تثار بين الفينة والاخرى مسألة تدويل (القضية العراقية), والمفارقة الملفتة للنظر انه في كل مرة يحصل تقدم ملموس على الصعيد الامني في العراق يصار الى أثارة مسألة التدويل. وتارة تاتي الدعوة اليها من بعض العراقيين، واخرى من غيرهم كما هي الحال مع دعوة الرئيس الباكستاني قبل اكثر من شهرين الى أستبدال القوات المتعددة الجنسيات المتواجدة في العراق بأخرى اسلامية تحت اشراف الامم المتحدة. وصدق من قال ان شر البلية ما يضحك، فباكستان التي تعاني من اضطرابات امنية مزمنة منذ استقلالها عن الهند عام 1947 والى يومنا هذا، يطالب رئيسها بارسال قوات اسلامية لبسط الامن والاستقرار في العراق، وكأنه انجز الاستقرار في بلده, وحل قضية كشمير المستعصية على الحل، وانهى تمرد قبائل البشتون الداعمة لطالبان، وانهى حكم العسكر في بلاده. كان الاجدر بالرئيس الباكستاني وامثاله ان يعمل على تحقيق الامن في بلده ثم بعد ذلك يتجه للمساهمة في حل مشاكل الاخرين, وما مشكلة المسجد الاحمر التي تعامل معها بكل قسوة بعد ظهور مابات يعرف بـ (طالبان باكستان) عنا ببعيدة.

دعونا الان نناقش مسألة تدويل (القضية العراقية)، ولكن قبل ذلك لابد من التذكير ان لاعلاقة لدعوة التدويل التي طرحها بعض العراقيين والعرب بالاقتراح البريطاني _الامريكي الذي طرح قبل ايام على مجلس الامن وتمخض عه القرار 1770 والذي يدعو الى توسيع دور الامم المتحدة في العراق. وبالعودة الى مسألة التدويل سنفترض وجود النية الحسنة عند الداعين اليه, وان كان هذا الافتراض يصطدم بالمواقف السبلية لهؤلاء طوال السنوات الاربع الماضية. وباختصار جد شديد فان دعاة التدويل يريدون انهاء تواجد القوات المتعددة الجنسيات بقيادة امريكا ,وكذلك انهاء اشراف هذه القوات على الملف الامني ووضعه تحت اشراف الامم المتحدة. وبكلمة اخرى, فإن المراد من التدويل وضع العراق تحت الوصاية الدولية.

هل تعلمون ما معنى ذلك؟ معناه وبصريح العبارة اعادة عقارب الساعة الى الوراء, والعودة الى المربع الاول ,والبداية من الصفر, وانهاء العملية السياسية الجارية في العراق, والضرب بكل ما نتج وترتب عن تلك العملية بعرض الجدار. اي المطلوب تجميد العمل بالدستور، والغاء نتائج الانتخابات, والبدء من جديد ولكن ليس عن طريق الانتخابات وما الى ذلك بل من خلال (طائف) جديد ولكن هذه المرة تحت اشراف الوصاية الدولية المتمثلة بالامم المتحدة. هذه هي الغاية الحقيقة الغير معلنة والتي يتخفى اصحابها وراء الدعوة الى التدويل, وان زخرفوا كلامهم وجملوا عباراتهم بزخارف الوطنية وما الى ذلك من الكليشات.

دعونا نتوقف لحظات عند الحجج التي ساقها دعاة التدويل لتبرير دعوتهم هذه لنرى هل تحقيق الامن والاستقرار هو مبتغاهم, ام ان لهم هدفا وغاية أخرى يسعون لتحقيقها من خلال الدعوة الى التدويل. حجتهم الاساسية هي ان القوات المتعددة الجنسيات بقيادة امريكا قد فشلت في تحقيق الامن في العراق, ومن هنا فان تواجدها لم يعد يفي بالغرض فضلا عن أنه بات يشكل عامل استفزاز وجزء من المشكلة بالنسبة للعراقيين, وكذلك فشل المشروع الامريكي في العراق مما يتطلب استبدال الوجود العسكري والدور السياسي الامريكي بوجود ودور مماثل للامم المتحدة من اجل بسط الامن والاستقرار في ربوع العراق.

حسنا دعونا الان نناقش هذه الحجة. اولا ما الذي سيضمن نجاح الامم المتحدة في تحقيق الامن في العراق اذا ماباشرت هي بالاشراف على الملف الامني؟ ثم ما الذي يمكن للامم المتحدة فعله غير اراسال قواتها من ذوي القبعات الزرق الى العراق؟ وهنا يحق لنا ان نتسائل اذا كانت الولايات المتحدة الامريكية قد عجزت عن تحقيق الامن رغم امتلاكها لآلية عسكرية عملاقة, ورغم انفاقها ثمانية مليار دولار شهريا على قواتها في العراق اي ما يعادل ميزانية الامم المتحدة لعام بأكمله, فهل يعقل ان الامم المتحدة ستنجح بما فشلت به امريكا وحلفائها؟ وعملا بالحكمة القائلة (ان مثلا واحدا خير من الف نظرية) نأخذ لبنان نموذجا بوصفه أخر دولة دخلتها الامم المتحدة عبر قرار مجلس الامن المرقم 1701 والذي انتشرت بموجبه قواتها البالع عددها 15 الف عنصر على حدوده الجنوبية بمساحة لاتتعدى 40 كيلومتر طولا و20 كيلومتر عرضا. يقول الواقع اللبناني ان هذه القوات لاتستطيع القيام او افعل اي شئ الا بمساعدة وتعاون من (حزب الله), فمابالك بالعراق الذي تفوق مساحة احدى مدنه وهي البصرة مساحة لبنان بأكمله؟ كيف ستفرض الامم المتحدة سيطرتها على بلد واسع كالعراق؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟ هل تأتي قوات من بنغلادش عاملة ضمن القوات الاممية مثلا لتقاتل المتمردين في منطقة الدورة, او مدينة الصدر؟ وهل يتوقع النجاح لمثل هذه القوات اذا كان الجيش الامريكي ومعه البريطاني وحلفائه الاخرين فشلوا في تحقيق الامن والاستقرار في العراق؟ هل يعقل ذلك؟

رب قائل يقول ان المراد من تدويل (القضية العراقية) ليس الجانب الامني فحسب، بل السياسي. اعتقد ان هذا الرأي هو الاقرب الى الواقع اذ لايتصور ان دعاة التدويل مؤمنون بقدرة الامم المتحدة على ادارة الملف الامني في العراق, لاسيما وان تاريخ الامم المتحدة وتجاربها تشير الى فشلها في هذا الجانب فشلا ذريعا في اغلب المهمات الامنية التي اضطلعت بها والتي بلغ عددها الواحد والستين مهمة. وهنا نعود ونتسائل, ماالمطلوب من المؤسسة الاممية فعله بالضبط في الجانب السياسي في العراق؟ من غير المتوقع ان تتدخل الامم المتحدة في شكل النظام السياسي الذي يريده العراقيون فهو شان داخلي يعود اليهم اولا واخيرا, واغلب العراقيين متفقون على النظام البرلماني الديمقراطي وهنا كان للامم المتحدة دورها المشهود والذي تمثل بالاشراف على الانتخابات التي جرت لاختيار اعضاء البرلمان العراق، وكذلك اشرفت على عملية الاستفتاء على الدستور من خلال المراقبين الدوليين الذين مثلوها في العملية السياسية,إذن فمالذي يُتوقع ان تقوم به المؤسسة الاممية اكثر مما قامت به لحد الان في العراق؟

اخلص الى القول ان تدويل (القضية العراقية) لن يصب في صالح العراقيين, وذلك لعجز الامم المتحدة على النهوض بمسؤولية الملف الامني هذا اولا, ولانها استنفذت دورها او تكاد على المستوى السياسي, ولاتوجد ضرورة, اوحاجة سياسية كبيرة لها هذا ثانيا. ان تحقيق الامن والاستقرار هو مسؤولية الحكومة العراقية والعراقيين جميعا، ولايوجد بديل عن اتفاق سياسي بين العراقيين تضمنه قوات عراقية قوية, لان المشكلة في العراق سياسية بالدرجة الاولى, وبدلا من ان نفكر بتدويلها علينا حلها داخل العراق بالحوار بعد ان نعمل على اعادة بناء الثقة بين العراقيين, وان نعمل على بناء قواتنا الوطنية, و تشكيل حكومة عراقية قوية وكفوءة بعيدا عن المحاصصة تستطيع تحقيق الامن والاستقرار, وايجاد دورة رأسمال, وبناء طبقة وسطى، وتشجيع الاستثمارات الاجنبية لانعاش الحياة الاقتصادية, وكذلك توفير فرص العمل للقضاء على البطالة الامر الذي سيساعد بدوره على انهاء ظاهرة المليشيات والعنف المسلح. اخيراً, لقد علمتنا التجارب ان دعوة التدويل أو الاستقواء بالخارج لحل مشاكل الداخل تأتي دائما ممن لايمتلك برنامجا سياسيا واقتصاديا للحل, لذا تراه يستقوي بالخارج, وطبيعي ستكون النتيجة الفشل والعواقب وخيمة. وامامنا المثال اللبناني شاخصا للعيان. فهل يريد دعاة التدويل افشال التجربة الديمقراطية الوليدة في العراق رغم اقرارنا بوجود نواقص وعيوب فيها ام ماذا؟ سؤال نطرحه عليهم.

[email protected]