يبدو أن هناك من لا يقرأ! ..

بقلم أمجد ناصر

إرضاء الناس غاية لا تدرك! هذا ما يعلمنا إياه القول المأثور. وتتبدى صعوية الإرضاء أكثر مما تتبدى في عمل قائم على الاختيار، وفي اختيار محكوم بمرحلة وبمرحلة ملزمة بحيِّز. من طبيعة الاختيار أن يختار، لا أن يلمَّ ويجمع، وأن ينحو في اتجاه لا أن يسير في كل الاتجاهات، وأن لا يخلو، كأي عمل انساني، من الزلل والثغرات. لم تصدر مختارات أدبية في بلد، أو عن بلد، وأرضت جميع أدبائه. هذا لم يحصل لأي مختارات قرأتها أو سمعت عنها. سيكون هناك دائما من يحتجّ، من لا يرضى، وسيكون لبعض هذا الاحتجاج وعدم الرضا وجاهة. ليست كلماتي هذه بلا مناسبة. إنها رد مباشر على احتجاج كُتِبَ هنا أو قيل هناك، عن مختارات الشعر الفلسطيني والأردني التي امتحنّا، فخري صالح وأنا، في تقديمها واختيارها في إطار مشروع كتاب في جريدة . أقول امتحنا ، لأن عملا كهذا يحفّه، دائما، عدم رضا بعضهم، تحكمه ذائقة الذين اختاروا، ومحكوم عليه، قبل هذا وذاك، بالقصور.
كُتِبَ في الصحافة الفلسطينية أنني رجّحتُ كفة الأردن على كفة فلسطين، وكُتِبَ في الصحافة الأردنية ( الرأي الغراء تحديدا) انني حشرت أنفي في ما لا أعلم!
ولكن يحدث أن الذين كتبوا مثل هذا الكلام، المرسل على عواهنه، لم يقرأوا مقدمة المختارات، وإن قرأوا ضربوا صفحا عما قرأوه، ونطقوا بما يعتمل في دواخلهم لا بما هو مسطر، على نحو لا لبس فيه، في التقديم. فقد قلنا في مقدمة المختارات، فخري صالح وأنا، إننا لن ندرج الاسماء التي أدرجها الشاعر الفلسطيني زكريا محمد في مختاراته للشعر الفلسطيني، واننا سنحاول تركيز الاختيار على الأصوات التي جاءت بعد الجيل السبعيني في كل من فلسطين والأردن.
كتب نضال القاسم في الرأي قبل أيام، محتجّاً على المختارات وعدّها غير ممثلة للشعر في الأردن، معددا، في الوقت نفسه، اسماء الشعراء الذين يعدّ عدم وجودهم في المختارات دليلا على ضعف التمثيل الاردني من دون أن يكلف نفسه عناء الرجوع الى مختارات زكريا محمد. فقد ادرج زكريا في مختاراته الفلسطينية معظم أسماء الشعراء الذين ذكرهم نضال القاسم وبعض من لم يذكرهم مثل: ابراهيم نصر الله، طاهر رياض، زهير أبو شايب، علي العامري، يوسف عبد العزيز، جهاد هديب، يوسف أبو لوز، محمد لافي، عمر شبانة، خيري منصور، وليد سيف، محمد القيسي، عز الدين المناصرة، إلى جانب شعراء فلسطين في الضفة وغزة وبعض الشتات.
عدم ادراج نصوص لهؤلاء الشعراء لا يعني اسقاطهم من المدونة الشعرية الأردنية-الفلسطينية، وانما عائد، أساسا، الى محاولتنا افساح المجال لمن لم يرد ذكرهم في مختارات زكريا محمد، وتركيز بؤرة الاختيار على أسماء من الجيل التالي عليهم. من يستطيع، أصلا، انكار شعرية تلك الأسماء الراسخة في مدونتنا الشعرية؟
لا أحد.
دعونا إذن من الاصطياد في الماء العكر. دعونا من هذا التأليب المكشوف. فالمسألة واضحة ولا تحتاج إلى بيان لولا أن القاسم لم يحسن حتى قراءة مقدمة المختارات.

***
عندما نقول مختارات فنحن نتحدث عن بعض وليس عن كل. المعجم هو الذي يُعنى بالكل وليس المختارات، ونحن لم نقدم معجما للشعر الاردني والفلسطيني. فليس على مختارات من الشعر الأردني أن تضم كل الشعراء الأردنيين بصرف النظر عن قيمة أعمالهم الفنية، هذا فضلا، عن كون الاختيار يتعلق بمرحلة شعرية وجيل، وليس مفتوحا على الزمن والمراحل والأجيال. هل يطعن القاسم في شعرية الشعراء/ الشاعرات الذين/ اللواتي ضمتهم المختارات؟ ألا تمتلك معظم الاسماء المذكورة القدرة على تمثيل مشهد شعري، ولا أقول اختصاره؟

***
أعود إلى النقطة التي عدّها القاسم تثلب قدرتي على الاختيار: إقامتي في الخارج! لن أعلق على سخريته من كوني أقيم في لندن، ولكن سأعيد تذكيره بما أفعل في لندن. فهو يعرف انني اشرف على القسم الثقافي في صحيفة القدس العربي التي تصدر في لندن، ولا أعمل في الغارديان أو الديلي تلغراف . هذا يعني أنني لست مستشرقا ولا منبتّ الجذور. فعدم وجودي، جسديا، في عمّان، لا يعني، في حال من الأحوال، انقطاع صلتي بالوضع الثقافي العربي، وفي صدارته، المشهد الشعري العربي عموما والأردني على نحو خاص. عملي يقتضي مني أن أعرف، إلى درجة أنني أعرف نضال القاسم نفسه!
فلم أحشر نفسي، والحال، في ما لا أعلم، وما لا صلة لي به. فأصل عملي أن أعلم ما يجري في المشهد الشعري العربي، ناهيك عن ضرورة علمي بما يحدث في مشهد بلادي الشعري، ما يستجد فيه من اسماء، واقتراحات، وما يعرفه من أجيال واتجاهات.
ولكن هذا العلم لا ينفي القصور، فالعلم محفوف بالقصور والخلل، ولا أزعم أن ما فعلناه، فخري صالح وأنا، تحلى بالكمال، فهناك أكثر من مشكلة واجهتنا، منها اننا نختار من شعرية بلدين، على ما بين البلدين من تداخل، وليس من ساحة شعرية واحدة، واننا محكومون بحيِّز محدود من الصفحات (أقل من ثلاثين صفحة). فقد كان بودي أن تضم المختارات، إلى من ضمتهم، أسماء جديرة بالاختيار من الضفة وقطاع غزة. وقد أرسلت فعلا نصوصا لتلك الأسماء ولكنها لم تظهر، للأسف، في المختارات.
يعلم غسان زقطان وزياد خداش ونصر جميل شعث، الذين ساعدوني في الوصول الى نصوص شاعرات وشعراء من الضفة والقطاع، انني معجب بتلك التجارب وأراهن، شعريا، عليها، وقد أحزنني أن معظم تلك النصوص الرائعة لم تدرج في المختارات المذكورة.
ان عدم وجود اسماء جديرة بالتواجد في قلب تلك المختارات، وليس على هامشها، لا يعني عدم جدارتها الفنية بحال من الأحوال، وانما يتعلق الأمر بوجود شريكين أنيطت بهما مهمة الاختيار ولكل واحد منهما ذائقة قد تختلف عن الثاني، والأهم، لأن الحيِّز المتاح أمامنا لم يكن كافيا لتمثيل الشعرية الشابة، والجديدة كذلك، لكل من فلسطين والأردن. ربما ما كان علينا، فخري صالح وأنا، أن نقبل حشر بلدين في مختارات واحدة، على رغم التواشج القائم بين الأردن وفلسطين على غير صعيد. لعله كان من الأفضل أن تظل للشعرية الفلسطينية، داخل حدود فلسطين التاريخية، مساحتها الخاصة بها، ليس لأسباب جمالية بحت، تتميز عما تنشغل به الشعرية العربية ككل من قضايا في الشكل والمقاربة الشعريين، ولكن من أجل إبقاء السؤال الفلسطيني، بوصفه سؤال هوية ووجود، حارّاً وحيّاً وقائماً بذاته في وجه الطمس والإمحاء.
فلكل الشاعرات/ الشعراء الجديرين/ الجديرات بالتواجد، حقا، في صدارة مختارات أكثر انسجاما مما حصل، أقول عذرا.
* شاعر وكاتب من الأردن يقيم في لندن