه يرفض ان يضع قدميه في البلدان العربية: "في كل ألاماكن حيث ينطبق المثل الذي يقول" الاستبداد الشرقي"فانه يمتلك كل قواه الفعالة.. لقد عشت طويلا في المناطق الحرة، في الغرب ولا يمكنني العودة الى الوراء".
قبل عدة سنوات مضت زار إسرائيل لحضور مهرجان شعري، ويمكن تصور مثل هذا الحدث، اذ ساءت صورته عند العديد من البيئات العربية المحلية
" في إسرائيل اكتشفت أن للإسرائيليين مساحة من الحرية يعبر عنها المجتمع مقابل مجتمعات عربية محرومة". لكن في الحقيقة مقابل ظاهرة العمى؛ حيث يمضي الجميع نحو الأسفل سواء القادة الاسرائليين او الفلسطينيين على السواء. الضرب الأكثر وجعا يأتي من اعتزازه بثقافته الأصيلة: "الفكر العربي سجين ثقته بنفسه، انه فكر مضطرب كما هو الحال في القرن الماضي، فهذا العالم العربي لم يتمخض عن شيء ما لينتج عمل عظيم في الأدب".
انه داع للحرية، وتشخيصاته لا تخلو من حدية: "في البلدان الإسلامية فان الصعوبة الرئيسية في عملية التجديد الثقافي تظل متمثلة في الدين". انه مقتنع تماما بان النهوض يجب ان يبدأ اولا من اللغة نفسها: "عدم القدرة في التعبير عن مجموعة من المفاهيم المعاصرة لأنهم لا يزالوا يضعون أنفسهم في أقفاص النحو القرآني".
لهذا السبب فان الكتاب الشباب العرب الذين يزورون باريس ينصحهم عبد القادر نحو الانطلاق من السريالية، وربما من مارلون براندو الفوضوي في فيلم التانغو الأخير في باريس: "في أدائه لهذا الدور، يبدو مختصر، ممضوغ، متلعثم، أشبه بانعكاس التركيب الكلمات الإيجازي، وهو أشبه بالسبب الذي يدفع لبناء القصيدة الشعرية الحديثة" ويضيف قائلا: "التمرد على القيم، الحرية في خلق التصورات وحرية الجسد.. هي الأساس في السريالية، لاتكون هذه المبادىء أكثر من تحريض للمجتمع الأوربي، ولكنها بالنسبة للمجتمعات العربية تمثل تحد كبير".
بالنسبة للحرب في العراق ماذا تفكر؟
"المشكلات لا زالت مطروحة، ومن المستحيل إخفائها، لكني مع التدخل الأمريكي. والسبب أود ان اشرحه على النحو التالي : عندما يسجن شخص ما في بيته ويمنع من الخروج، فانه يتمنى ان تنسف باب الدار في الهواء، حتى وان كان الانفجار من قبل الحرامية الذين جاؤا لسرقة كل شيء"

ترجمة موسى الخميسي