إقبال الغربي من تونس: البروفسورة آمال قرامي لا تزال تتحفنا بدراسات قيّمة تتداخل فيها الطرافة في اختيار المواضيع المنتقاة بالروح النقدية، بالصرامة الاكادمية و الجهد العلمي الصبور و المتين. فبعد كتابها الفريد إلى الآن quot; قضية الردّة في الفكر الإسلامي الحديثquot; (دار الجنوب، تونس 1996)، و كتابها quot;الإسلام الآسيويquot;(دار الطليعة، بيروت،2006) تضع اليوم آمال القرامي بين أيدينا دراسة ضخمة وثرية في 998 صفحة حول الاختلاف الجندري في الثقافة العربية الإسلامية، وهي على حد علمنا، أول أطروحة دكتورة دولة حول quot;الجندرquot; Gendre في الثقافة العربية أعدت تحت إشراف أستاذ الأجيال:الأستاذ عبد المجيد الشرفي. صدر الكتاب في بيروت عن دار المدار الإسلامي، 2007.
يعالج هذا الكتاب مختلف الخصائص المكوّنة للأنوثة و الذكورة المترسبة في ذاكرتنا الجمعية من خلال تعقّب النصوص التراثية و مساءلتها بكل إحكام و دقة. و قد أرست الكاتبة منهجيات جديدة عديدة و متكاملة. فقد اعتمدت منهجيات الدراسات النسوية التي ترتكز على براديغم [أي بكل اختصار رؤى جديدة للأشياء و الظواهر ]النظام الأبوي والتمييز الجندري و تقنيات التفكيك التي تبحث في تركيب السلطة و صور تشكلها و تنوع شبكاتها و أبعادها و ذلك لكسر إيديولوجيتها كما استخدمت الباحثة ببراعة مجلوبات علوم الحداثة مثل الانثروبولوجيا و التحليل النفسي لاستنطاق النصوص و الوثائق و تأويلها و كشف المسكوت عنه فيها. و قد مكنتنا آمال قرامي من خلال هذا التحليل الضخم من وضع الموروث موضع السؤال الابستمولوجي، أي تفكيكه و اكتشاف ترميزه و دراسة مضامينه من خلال شعره و فقهه و أدبه، وطبه،... بجرأة و موسوعية مجسدة قيم حرية و رحابة البحث الجامعي. و من نافلة القول إن بلوغ هذه المقاصد تطلب منها الإنصات إلى الأصوات الثاوية في غضون النصوص القديمة لتجاوز كل البداهات الخادعة و اليقينات العمياء و التبسيطات الساذجة.
لقد عالجت الكاتبة ظاهرة الاختلاف في الحضارة العربية الإسلامية من زاوية الاختلاف بين الجنسين محاولة تفكيك هيكلتها و خلفياتها الفقهية و الإيديولوجية للتوصل إلى فهم المنطق الضمني الذي خضعت له هذه الظاهرة في ابرز تجلياتها. إذ إن مظاهر الاختلاف تبدو مستقلة و منفصلة عن بعضها البعض بجدار صيني و لكنها في الحقيقة متصلة، بل إنها في كثير من الحالات تخضع للمنطق نفسه و تتحكم فيها الآليات السوسيونفسية نفسها لتنتج المواقف المتشابهة بل المتماثلة ضمن شبكات سلطوية تنسج علاقات القوة و الاستغلال بين الطبقات و الفئات. فالمجتمع ينطلق من معيار الهوية الجنسية كمغالطة تأسيسية و تضليلية ليثبت علامات الفصل بين الحاكم و الرعية، بين الخاصة و العامة، بين الحر و العبد، بين السوي و الشاذ، بين الرجال و النساء، و بين الكهول و الأطفال الخ... حيث تتخفى أحكام القيمة و الأحكام المسبقة مثلا فنجد التسلّط و الخضوع والاستعلاء و الاستنقاص و الاعتراف و التهميش و التعالي و الدونية و الهيمنة و الاحتقار.
كانت مقاربة آمال قرامي عقلانية و جدلية بامتياز تبحث في فوضى الاختلاف عن خيطه الناظم. فقد خصصت الباب الأول لتقصي مظاهر الاختلاف بين الجنسين في مرحلة الطفولة فبيّنت أنّ الهوية الجندرية ليست ثابتة بالولادة ndash; ذكر أو أنثى- بل هي صناعة بشرية تؤثر فيها العوامل النفسية و الاجتماعية التي تشكّل نواة الهوية الجنسية. فالاختلاف بين الجنسين إذن لا يتعلّق بالخصائص البيولوجية المتصلة بالجنس و إنّما هو حصيلة ممارسات اجتماعية وثقافية. و في هذا السياق ليس للفرد حرية اختيار شخصيته و صياغتها وتحديد نمط سلوكها، بل هو مجبر على إتباع المعايير والتعابير السائدة. وهذا التشكيل الثقافي الاجتماعي للهوية الجنسية هو ما نطلق عليه عبارة quot;الجندرquot;. و في الباب الثاني درست الكاتبة مسارات بناء الأنوثة و الذكورة في مجال تدبير الجسد و هندسة الفضاء خلال فترة البلوغ. أما الباب الثالث الذي تمحور حول الشباب و الاكتهال فقد اهتمت فيه بضبط العلامات الدالة على الهوية الجندرية و حرصت على إبراز كيفية تحكم المجتمع بالأدوار و الوظائف و العلاقات بين الجنسين عبر ضبط طقوس التبدئة [أي تدريب الأطفال على العبور من طور الطفولة إلى طور الكهولة ]و تقنين الهيئة و اللباس و الزينة و آليات الردع للوقاية من عدم انتظام النظام الجنسي في القوالب الاجتماعية المألوفة.
كما عملت آمال على تعرية ممارسات التحريم و أعراف التجريم التي تتخفى وراء مسلمة القوانين الطبيعية و السنن الفطرية لتهميش الجنس الثالث الغريب و إقصائه ; فتطرقت إلى وضع المترجلة و الغلامية و المخنث و اللوطي و المساحقة و الخصي و الخنثى. فكشفت من خلال هذه النماذج التخوميية، التي تقف على تخوم الأنواع المتعارف عليها عرفا و عادة و تجسد التعدد و الالتباس، لتؤكد على منظومة الحجب و الكشف و الظهور و التخفي التي اخترقت مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
برهنت آمال في الباب الرابع و الأخير أن عملية تشكيل الفرد تتواصل رغم بلوغه الشيخوخة فوجهت عنايتها إلى تشريح جنسانية الشيخ و جنسانية العجوز و وصف تعهد جسد المسن و جسد المسنة كما رصدت علاقة الشيخ بعجوزه و بالزوجة الشابة و بالغواني وتناولت أيضا أزمة الفحولة في هذه الحقبة العمرية.
و ترى آمال قرامي أن سلطة الضبط تنتج خطابا خاصا يحدد المسافات و يضبط الحدود و يرسم صورة للعالم ثابتة لا خلاف عليها يكون فيه الكل مرتبا و مصنفا حسب نظام الثنائيات المتضادة، ذكر-أنثى مثلا و يستند إلى نصوص متعددة منها الديني و الميثي[أي الأسطوري] و الأخلاقي و غيرها. و تؤكد لنا الكاتبة أن خطاب الاختلاف ليس بريئا فهو يولد الفوارق و ينتج الامتيازات. ولهذا الخطاب التقليدي امتدادات خطرة في حاضرنا اليوم. فكيف يمكن للرجل أن يعترف بغيرية المرأة و كيف يمكن للمسلم أن يقر بغيرية 'غير المسلم' و كيف يمكننا أن نقارب الإنساني على نحو يتجاوز المنطق الثنائي الذي لا يعترف بالتعدد والتنوع و التفرد أي الخروج عن المألوف و يكرس صرامة الحدود بين الذكورة و الأنوثة، الغنى و الفقر، الخاصة و العامة و غيرها من التصنيفات التي تضع مسافة بين الأنا و الآخر، المماثل و المغاير فتصنع ثقافة الإقصاء والكراهية و التصفية المادية و الرمزية. فذاكرتنا الجمعية و تصوراتنا الثقافية ليست بريئة فهي نظام تأويل و ليست نظام تفسير،علما أن التأويل هو إسقاط الملاحظ رؤياه و تخيلاته الخاصة على الموضوع سواء كان نصا أو حيا، أما التفسير فهو توضيح لحقائق. إذن التأويل هو الذي يحكم علاقتنا بالآخر و يوجه و يقنن السلوكيات و الاتصالات الاجتماعية. و تعمل هذه التصورات كترسانة ضوابط و كنظام معرفي بتداخلاته الوجدانية و الاجتماعية لفهم العالم و التحرك فيه. فهي رأسمال رمزي يعيد إنتاج الأنساق المراتبية و يشرع كل أنواع التمييز و يبررها و خاصة يجعل الضحية تستبطن رأي الجلاد فيها، كحال المرأة التي يوهمها جلادوها من الإسلاميين بان دونيتها هي من صنع الطبيعة أي التركيب البيولوجي. و حال أنها من صنع التاريخ أي الثقافة التي تشربتها في الأسرة و المدرسة و في كل خبايا و زوايا المجتمع ألبطريقي القائم على سيطرة الكبير على الصغير و السيد على العبد و رب العمل على العامل و الذكر على الأنثى. و لفريدريك انجلس ملاحظة وجيهة بهذا الخصوص quot;حتى العامل يلعب مع زوجته دور رب العمل مع العامل quot;.
ورطتنا آمال قرامي بكل لطف وتشويق من خلال كشفها عن المسكوت عنه في الممارسات اللامرئية التي تعودنا دائما إخفاءها و كتمانها في دفع الثمن المضني مع كونه الوحيد الفعال للارتقاء إلى مستويات المسؤولية و النضج النفسي و الفكري، أي تحمل أعباء التعرف النقدي إلى تراثنا الديني من خلال تفكيك أساطيره و رموزه و دلالاته كشرط للتصالح الرمزي معه و مصالحته مع قيم عصرنا الكونية قيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و الاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضد المرأة و الاتفاقية الدولية لحماية حقوق الأقليات و مدونة احترام حقوق الطفل الأممية.... المهددة جميعا في ثقافتنا العربية الإسلامية التي تكاد تكون الوحيدة الخارجة على القانون الأخلاقي و الوضعي في حقبتنا.
إنّ هذا الكتاب الذي استغرق إنجازه سنوات عديدة، يعبّر عن جرأة صاحبته ومدى قدرتها على استقراء كتب التراث وتحليلها وفق أحدث المنهجيات كما أنه يقدم إضافة مهمة إلى المكتبة العربية ويعد مرجعا أساسيا في دراسة فكر الاختلاف.

كاتبة المقالأستاذة علم النفس والانثروبولوجيا بجامعة الزيتونة.