تجد الإنسان الغربي مزهوّاً، يثق بنفسه، عزيزاً مقداماً، غير ذليلٍ ولا هو بخائف. ينطلق في الدنيا وإليها، يختبرها ويبدع فيها كمَلِكٍ يريد الإستحواذ عليها، وتلوينها بالألوان التي يحبها.
الآفاق مفتوحة أمامه، والمدى له رحبٌ، يصول فيه ويجول.
لا يمرّ يوم إلا والإنسان الغربي يحقق إنجازاً، ويبلغ مراماً، ويثبت تفوقاً في جلّ ميادين الحياة، ما يوجب إعجاب الأعداء قبل الأصدقاء.


الإنسان الشرقي يستفيق صباحاً، وغيوم ثقيلة من الواجبات اليومية تحوم فوق رأسه.
هموم تضغط على روحه وتكاد تخنقه. الخبز، إطعام الأولاد، هموم الفقر، هموم الخدمات المعدومة، الرشوة، الفساد، الواسطة لدى السلطة، الكآبة والضجر والقهر، ومن ثم فوق ذلك الإحتراس دوماً والبقاء على يقظة جد مستنفرة، أن لا يبوح بشئ ممنوع يثير سخط السلطة، وأزلام الدكتاتور القابع منذ الأزل في قصره مثل إمرأة حامل، هنّ بعض وجلّ ما يعاني منه الإنسان الشرقي الذي يحجز منذ أمدٍ بعيد مقعد الإحتياط في الحياة، ويعيش الموت جلّه قبل آوانه.
الدول الغربية وخصوصاً الأوروبية، لا تتمتع بالثروات الطبيعية كما الدول الشرقية تتمتع بها، ولا تملك بيئة لطيفة مثلما تملكها دولنا الغارقة في البؤس.


الدول الشمالية الأوروبية، تعاني حتى من نظام أوقات الليل والنهار. فلا ليلهم ليل ولا نهارهم نهار. ناهيك عن هطول ثلوج كثيفة فوق شعوبها، والتي تحوّل الحياة إلى برد شديد على الدوام.
كما أن الأعاصير والفيضانات، تضرب سواحل أميركا وأستراليا، بين فينة وأخرى.
ولكن الإنجاز والتقدم والإبداع، مستمرٌ ولم يتوقف يوماً!

أستراليا لم تستخدم بعد ثروتها النفطية في باطن الأرض، كما الحال مع أميركا التي تستخدم كمية بسيطة من إحتياطها النفطي.
لكن مع ذلك أنشأت هذه الدول حياة كريمة وحرّة لمواطنيها، ويتمتع الفرد في ظل أنظمتها بأعلى معدلات الدخل في العالم.
هذا الكرم والعطاء ليسا مرفقين بالمنن والتكبر والأبهة، من جانب الحكّام في وجوه مواطنيهم. لذلك فالمواطنون الغربييون لا يخافون حكّامهم وسلطاتهم، ولا هم يرفعون أسمى آيات الشكر والمديح لحكّامهم، ولا هم يخافون مواكبهم إن مرقت بالشوارع والطرقات. وما ينعمون به يعتبرونه حقاً شرعياً لهم، وليس هبة من الحكومة أو الأحزاب.


حكّام الغرب بسطاء مع شعوبهم ولطفاء. لكن والحق يقال، أصحاب عزّة نفس عظيمة، وجلال وهيبة، قبالة الأجانب من الأصدقاء والخصوم. لقد ربّوا على الحرية، والإعتماد على النفس، وعدم مخافة الآخرين.
أما حكّامنا فهم كالبرق، كالضرغام، كالفارس المغوار، كالفيل المرعب، كالموت والخوف أمامنا نحن، المواطنين البسطاء المساكين.
في طلّتهم يشبهون أبطال الأفلام، حيث موكب مهيب، وحرّاس ذوي الطقوم والنظارات السوداء، لا يتجرأ مواطن من الدنو والإقتراب!

لقد أنزلوا الشعوب منزلة العجماوات، لا حق لها في الحرية وحق العيش الرغيد، والتمتع بثروات أوطانها، دعك عن المسائلة والمحاسبة، فتلك قسمة ضيزى في مراتبهم، ليس للمواطنين فيها حساب، وهي من الجذر إلى الجذع من أملاك خزائن حكّامنا الأبديين في العرش.


ودولنا تُحلب بشراسة، ويُستخرج خيرها ونفطها دون رحمة، لكننا نعاني الجوع وشحّ الضوء، وندرة الخير، وقلّة الحظ!
ما إن يلتقي زعيمٌ من زعمائنا، بمسئول أو زعيمٍ غربي، حتى كأنّ اللقاء واقعٌ بين درويشٍ ذليل أمام شيخه المطاع!
بل والصورة أكثر خجلاً، إذا ما كان أحدنا يعير المشهد طرفاً بسيطاً من الملاحظة. فأغلب المشاهد التي يظهر فيها زعماء الشرق أمام زعماء الغرب، يشبه حضور القطة أمام الأسد!


المسئول الغربي يجلس مرتاحاً بسيطاً يضع رجله على الأخرى، فيما تعتري المسئول الشرقي نوبات ضغط وهلع، وكأنه يعاني من مغص في الأمعاء، وينزل الخجل والإحراج على جداول وجهه، كما مراهقٌ خجول يجلس قبالة رجلٍ رشيد ذي أبّهة وجلال!
الزعيم أو المسئول الغربي إن زاد في جعبته درهم، جرّته محكمة الدولة إلى قفص الإتهام والمسائلة. أما زعماؤنا، فمع أنهم يفرّغون خزانة الدولة على هواهم، حتى تمتلئ جعبتهم أكثر من وزنها وحملها، لكنهم لن يرضوا بسكوتنا عن ذلك فحسب، بل يريدون منّا أن نهتف بألقابهم ونمدح إنتفاخ صولتهم، وهم يذيقوننا ألوان العذاب والمذلّة!


ومما يزهدنا نحن الشرقيين في بلادنا، هو حقاً تلك الألقاب والأسماء الفخمة للزعماء والممالك، فيما بلادنا تتحول في ضفة منها إلى خرائب نلطم باليأس فيها أرواحنا، وفي الأخرى أراضي مملوكة للزعماء يحرثون فيها، فيقطفون الثمار ويدعونها في خزائن الأجنبي، في حسابات يختمونها بأسمائهم، تكهناً بنائبات الزمن وعوائده البئيسة، فليكن للأهل والأبناء ما يرفههم إن ضاع الملك والخراج.
وعلى هذا تُترك ميادين الحياة للفوضى والتخلف والدمار، يدور فيهن الإنسان الشرقي كالقطب، بل وكالحبوب بين فكي الرحى!
لذلك فالطب الصحيح هو ذلك الذي يقوم في الغرب. والهندسة الراقية هي الموضوعة في رقعة الغرب. والإقتصاد المزدهر هو ذاك الذي دنت ثماره على رؤوس الغربيين أجمع، دون فرق بين زعيم وعامل بسيط.


الدراسة المتطورة التي تتوسع، وتحقق الإنجاز والإكتشاف، هي تلك التي أرست قواعدها في بلاد الغربيين.
لذلك كلّه، وغيره كثير أصبح الغرب في مخيلتنا نحن، الجنّة الموعودة التي إن وصلنا إليها أذلاء خاشعين منيبين للتمتع بنعيمها، حتى كان ذلك خلاصاً لنا، من لعنة جهنم بلادنا وزبانيتها!


الغرب غربٌ يا صاحبي، جيشٌ وعتادٌ وعدةٌ لا تُستعمل إلا للأجانب الغرباء، بعيداً جداً من البلاد، في حملة جهاد مستمرة عبر السفن والجيوش التي ترابط بلاد الشرق، وتحيط بها من كلّ جانب. وإذا كان الإسلام يحث المسلمين على المبادرة بالجهاد ضد الأعداء الذين يلونهم، ليجدوا فيهم غلظة، كيما يبدوا لهم منعهم من شرّهم ومكيدتهم، فإن الغرب هو الذي يطبق هذه الوصية بدقة فوقانية عظيمة.
فها هي جيوش أميركا ومعها دول الغرب، تنتشر في بلادنا وتضع وتشيل من حكّامنا الهرر، وتضع موازين الحياة، ومنها أسعار البترول وتصانيف الأسماء والألقاب للموالين والمعارضين: هذا ديموقراطي ولطيف، وذاك إرهابي وسخيف!


ويخيفوننا بقوتهم المطهمة والباسلة، ويعرضون في إعلامهم، لشعوبهم، أنهم جاءوا إلينا لتخليصنا من الشرّ والظلم والفقر!
هكذا يتصرف الغرب في شؤوننا، ولهم الحق!، فهم في بلادهم أحرص على مصالح الجميع، في نظام راق أين منه ظلم وذلّة أنظمتنا المنحطة؟!


المثقف الغربي عزيز النفس، لا يدنو من السلطة والأحزاب ليوظف إمكاناته ليزيّنهما بهالات التقديس، وبرقع الإطراء، بالرغم من توفير جميع الخدمات له في طريق بحثه وإبداعه من قبل حكومته.
في تسعينيات القرن الماضي، كنت أتردد على مكتبة المتحف الألماني في بيروت، والتي تعج بألوف الكتب القديمة والنادرة، في التراث العربي والإسلامي والشرقي.


التقيت هناك يومياً بشباب ألمان دون سن الخامسة والعشرين، من ذوي الأعين الزرق والشعر الأشقر يتقنون العربية أفضل من العرب، ويسبحون في كدّ وتعب داخل كتب التراث الشرقي، ويحضرون البحوث تلو البحوث لدرجة الماجستير والدكتوراه!
كان واحدهم يحصل ما لا يقلّ عن مائة وخمسين ألف دولار سنوياً، فضلاً عن مصاريف إضافية، في رحلة الدراسة.
أما أنا وإثنين من أصدقائي لم نقدر من مواصلة الدراسة في أرخص جامعة هناك، الجامعة اللبنانية، بالرغم من عشقنا للدراسة، التي كان علينا دفع مائتي دولار سنويّاً لرسومها، فضلاً عن مائتي دولار لشراء الكتب، لأن ما كنّا نكسبه من أشغالنا الصعبة، كان يكفي بالكاد لتوفير السكن والطعام!


هؤلاء الألمان وأمثالهم هم الذين يتحولون إلى مراجع للمثقفين الشرقيين، في بحوثهم ودراساتهم في التأريخ والتراث الشرقي!، ويسمّون بالمستشرقين!

كنا هكذا قبل قرون خلت أيام الخلافة العبّاسية في بغداد، والأمارة ومن ثم الخلافة الأموية في الأندلس. في تلك الأيام كان الغربي يحلم بالوفود على بغداد وقرطبة، كما نحلم نحن اليوم، بالوصول إلى عواصمهم المكسوة بالأمن والخير والعطاء.

الشرقي في بلاد الغرب يشعر بالنقص والخجل، لأنه يُنظر إليه نظرة دونية غير رسمية، يشعر بها الشرقييون بوضوح!
لكن الغربي في بلاد الشرق مرفوع الرأس، مزهوّ كأنه ملكٌ فاتح، يبجّل ويقدّر أينما ذهب، وكأن أهل البلاد عبيد وخدم مخصّصون له!
إنها عزّة. عزّة القوة والجهاد، وإحترام الذات والإخلاص للوطن والشعب، والتمتع بالعدالة، والوحدة تحت راية قادة أذلّة على شعوبهم، أعزّة على الأجانب ومنهم الشرقيين!
إنهم رحماء بينهم أشداء على أعدائهم!
أما الشرقييون فأشداء على بعضهم البعض، ورحماء وأذلّاء أمام غيرهم، ومنضَون تحت رايات قادة جبناء أذلاء جشعين، همّهم الأكبر حاجات وشهوات أجسادهم!

هذا شأن الخاسرين، وذاك شأن المنتصرين!

علي سيريني

[email protected]