سامي دقاقي من المغرب: إنّ لي شأنا خاصّا مع الأدب العراقي (شعرا وقصّة ورواية)، ذلك أنني لا أمسك نفسي كلّما ألفيتني أمام quot; منجزquot; يتحدّر من تربة هذه القطر المكلوم مسافة تاريخ عميق، وهكذا عشت زمنا لا بأس به رفقة كلكامش وأنكيدو، وتجسست بما يكفي قلبي على أحاديث عشتار وتمّوز، وتغللت روحي بدم quot;الحسينquot;، ووشل quot;كربلاءquot;، واعتبقت بشذا الجواهري وشدوه، وهمس quot; مطرquot; السيّاب، وقرصني quot;جوعquot; نازك، وأحببت quot;عائشةquot; البياتي، وتلبستني غربة كلّ من فاضل العزّاوي، وعدنان الصايغ، وعبد الرحمن مجيد الربيعي، ومسّتني شياطين عبد القادر الجنابي، وغير هذا كثير، ليس آخره تقطيع هذا القطر الشقيق على وضم التناحرات الطائفيّة من جهة، وساديّة quot;الدراكولا الأمريكيquot; من جهة ثانية، دون استبعاد جهة ثالثة ورابعة وهلمّ عدّا.
لست أدري إلى حدود الساعة ما سرّ هذه العلاقة التي تجعلني أبحث أول ما أبحث، (وذلك حين تولّي بي رياح القراءة من الغرب إلى الشرق)، عن الأدب العراقي؟ هل هو حجم الأشجان والخسارات والصّراعات والأحداث والاغتيالات الجسام عموما التي عاشها هذا البلد منذ طفولة التاريخ؟ أم أنّ الأمر يتعلق quot; بصدقيّةquot; الكتاب العراقيين وإبداعيتهم العالية والعميقة؟ أم أنّه بكل بساطة حديث جراح تنكأ كلما آذنت بالبراء؟ أو ربّما هناك سرّ آخر لم تسعفني شياطيني ولا ملائكتي على كشفه بعد؟
مناسبة هكذا قول، هو خلوصي من قراءة ثلاثة تحف جميلة للكاتب والأديب العراقي عبد الستّار ناصر، ويتعلق الأمر بسيرته الذاتيّة الموجزة quot;حياتي في قصصيquot;، وكتابيه النقديّين quot;سوق السرايquot;، وquot; باب القشلةquot;، وهي كتابات عمّقت من حضوره في ذاكرتي على مستوى quot;النقد الإبداعيquot;، كما كان الأمر من قبل على مستوى القصّة و الرّواية، والتي اكتشفت مكنته ودربته فيهما(لاسيما القصة) من أول نصوصه المنشورة بمجلة quot;الموقف الأدبيquot; الدمشقيّة( أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي، وأعني قصص مثل quot;مساء الثلاثاءquot;، و quot; سيدنا الخليفةquot; وغيرها).
ما أبهرني حقا على مستوى إبداعيّة عبد الستّار ناصر في حقل القصّة تحديدا، هو أنّه استطاع أن يحتفر لنفسه أسلوبا فريدا، وشبيها به، وابتنى لهذا الأسلوب خصائص وتقنيّات ولغة هاجرت معه حتّى وهو يرتاد عوالم النقد والمقالة، هذا quot;السمتquot; الإبداعي الذي اختطّه ذات قصّة من سنة 1968، بعد عميق قراءة، واستغراف/ استغراق في معين الأدب العالمي، سيجعله ينضاف إلى حلقة الأدباء العراقيين الحقيقيّين الذين أنهضوا ذاكرتهم على إيقاع الحرائق والآلام، وعلى حساب حيواتهم الخاصّة بكثير أحزانها وقليل فرحها، وليس بإكراميّات quot;النظامquot; ونياشينه التي صادفت (عبر تاريخ من القمع واللاّحريّة) هوى عند أسماء رحلت، وأخرى باقية
( ولم يبق لها غير النكاية والتصحّر الإبداعي).
إنّ ما يهمّنا في هذه القراءة هو الوقوف على هذه الكتب الثلاثة التي ذكرت، وإعمال قليل quot; نقد محبّquot; في ذاكرة عبد الستّار ناصر، إيمانا منّا بأنّ النقد الإيجابي هو حبّ أيضا، بل هو الحبّ الحقيقي- على الأقل في حقول الكتابة والإبداع-، وليعذرني الكاتب إن أخطأت لغتي حينا، وزلّ قلمي حينا آخر، فالقلب صدوق والله، ولعلّ شفيعي في هذا المقام قول الفيلسوف الصيني quot;لاوتسوquot; في كتابه الخالد quot;الطّاوquot;: quot;الكلمات الصادقة ليس جميلة، والكلمات الجميلة ليست صادقةquot;، وقد اخترت الولوج إلى صلب الموضوع عبر ثلاث محطّات/ أثافٍ هي كالتالي:
الأثفية الأولى:
في كتابيه quot;سوق السرايquot; و quot;باب القشلةquot; أورد الكاتب أسماء مجموعة من المبدعين العرب، ووقف - انطلاقا من قراءاته واختياراته- على بعض من كتاباتهم، رغبة منه في إسكانهم إلى جوار أسماء غربية/ عالميّة يهيم بها كثيرا( كما سيتضح لاحقا من خلال تكرارها بشكل لافت)، وهو الأمر الذي أشار إليه بدهاء منذ المقدّمة، غير أنّ ما يمكن أن يؤاخذ عليه هنا هو تغييبه لأسماء عربية لها وزنها في حقل الإبداع والنقد خصوصا الدول الخليجيّة بالإضافة إلى بعض الأقطار العربية الأخرى ( يلاحظ أنه لم يتمّ التمثيل ولو باسم واحد وكأنّ هذه الأقطار لم تعرف الإبداع والمبدعين)، كما غابت أسماء مغاربية بنفس الصيغة( المغرب/ الجزائر/ تونس) لاسيما ونّها تشكل علامات فارقة تؤسّس لعمق الإبداع العربي.
فأنا شخصيّا لا أتوقّع البتة أن لا يكون عبد الستار ناصر قد قرأ - مثلا- لمحمد شكري، والذي أورد ذكره دون الإشارة أو الوقوف قليلا أو كثيرا على أحد أعماله، كما أنّ هناك أسماء لامعة أخرى لا ينكر المشرق برمته حضورها سواء داخل المغرب، أو تونس، أو الجزائر، أو ليبيا، أو موريتانيا، أو السودان، أفلا يستأهل بعض هذه الأسماء ولو إشارات تستجمعها ذاكرة الكاتب القرائيّة في إطار ما يمكن تسميته ب quot; ديموقراطيّة الكتابةquot;؟ خصوصا وأنّ الكاتب يشيد في أحد مقالاته (كتاب quot;باب القشلةquot;) بمؤلف الكاتبة اللبنانيّة quot; لنا عبد الرحمنquot; (شاطئ آخر) الذي استطاعت فيه تحقيق هذه الديموقراطيّة في الكتابة عن أسماء مشرقية متنوعة، وأخرى مغاربية متنوعة أيضا.
وأعود الآن إلى الأسماء المشرقيّة، والعراقية على وجه التحديد، لأسجّل على الكاتب تغييبه لأسماء لا يمكن تجاوزها بتلك السهولة، إلاّ لاعتبارات تمليها الاختلافات في المواقف السياسيّة والإيديولوجيّة وربّما الإبداعية أحيانا، وهي اعتبارات لا يليق بنا بتاتا إسقاطها على المناولة النقديّة/ الإبداعيّة، كما أنها لا تحجب قيد شعرة قيمة الإبداع ومفعوليّته، وهنا لا أفهم شخصيّا كيف تغيب عن ذاكرة كتابي عبد الستار ناصر أسماء من قبيل: يوسف الصائغ، وعبد الواحد عبد الرزاق، وغيرهم كثير؟ وهو الأمر الذي عابه الكاتب على كتّاب آخرين سقطوا
- سهوا أو عمدا- في بئر الانتقائيّة الفجّة والأهوائيّة، إذ استحضروا أسماء، وغيّبوا أخرى، أو أغمطوها حقها، خصوصا وأنّها أسماء لا يمكن تجاوزها، أو ابتسار حضورها، طالما أنّ لها دورا كبيرا في تأسيس المشهد الإبداعي العربي والتأصيل له كما اعترف الكاتب، من تمّ أجدني أهمس في قلبه مردّدا إحدى عناوين quot;باب القشلةquot;: أما كان يمكن إلاّ الذي كان يا عبد الستّار؟
الأثفية الثانية:
في مؤلفه quot; باب القشلةquot; يتناول عبد الستار ناصر إحدى مؤلفات العراقي المقيم بتونس عبد الرحمن مجيد الربيعي، ويتعلق الأمر بسيرته الأدبية quot;من ذاكرة تلك الأيّامquot;، ويأخذ عليه اكتفاؤه بالسباحة على شاطئ الحياة والتجربة عوض استغوار بحرquot; تلك الأيّامquot;، يقول عبد الستّار: quot; كنت أتمنى بحكم المحبّة والبدايات التي تجمعنا منذ أيّام الصبا لو أنّ عبد الرحمن مجيد الربيعي دخل البحر عميقا وهاج وماج بين أمواجه وتقلّباته، وأن لا يبقى عند رمال الشاطئ يحكي عن أسماء البحر وحيتانه التي لم يتمكّن من اصطيادهاquot; ص17، والكاتب بذلك يتقصّد quot;باطنquot; عبد الرحمن مجيد الربيعي، وسيرته quot;الجوانيّةquot;، أو quot;التحتانيّةquot;(كما سمّاها) بكلّ ما تحتجنه من أسرار وخفايا تأسّيا بما جاء في مذكّرات مبدعين كبار من عيار إدوارد سعيد وهرمان هسّه وبابلو نيرودا ورفائيل ألبرتي وماركيز وغيرهم طبعا.
أريد أن أوضّح هنا أنّ عبد الستار ناصر انزلق إلى نفس التسطيح الذي عابه على الربيعي، وقدّم لنا في كتابه quot;حياتي في قصصيquot; نفس الرؤية quot;البرّانيّةquot; أو quot;الفوقانيّةquot;( إذا جاز القياس) لما يشبه السيرة الذاتيّة، سواء في الجزء الذي يتحدّث فيه عن النساء، أو الجزء الذي يستعيد فيه حضور والده في حياته و/أو إبداعه، وهو الأمر الذي لا يتناسب مع ما أورده في مقدّمة كتابه، أو مقدّمة الأجزاء المقصودة، يقول: quot; وحده كتابي هذا دون بقيّة أعمالي من يكشف الجزء الخفيّ من حياتي وعائلتي وأصدقائي وحبيباتي ومن عاش معي، كما يفضح - دون خوف أو مواربة- ذلك الجانب السرّي البعيد من أخطائي وأسفاري وطفولتي وصباي وجرائمي الصغيرة والكبيرة، والكثير من حسناتي وعيوبي في وقت واحدquot; ص7.
أتساءل في هاته اللحظة، هل قرأ عبد الستار ناصر أعمال محمد شكري(لاسيما الخبز الحافي وزمن الأخطاء)، أو سيرة عبد القادر الجنابي(تربية عبد القادرالجنابي)، و ادريس الشرايبي( الماضي البسيط)، وفدوى طوقان ( رحلة جبليّة، رحلة صعبة)، ومذكرات بابلو نيرودا ( أشهد أنني عشت)، وهنري ميلر( مدار الجدي)، وغيرها، أكيد أنّه قرأها أو قرأ البعض منها، هل أبقى هؤلاء على شيء لم يذكروه؟ أنا لا أنتظر من الكاتب quot;التعريquot; أمام القارئ، وإنما أحاسبه انطلاقا ممّا أورده من كلام لم يحققه فعلا على صعيد الكتابة، (العديد من المقاطع والأحداث يلفّها الغموض، وتبدو مبتورة أو ناقصة)، وحرمنا بالتالي من تجارب ثرّة وذكريات قد تشكّل في وقت لاحق مرجعا سيريّا، ومتنا تاريخيّا وأدبيا يؤسّس للذاكرة الإبداعيّة الجمعيّة، وقد أشار الكاتب في هذا المعنى إلى استنقاذ ذاكرته وتجاربه عبرتحبيرها، إلاّ أنه - في تقديري- قد أسقط الكثير، وبقيت صورتنا ناقصة في العديد من المحطّات، لاسيما في تجاربه النسائيّة، وعلاقته بأبيه، ولعلّ في الحجم الذي يقتطعه هذان الجزآن من الكتاب خير دليل على ذلك(20 و18 صفحة من الحجم المتوسط). كما نسجّل أنّ مضامين هذه السيرة ما هي إلاّ ترجيعة لقصص عبد الستار ناصر، وقد أشار بنفسه إلى هذا الأمر، بحيث يسهل على المتلقي استشفاف هذا الأمر بمجرد الانتهاء من السيرة، بل إنّ القصص تعالت على السيرة بفنيّتها ومواربتها ومكائدها أحيانا، وبالتالي فالتحدّي الذي ينطرح أمام الكاتب في السيرة يضاعف ذلك الذي خاضه على مستوى القصّة، أي أنّ جرعات الجرأة والمكاشفة والصدق يجب أن تتكثف في السيرة حتى لا تظلّ مجرّد صدى للقصّة، وتركارا مبتذلا لا يحمل للمتلقي جديدا يذكر أو يستذكر.
ترى هل يخاف عبد الستار ناصر الاقتراب - أكثر- من نفسه؟ (كما سبق أن قال في حق الربيعي). أتمنى حقّا أن نقرأ quot;المستورquot; في حياة عبد الستار ناصر، ونغوص في quot;رغباته المتأخرةquot;، quot;مرة واحدة وإلى الأبدquot;، ف quot; زهرة واحدة لا تكفيquot; من
quot; أوراق رجل عاشقquot; اختار أن تكون quot; نساؤه من مطرquot;.
هذا أوّلا، أمّا ثانيا ونا لا أزال أجول في quot;باب القشلةquot; استوقفني مقال آخر للكاتب تحدّث فيه عن رواية quot;الأسلافquot; للشاعر العراقي المغترب فاضل العزّاوي، يقول عنه: quot; ما يؤخذ على رواية الأسلاف هو أنّ كاتبها أراد أن تكون (أطول) وأن تصبح صفحاتها أكثر ممّا (يجب)، لذلك جاءت عمليّة(الحشو) على عكس مما تشتهي السفن، حيث أنّ رياح زوائدها أخذت من الرواية حرفها ولم تضف إليها أيّ شيءquot; ص14. نفس الأمر يسري حرفيّا على مؤلّفquot; حياتي في قصصيquot; لناصر، إذ إنّه يشكو من سمنة زائدة لم تفعل غير جعله مترهّلا في كثير من أجزائه، ولعل في المقطع الذي أسماه quot;الخاتمةquot; ما يؤشر على ذلك، إذ يتحدث فيه عن quot;دروس الحربquot; ممّا يجعله تتمّة صالحة للمقطع المعنون ب quot;ربّما كان الأمر هكذاquot;، وبالتالي تفادي صفحات لا طائل من ورائها غير فنيّة الأسلوب وبراعة الصورة.
كما أنّ تكرار بعض المعلومات والأخبار يمطّط الكتاب ويجعله (كتابا بالإجبار) على ما أعتقد، وقد حدث هذا بوضوح في كتابيهquot;باب القشلةquot; وquot;سوق السرايquot;، إذ أنّ معلومة من قبيل اعتقال المؤلّف بسبب قصّة قصيرة اسمها quot;سيدنا الخليفةquot; نشرت في مجلة الموقف الأدبي تتكرّر أكثر من خمس مرات في الكتاب بشكل أو بآخر حتى غدت لازمة مملة ومستثقلة، وغيرها كثير في المؤلفات الثلاث إجمالا، وها عبد الستار ناصر يقول عن (الأسلاف): quot; فما نحتاج إلى مثل هذا الحشو الفائض حتى تصبح الرواية 352صفحة، وماذا لو حذفنا اثنين وخمسين صفحة مثلا؟ أما ترى كيف يفعل النحّات بقالب الطّين، وكيف أنه يحفر فيه مئات الساعات ويرمي منه عشرات الكيلوغرامات حتى تصبح المنحوتة صالحة للإعجاب بها؟quot; ص15.
ألم يكن الأمر مثل ما ذكر لو أنّ ناصر قدّم لنا مؤلفا واحدا (منحوتا) بشكل جميل ومفيد عوض الاستكثار من الإصدارات على حساب المحتوى؟ يقول دائما عن فاضل العزاوي: quot; أمّا عن رغبته في زيادة صفحات (الأسلاف) فعمليّة مكشوفة للقارئ حين يرى بنفسه عدم الحاجة إلى ذكر عشرات الأسماء ومئات التشعبات، إذ تعمّدت هنا ذكر بعض ما جاء على أسمائهم أمثال كارل ماركس، ميلان كونديرا، فريد الأطرش، نيتشه، نابوليون بونابرت، أم كلثوم، حافظ الشيرازيquot; ص14.
ألم يفعل عبد الستار ناصر ذلك، ونحن نرى على طول الكتب الثلاث (لاسيما باب القشلة وسوق السراي) أسماء بعينها تتردد كنغمة ميلودرامية، حتى بات القارئ يتوقعها بين كلّ عنوان وآخر؟ فكم لاحظت ورود أسماء من قبيل سارتر، كونديرا، هرمان هسّه، الأب غابرييل غارسيا ماركيز،سيمنون، فوكنر، غونتغراس وغيرهم كثير؟ ماهي بالضبط ضرورة حضور كل هذه الأسماء وتكرارها بين المقالة والأخرى؟ ولنفترض أنّ هذه المقالات قد كتبت على فترات متباعدة نسبيّا في الزمن، ألم يكن من الأجدى - حين فكّر الكاتب بجمعها- إعادة الاشتغال عليها وتنقيحها ومن ثمّ الاستغناء عمّا استحشاها من أجل ذاكرة حقيقيّة وليس فقط من أجل رقم ينضاف إلى عدد الإصدارات؟ وقد سجلت كيف أنّه عاب داخل أحد الكتب المذكورة على بعض المؤلفين عدم اشتغالهم على المقالات قبيل التفكير في جمعها وطبعها في كتاب مستقلّ.
أعتقد أنّ قمح عبد الستار ناصر يخالطه غير قليل من الزؤان، وأجدني مضطرّا لاستعارة كلماته وتذكيره quot; بما يفعله النحات بقالب الطينquot;.
ثالثة الأثافي:
في هذه المحطّة الأخيرة ارتأيت أن أقف على صورة المرأة في كتب عبد الستّار ناصر المعنية بهذه القراءة، وعلى رأسها موجز سيرته quot;حياتي في قصصيquot;.
وهي صورة تفضح quot;سي السيّدquot; المتواري في إهاب الكاتب، صورة شرقية من الغلالة حتى الغليل. ففي كتابه quot;سوق السرايquot; يتحدّث عن ملامح علاقة جمعته بالأديب غالب هلسا ويقول: quot; لذلك أجهزت على أيّ حكم يمكن أن يراوده في رؤيتها ثانية، لئلاّ ينزلق إلى حبّ امرأة ما كان يعرف حتى تلك الساعة أنها ليست سوى راقصة غجريّة، وما كانت تعرف حتى القراءة أو الكتابة إلاّ في حدود ضيقة جدّا، وأنها بالتالي مجرّد فتاة للمتعة المشتراة، كنت أشفق على غالب هلسا من التعلق بهاquot; ص258.
لست أدري لماذا استبشعت هذه الكلمات، واستبعدت أن تكون من بنات كلام عبد الستار ناصر، إذ كيف ينظر إنسان مفروض أنّه مثقف إلى المرأة بما هي عليه، وليس بquot;ماهيّتهاquot;؟ لأوّل مرّة أحسست أنّ البون شاسع بين الكاتب الغربي والكاتب الشرقي، وأستحضر هنا تمثّل غابرييل غارسيا ماركيز(أو الأب كما يحلو لناصر أن يسمّيه) للمرأة (مهما كانت)، وكيف تعامل هذا quot;الأبquot; مع عاهراته وخصوصا واحدة منهن تنطبق عليها ما قاله ناصر عن فتاة هلسا، معتبرا إيّاها quot;إنساناquot; قبل أن تكون quot;صفةquot; أو quot;مهنةquot; (1)، بينما كتّابنا ينظرون إلى هاته quot;الكائنات المهمشةquot; على أنها إحدى متعلقاتهم، وquot;فتحاquot; ينضاف إلى سيرهم، يقول عبد الستار ناصر: quot; كنت أريد التباهي بما أملك من نساء حسناوات لمنني لم أسمح لنفسي أبدا زجّ إنسان مبدع في عشق امرأة ما كانت تستحقه مطلقاquot; ص258 ( يقصد غالب هلسا). ترى هل كان ناصر يخاف على غالب هلسا حقا أم كان يخاف منه؟ أي كان يخشى على quot;شهرياريّتهquot; التي تجعل إحدى النساء تنفلت من سوقه إلى سوق شهريار آخر ربما؟
هذا غيض من فيض الصور الأمثلة التي غيّبت الصورة الحقيقيّة للمرأة، وجعلت النساء في حياة الكاتب مجرّد quot;توابعquot;، و quot;زوائدquot; يتخلص منهنّ مثل غبار المحطة فور استرجاله من قطار التجربة، حتى أنّ مجرد النظر إليهنّ قد يصبح عبئا أكبر من عبء معرفتهنّ في كثير من الأحيان.
المرأة ذاتها التي سوف تكون quot;أمّquot; الكاتب وسنعلم على لسانه أن اسمها كان هو quot;حفيظة فارسquot;، لم تستطع أن تستدرّ منه ول جزءا مبتسرا ينضاف إلى موجز سيرته باعتبارها قد أثرت - بشكل أو بآخر- في مسيرته الحياتيّة والإبداعيّة، ليضيف بذلك جريمة أخرى إلى جريمة والده في quot;استبضاعquot; المرأة وquot;تشييئهاquot;، فالكاتب يستنكف عن ذكرها بشكل يليق بها كامرأة، وكأم تاليا، فلا يعرف غير أنّ اسمها quot;حفيظة فارسquot;، وأن والده كان يشتري لها هديّة بمناسبة نجاح عبد الستار في دراسته، ويشير إلى أنّ معلمه كان يستغله من أجل محاولة مواعدتها، والاستمناء على أسرارها الزوجيّة. أهذا ما تستحقه هذه الأم في سيرته: مجرد حضور إيروتيكي/ شبقي؟ يقول الكاتب: quot; ينبغي القول إنّ أمّي - كما أشعرني بذلك الجميع- واحدة من أجمل نساء بغداد، لهيب يمشي على قدمين، جمرة اشتهاء تحرق ما بين الفخذين(...) لا سبيل لمن يريد الارتواء سوى الأمنيات والدعاء لله أن تبتسم، او تلتفت، أو تهمس بكلام - أيّ كلام- يفتح فمها، أو تتحرّك به شفتاهاquot; (حياتي في قصصي ص24). هذه هي الصورة الحمراء التي رسمها الكاتب للمرأة/ الأم، والمرأة/ الخالة أيضا، يقول: quot; أتت خالتي الحسناء زينب ترقص، كم كانت مثيرة وهي ترقص، يا لطولها الشهواني الباسق مثل نخلةquot; ص232، وهي صورة تسعى إلى quot;قتل الأمّquot; كدلالة على السلوان والتوازن النفسي(2)، وبالمقابل الاحتفاء بالذكورة والفحولة التي تجسّدها ذات الكاتب، وشخصية الأب والجدّ والرجل على وجه العموم.

على سبيل الختم:
حقيقة هناك الكثير مما نغرفه من كتابات عبد الستار ناصر عذا ما ذكره، وهي أفكار تحسب عليه، ونظرا لضيق المقام، اكتفينا بهذه الإشارات الموجزة، والتي لن تنتقص من قيمة منجز الكاتب قلامة ظفر، ومن حبنا له مقدار أنملة، لكنّها مكائد الكتابة كما يعرف المبدعون، إذ يحضر اللاّوعي أكثر من الوعي، ويطغى الضمير الجمعيّ أكثر من الضمير الفرديّ، ونافل الكلام قولة تذهب في هذا المعنى لأوكتافيو باث(3):
quot; ثمّة داخل الشاعر نفسه جمهرة من الشعراء، وهذا لا يخصّ الكتّاب وحدهم بالطبع، فنحن جميعا أشخاص عديدون في آن معا، نحن جميعا ننزع إلى التعبير عن تعدديّة الأصوات هذه، والكتاب العظماء حتى إذا لم يكتبوا أكثر من خمسة أسطر، إنّما هم أولئك الذين حافظوا على تعدديّة الأصوات، وحافظوا على الحوار بين quot;الأناquot;، وquot;الأنوات الأخرىquot;، الحذف بتر وتشويه، يجب أن تعبّر الأنا الغائبة، والأنا الجسديّة، والأنا النزقة، والأنا اللعوب عن نفسها عبر صوت المؤلف، فالصفحة لا تكون حيّة إلاّ بقدر ما تنطق عبرها تلكم الأصوات المكتومةquot;
1-ملاحظة: استعرت عنوان المقال من الشاعر العراقي / العربي الكبير سعدي يوسف الذي وسم به إحدى كتبه، وذلك حبا في هذا الشاعر، وفي الأدب العراقي عموما، ودلالة على رميّة هذه القراءة.

المراجع:
-حياتي في قصصي(موجز تجربتي في كتابة القصة والرواية/ سيرة أدبية) عبد الستار ناصر، الطبعة الأولى 2001، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
-سوق السراي، كتابات في القصة القصيرة والرواية والشعر، عبد الستار ناصر، الطبعة الأولى 2002، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
- باب القشلة (كتابات في الرواية والشعر والمكان) عبد الستار ناصر، الطبعة الأولى 2003، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
هوامش:
2-غابرييل غارسيا ماركيز، ذاكرة غانياتي الحزينات (رواية)، ترجمة صالح علماني،الطبعة الأولى 2005، دار المدى للثقافة والنشر.
3-محمد لطفي اليوسفي، فتنة المتخيّل: ج3، فضيحة نرسيس وسطوة المتخيّل، الطبعة الأولى 2002، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
4- أوكثافيو باث، حوار أجرته ريتا غيبرت، ترجمة كاظم جهاد،مجلة الكرمل العدد 18، السنة 1985، ص 136/137.
كاتب وناقد مغربي