لا أحد يذكر متى ظهرت الافاعي في بيتنا اول مرة. لم ارها بعيني ولكن أخي الكبير وجدتي حدثانا عنها، في الليالي نسمع اصواتها، تفح بصوت ناعم غامض، كأنها تتكلم، تدعونا لدخول عالم غريب عجيب وراءها.
جدتي قالت: لا تلمسوها ـ قصدت شيخة الحيات، تلك التي تستمر في فحيحها حتى الفجر، بعد ان تكن الاخريات صمتن ـ هذه الحية مباركة خيرة، من الملائكة الصالحين، مَن يسبب لها الاذى يرجع عليه ويصيبه في أعز أعزائه.
جميعا كنا نسكت بالطبع، حتى والدتي ووالدي رضخا، ما عادا يأبهان لتلك الاصوات الجوفية الملتوية المتصاعدة مع هبوط المساء، كان يكفي ان تخرج جدتي الى مهبط السلم او حافة البئر، الى المكان الذي ينبعث منه كريرها المتخفي المرعب، تبسمل مرتين ثلاثا، ثم تبدأ حديثا طويلا معهن، كانت تسألهن عن راحة موتانا وطلباتهم، تضحك معهن، تنقل اليهن تحيات كاذبة منا، ثم ترجوهن ان يبلغن والدها المرحوم سلاماتنا، ويا لدهشتنا جميعا: كان الفحيح ينقطع، يعمم البيت هدوء وسكون، ثقيلان حتى يمر الليل.
في بعض الليالي ـ وهن قليلات ـ كانت دعواتهن الغامضة تلك تستمر حتى الصباح، لا ندري ما خطبهن آنذاك وماذا يتبادلن من كلام بينهن، نغم في اصواتهن يشبه العتاب، تتكلم احداهن، فتسكت الاخرى، تواصل صاحبتها الكلام فتسكت الاولى، ونحن نلبد تحت اللحاف ننصت، او نقترب الى الجمرات التي وضعتها جدتي في منقلة وسطنا تحت منضدة صغيرة تعزلها عن اللحاف؛ وجدتي تنقل لنا احاديثهن وتهز راسها.
في ليالي غضبهن كانت تقول: لا علينا، ناموا! لكن احدا منا لم يكن يستطيع النوم وتلك الاصوات تتصاعد من الباحة القريبة فكانت تنصحنا ان نحسب في رؤوسنا عدد جوامع المدينة، فكنا نحسبها، ونتردد قبل ان يناديها احدنا: جدة.. اكملت الحساب! فتطلب منا ان نحسبها ثانية، فنبدأ الحساب مرة اخرى. أخوي الكبير ضجر احدى المرات وقال انه سياخذ (قامة) والدي ويخرج لهن لقطع رؤوسهن واحدة واحدة.
اقنعته جدتي بالهدوء. لكنه يريد ان يبول ونحن نعرف انه يكره اظهار خوفه من الذهاب وحيدا الى الخلوة، صمت فترة قصيرة ثم لم يعد يحتمل، صرخ بوجه جدتي، قال: والله لاقطعنّ رؤوسهن واحدة واحدة. فعلا، رأيناه ينهض ويتجه الى الدولاب.. لكن جدتي منعته. بعد ذلك وجد الشجاعة ليخرج الى ظلمة الليل وحيدا، وعندما عاد سأل فيما اذا كان احد منا يرغب في الذهاب الى مكان ما، هو على استعداد لمرافقته، بل وانتظاره حتى يقضي حاجته.
شعرنا بعد هذه الحادثة ان اخانا الكبير اصبح خارج طوقنا. ورايناه في الليالي المقمرات يصل حتى حافة البئر، واذ يتصاعد الفحيح يكتفي بالوقوف عند الدرجتين المؤديتين الى الباحة. يمد يده ويقتطع ورقة ليمون، يجيئنا بها مغنيا: حب الوطن فرض علي افديه بروحي وعينيّ.. يقول شموا الرائحة الطيبة. لكننا كنا نعرف انه يريد بذلك اثبات حقيقة وصوله الى هناك وبالتالي تفوقه علينا، ليس نادرا شعر احدنا حاجة لشرب الماء والغرفة خالية منه، توجب على احدنا اذن التوجه الى البئر لجلب الماء، فكانت جدتي تقوم دائما بهذا العمل، تظل تبسمل حتى تمسك يدها حبل السطل، تسحبه في هدوء وهي تحادثهن، ينقطع الفحيح اذا كن يبتن تلك الليلة هناك، نقف اعلى الدرجتين المؤديتين الى الباحة نختض من البرد، نرقب جدتنا العجيبة ـ في صندوقها نعثر دائما على حبات عفص وبرتقالات صغيرة خضراء يابسة بحجم الدعبل تستخدمها دواء لمن يقصدها ـ تأتينا بالماء فنشربه كأنه جاءنا من نهر الكوثر في الجنة..
لا شىء في الدنيا يرهب جدتي. مرة وهي تجلب لنا الماء سمعناها ترفع صوتها: بسم الله الرحمن الرحيم.. عدة مرات. اشرأبت رقابنا نستطلع الخبر، كان السطل لما يزل يبعد عنها مسافة ذراع واكثر، تأخرت لحظات في رفعه وهي تنظر الى اسفل، سألنا ووجيب قلوبنا يرتفع أعلى من الطرزينة: جدة!.. ها؟ فاجأتنا بصوت رخيم هادىء: قسمتنا اليوم ان لا نشرب الماء.
واعادت السطل في هدوء أيضا الى اعماق البئر. ولما رجعت الينا ورحنا نستفسر منها عما قاله القمر، اجابتنا بعد تكرار وألحاح، الماء اليوم مر، ولن يحلو الاّ في الصباح! فعجبنا ولهجنا بالسؤال: ولكنك لم تذقيه بل ويدك لم تمس السطل! قالت بلهجة حاسمة: رأيته اخضر، آت هذه الليلة من جهة النزيزة، لا من جهة الفرات، الماء هذه الليلة غير صالح للشرب واخشى ان يطول هذا حتى تزاح الغمة! وما هي هذه الغمة يا جدتي؟! شر كبير ارتكبه بني آدم كبير! ليت رب العالمين لا يسمح ويتحول لون الماء من الاخضر الى الاحمر.
لم نصدقها اول مرة.
دفعتنا الى النوم، ونحن نسأل انفسنا عن حقيقة ما رأت. وفي الليالي التاليات كانت حاجتنا لشرب الماء تتكرر فكان اخونا الكبير يتطوع للذهاب بعد تردد لجلبه، الا ان جدتي لسبب ما كانت تمنعه من التوجه الى البئر وعند ذاك كان عزمه يشتد، ونحن نعرف ايضا ان منع جدتي كان يريحه ويخلصه من تورطه، عرضه الذهاب الى مكان الخوف والرعب ذاك، بعد ان كان مكان فرح وشرب ماء. تقوم جدتي بعد ذلك، تلف فوطتها جيدا حول راسها ـ تفعل ذلك عندما يحدث ان تقابل غرباء ـ وتقصد البئر، فنتسلل خلفها حتى حدود الدرجتين، ونلبد هناك خلف الباب نتطلع اليها، لاحظنا انها اصبحت اكثر حذرا في خطوها وتردادها لاسماء الله والملائكة الصالحين. يرتفع صوتها في الليل تخاطبهن، تسألهن عن الصحة والاحوال، وهي تسحب حبل السطل.. توقفت ـ تماما كتلك الليلة ـ ظلت تنظر الى اعماق البئر، وعلى ضوء القمر الابلق لم ندر ماذا تبينت ، قالت بصوت عال منتهرة: لا اله الا الله، وانزلت السطل. عادت الينا خالية اليدين مرة اخرى.. جدة عطشانين! اخذتنا الى الغرفة وافهمتنا ان الشر المرتكب خارج بيتنا عمّ عليه، سنبيت ليلتنا هذه ايضا بلا ماء..
وفي ليلة اخرى، واخرى، كانت تقول لنا ان الماء رأته ازرق، اصفر، كنا نتزود بالماء من النهر في النهار بالطبع، إنما حرمنا الى حين بدا لنا من ماء بئرنا العذبة التي اعتدنا عليها، وحين قالت جدتنا تلك الليلة ان ماء البئر صار احمر والعياذ بالله لم يصدق أخونا ما قالته الجدة، اصبح يشكك في الكثير مما ترويه وتقصه لنا، فاستحق غضبها. مرة، بعد عودتها من هناك، تسلل خفية واختفى في مكان ما. قلنا انه ينسج مكيدة او لعبة من ألعابه الكثيرة، سمعناه يصرخ فجأة، في الجو انفجرت طرطشة ماء، خلنا انه فقد طريقه في الظلام او اختل توازنه وسقط في اعماق البئر، هرعت جدتي ونحن وراءها اليه، ورأينا والدي يهبط من الطابق الثاني تتبعه والدتي فزعين، لكنا وجدنا اخانا يقابلنا وابتسامة مذنبة تطرد عن وجهه الشحوب الذي استولى عليه..
بادره الجميع يسألون عما حدث، أجاب بصوت حاول السيطرة على ارتجافه انه اراد ان يجلب لنا الماء، لكنه وجد كومة من الافاعي ملتفة على بعضها في بطن السطل. سكتت جدتي، والدي قال انه سيجلب في الغد سطلا جديدا، فهذا اصابته نجاسة، والدتي عاتبته لانه لم يشتر لنا كوزا او مشربة منذ زمن طويل. وعادا الى مكانهما. وعدنا مع جدتي الى الغرفة، لم تعنفه، لم توجه له كلاما، ظل اخوي ساكتا يشعر بذنب. ثم راح مع الوقت يحدثنا عما رأى وكأنه القادم من وراء البحور السبعة... العربيد الاسود، راسه مثل راس الانسان، لف نفسه على حية رقطاء، رأيتهما متعاضين كأن احدهم يريد ابتلاع الاخر، وعندما التقت عيناي بعيني العربيد خزرني كجني ابن جان، وسقط السطل ـ لثقله طبعا ـ من يدي الى قعر البئر!
اخوي استأسد اكثر حين رآنا نرتجف ، خوفا او بردا لم نكن نعلم، رفع صوته، حتى أقسم أنه سوف يقطع راس العربيد الاسود ويطهر البيت من كل الحيات. اسكتته جدتي وذكرته بان الافعي هذه تعيش معنا منذ اسس اجدادنا البيت، هي لم تتعرض لاحد بسوء وهي من ملائكة صالحة، تحمي البيت وتقيه من كل شر ومكروه، وما استقرت مؤقتا في تجاويف بئرنا الا لتحمينا من ماء بات ليس زلالا، بسب الشر المرتكب من قبل حمقى خارج البيت. لكن اخي رد عليها بوقاحة: هم يقيمون شوارع ومبان جديدة خارج بيتنا وهناك عراك على الارض فما شأننا نحن بذلك! قالت الجدة: عندما ترى ماء البئر احمر ستعرف ان لك شأنا في كل ما يحدث. صاح اخوي: وما ادرانا ما تنفث في مياهنا أفاعي اجدادك تلك من سموم وقذارات، هي باتت متربعة في بئرنا ولا نعلم متى نلقاها تنتظرنا في الفراش ! دعته جدتي للنوم، ولخوفنا هزؤنا من عنترياته وذكرناه بذلك اليوم الذي كان يدعو السطل فيه (ططل) وببولاته الشهيرة في الفراش، وخوفه من الخروج وحيدا في الظلام. ذلك ماض انتهى، قال. كادت تحدث معركة بيننا الا ان جدتي تناولت مداسها الرهيب الاكثر تخويفا لنا من قنابل الطائرات فخلدنا جميعا الى السكينة.
في النهارات لم يكن يبدو لهن أثر، خشخشة طفيفة تتصاعد هنا وهناك بعض الاحيان، فنعرف ان احداهن تجري هاربة من وقوع الضوء او الانظار عليها. وأخوي الكبير لم يكذب خبرا، تناول (قامة) الوالد في الصباح وتوجه الى البئر، فوقفت جدتي في طريقه وانتزعت منه السلاح، لم يكن والدي في البيت وسمح له الصياح كيفما شاء. ومع ذلك راح يحوم حول البئر ورحنا نهوم وراءه، سحب السطل لكن لم يعثر على أثر لها. جال بصره في ارجاء البئر، لم يقع على شىء، نقب في الزوايا والشروخ، لم يلمح اي اثر لهن. لم يعجز من البحث فصعد الى الطابق الثاني والى السطح ثم هبط بعد فترة وراح يسخن ماءا في قدر كبير حتى غلى..
جدتي ترقبه من طرف خفي. وعندما اراد حمله والتوجه به الى الاعلى سألته عما ينوي ان يفعل فأجاب مغتما: دشداشتي بحاجة الى غسل. حقا، كنا رأيناه في الاونة الاخيرة، مرتين، ثلاثا، يغسل ملابسه الداخلية بنفسه دون ان يعطيها لاحد لغسلها، لم نفهم سبب شطارته. لكن عندما تبعناه الى السطح وجدناه يبتسم بمكر، يقترب الى فوهة شق متعرج ودرجات السلم، انحنى عليه، وبحذر راح يصب الماء المغلي فيه. كنا قد ابتعدنا عنه قليلا ، ثم... بغتة، رأيناه يقلب القدر ويتركه ينسكب مرة واحدة، يتدحرج من درجة الى درجة محدثا ضجيجا قويا عم البيت كله، لم يخفت حتى ذهلنا بمنظر حيات صغيرة بحجم الاصابع تتقافز من الشق وتتجه لا على التعيين في جميع الارجاء، بهت اخونا الكبير، ما تصور فعلته الصغيرة تؤدي الى هذه النتيجة الكبيرة، نط الى الخلف، لم يكن يدري ما العمل، تلفت حوله، لم ينقذه شىء، وهربنا نحن متصايحين واصغرنا يبكي ويجر طرف دشداشة الذي أمامه، وتصاعد صياح جدتي ووالدتي من الاسفل، وجدها أخوي الكبير فرصة لاظهار شجاعته، تناول حذاءا عتيقا مهملا لا ندري من اين، ومضى يضرب به كيفما اتفق، وفرح جنوني سيطر عليه، ومازالت الضجة قائمة حتى سمعناه يصرخ فجأة، يرمي الحذاء، هازا يده في ألم ووحشية..
طغى صوته على كل ماعداه. اندفعت والدتي من مهبط السلم اليه فتناولت يده المتشنجة وغرزت اسنانها في جانب كفه وراحت تمتصها وصراخه يتعالى، ثم بصقت امامها دما هلاميا. وجاءت جدتي تلهث، تستند بيدها على ركبتها، تفحصت الارض بأمعان كما لو كانت تقرأ سطورا مخفية فيها، ثم هزت راسها كعادتها ولمتنا جميعا وانزلتنا السلم تطرد الشر بتمتماتها.
فيما بعد، اضجعوا اخي الكبير في الفراش ، وبين حين وآخر ينظر الى الورم الناتىء في كفه ويغالب البكاء ـ هكذا كنا نعتقد ـ يحلف بكل المقدسات على الانتقام من تلك الحيات اللئيمة. بعد فترة كنا نقف عند راسه نكتم ضحكاتنا، فكان يقول: لو اصابكم ما اصابني عرفتم معنى وجود الحيات في بيتنا، انتم ايضا يجيىء دوركم يوما اذا لم نقض عليها تماما ـ كانت في لهجته نبرة موحية بالكبر والتعالي علينا ـ ويضيف : والله لاقطعن رؤوسهن جميعا، خاصة ذلك العربيد الاسود فهو راس البلاء، ان تقضي عليه قضيت على نسله وخلصت البيت من شره.
بعد مجيىء والدي اقتنعت جدتي بوجوب عمل شىء، والا فإن ملائكتها الصالحين مهددة بالقتل. اسكتت الجميع بصيحة آخر الامر واعلنت سوف تبحث منذ الصباح عن جاذوم الفوال، هو وحده القادر على جمع كامل حياتها والذهاب بهن الى مقام امين صالح لاقامتهن الدائمة.
في تلك الليلة لم نستطع النوم حتى الصباح . لا ندري ماذا جرى لهن، سمعناهن يفحن بصوت غريب كأنه النواح، خرجت جدتي اليهن تحدثهن. لا فائدة. بقين مشغولات بأخذ ورد بينهن حتى سقط القمر في بيت الجيران، تسلط هدوء حولنا آنذاك..
لا ندري من اين قدمن، رأيناهن يتسللن في جوانب السقف، يعبرن من جذع الى آخر، وما كاد وقت النوم يحين حتى وجدنا بعضهن متعلق من الشقوق كالخفافيش، تطلعن نحونا بعيون مفتوحة مهددة تغطيها اغشية شفافة كأنها تطلب منا ترك الغرفة، بل هجر البيت اجمعه. ثار أخوي الكبير واراد اسقاطهن بعصا غليظة ليقطع رؤوسهن بقامة والدي كما وعد من قبل لكن جدتي اجبرته على الهدوء مرة اخرى، وهزت راسها كعادتها. وفي الصباح بكرت في الخروج من البيت ولم تعد الينا الا ظهرا ومعها شيخ يلف حول راسه خرقة وسخة خضراء، يستند في مشيه على عصا وفي عينيه لمعان غريب، فرش اغراضه قرب الباب المؤدي الى الساحة، واخرج من جيوبه ادعية وحروز ومكعبات معدنية عليها نقوش ورسوم غير مفهومة، قام بجولة في ارجاء البيت ولا ندري ماذا همس في اذن جدتنا العجوز فقامت وطلبت من أخي الكبير ان يذبح لها احدى دجاجتها السمينات، جمعت الدم الذي سال منها في قدح وجاءت به الى جاذوم الفوال، فتناوله وشرب منه قليلا، وقرأ عليه آية ما، وراح يرش به جوانب البيت وشقوقه وزواياه، انتظر زمنا رسم خلاله في اوراقه خطوطا ما حتى نضجت الدجاجة في قدرها على النار. فقدمتها جدتي له، وجلست بعيدا عنه ترقبه وهو يمصمص عظامها ويعب حساءها. بعد ذلك اخذ له غفوة طويلة..
تحلقنا حوله وقتها نرقب اهتزاز شاربه حين تصدر انفاسه مصحوبة بصفير. وشيك المساء نهض فالتهم ثلاثة ارغفة خبز وتوجه الى شغلته يطوف في ارجاء البيت وينثر الدعاءات والتعاويذ حتى انقضاء النهار. لم يفعل شيئا يذكر عدا ان الافاعي تلك الليلة خلدت الى السكينة ولم يصدر عنها صوت. بات ليلته في المكان الذي افترشه، وفي الصبح همس مرة اخرى في اذن العجوز، فطلبت من والدي ان يبعث من السوق بزوج من الاسماك الطازجة. وما كاد النهار ينتصف حتى جاءتنا السمكتان يقطر منهما ماء النهر، تسلمها جاذوم الفوال وعمل يعتصرهما لا ندري لماذا حتى جمع في القدح مقدارا من دمائهما راح يرشه بعد ان شرب منه قليلا وقرأ ادعية قليلة ـ في زوايا البيت مثل الامس ، ومرة خرى عكف على حروزه واوراقه يشخبط فيها مااتفق له لحين تقديم السمكتين جاهزتين محمصتين امامه، التهمهما الكلب ابن الكلب ولم يترك لنا غير راسيهما وعظاميهما، والغفوة اتضح انها عادة له بعد الطعام، لم يصح منها الا عند دنو المساء، قام، وتبعناه في طوافه في البيت، لكنه ارسل الى جدتي نظرة فجاءت وجمعتنا ولم تسمح لنا بتجاوز الدرجتين. ويا لدهشتنا سمعناه يغني بصوت رخيم وهو يدور في ارجاء البيت كأنه يرقص .
وازدادت دهشتنا اكثر عندما لمحنا العربيد الاسود يظهر له راسه من بين اطراف الحطب المرمي في نهاية الباحة، عند ذاك اقترب جاذوم اليه ووجه له كلاما ما هو بكلام أنس ، مد العربيد راسه اكثر ورأيناه لاول مرة يظهر على ارض الساحة بكامل طوله وغلظه. خرسنا. مد جاذوم يده، رفع العربيد راسه قليلا ثم توارى خلف الاغصان والحطب. عاد الفوال الى مفرشه فتمدد عليه ونام ولم تتجرأ الجدة او احد منا على الاقتراب اليه او ايقاظه. وعندما عاد والدي سأل عن السمكتين فقيل له ان القطط خطفتهما وهربت بهما، فشمشم الهواء وصعد الى غرفته. وفي الصباح اوصته جدتي، بعد ان تلقت همسة اخرى من الفوال جاذوم، على ارسال قوزي سمين فنظر اليها برهة، ثم انزل راسه وخرج الى رزقه.
قضى ساحر الافاعي نهاره مضطجعا يمسح بكفه الغليظة بطنه العارية، وكان قد قام بواجبه اليومي المعتاد، استجمع من القوزي دما، شرب منه، رش الباقي في زوايا البيت وجوانبه، تنحنح في مكانه كثيرا وتلمظ طويلا، حتى جاءه القوزي ممددا على اكوام الرز، وليست هي غير دقائق حتى كان يمسح الصينية بأصابعه ويتجشأ استعدادا لما نوى عليه. اهتز وغنى في باحة البيت مثلما فعل في يومه الاول ولم تغادرنا الشمس الى بيت الجيران الا ورأينا العربيد الاسود يظهر راسه من بين خفايا الحطب وينظر اليه كأنما تربطه منذ القدم به عرى صداقة حميمة، مد جاذوم يده اليه، لم يهرب العربيد هذه المرة..
وقلوبنا تكاد تتقافز في صدورنا أمسك الساحر العربيد ورفعه امام وجهه، وجدناه.. والله! يعصر راس الافعوان الغليظ باصابعه الغليظة حتى استكان له وفتح شدقيه، نظر الى داخله، ثم مد يده وراح يعالج شيئا ما هناك، ثم رأيناه يبتسم ويلفه مثل صوندة طيعة ـ وان كان هذا يقاوم ـ ويدخله الى خُرج هيأه لهذا الغرض. صخب العربيد هناك ما شاء له لكنه في حرز حريز. بعد ذلك فعل جاذوم الشىء نفسه مع ثلاث افاع ظهرت على التوالي، حتى جمع في خرجه كومة كبيرة خلنا انه سيحملها على ظهره ويمضي بها الى جهة ما لكنا رأيناه يضع الخرج قرب راسه بعد ان احكم شده، وسلم امره الى نومة طويلة لم يصح منها الا بسماع صياح والدي عندما جاءنا متعبا من شغله وقد عرف باختفاء القوزي السمين الذي لم يستطع الحصول عليه الا بهدر مصروف أيام عديدة.
نهض الفوال آنذاك، صب على والدي نظرة كأنه يريد ابتلاعه. ثم صمت طيلة المساء ومقدم الليل. واذ هفتت النار في موقد الحجرة شعرنا بخشخشة غريبة حولنا، قامت جدتي ورفعت فتيل الفانوس قليلا وقبل ان تجيل ابصارها في الزوايا والاركان لمحت شيئا اتسعت له عيناها، فاجأها شبح مخيف فظيع، شعرنا انها تكتم صيحة، ولا ندري اذا كنا انتبهنا بانفسنا لذلك او انها اشارت الى حيث رأينا العربيد الاسود يتسلل جوار فراشنا مبتعدا وقد فضحه ضوء الفانوس. هربنا من الحجرة فالتقينا والدي ووالدتي يهبطان السلم هلعين، عثرا ايضا على افعوين متناغيين قرب سريرهما بفحيح غريب. وبغير اتفاق، توجهت ابصارنا الى جاذوم الفوال، غط في نومه وقد هفت خرجه وتشرشبت اطرافه بعد ان غادرته، كما بدا واضحا، آخر الافاعي التي اصطادها ذلك اليوم.
اقترب والدي اليه، ايقظه بقدمه، غير ان جاذوم لم يتحرك، فتح عينا واحدة في البدء، ثم بدا كما لو انه انتبه لوجودنا، ذلك لم يفعل عنده شيئا. ظل على اضطجاعه ينظر نحونا، سمعنا صيحة متشنجة تصدر من الحجرة ظهر في اثرها اخوي الكبير عند الباب حاملا قامة والدي ملطخة بدم قاتم، هرعنا اليه فوجدناه.. ذلك العربيد الاسود ممددا بطوله مقتطع الراس وما زال جزؤه الاخر يتلوى ويتبعثر على الارض!
وسمعنا جاذوم هذه المرة يصيح بأعلى صوته: حي.. حي... الله حي!,, راح يزبد ويرعد، انطلق اخوي اليه شاهرا قامته مغضبا: يا قواد.. يا محتال..كيف تمكنت الحيات من مغادرة الخرج لوحدها وهو عندك مربوط ؟
جره والدي من ذراعه، انتظرنا حتى يهدأ الفوال من سورته، قاذف في تقلبه وصخبه كسرات خبز يابسة وعظاما وقطع لحم كان قد افلح في اخفائها من قوزي الصباح، لم يطل انتظار والدي، رمى اغراض الساحر الى الدرب، تبعها بالساحر نفسه..
وما كدنا نعود الى البيت ويغمرنا هدوء تخلف بعد الهيجان حتى لاحظنا فوق رؤوسنا بعد قليل افاعي العجب معلقة من السقف، تنظر نحونا بعيون لا اجفان لها..

من كتابه (الشارع الجديد) الصادر عام 1980