جاءت مقالتي الاسبوع المنصرم بعنوان quot;بين الكبت الجنسي والقمع السياسيquot;، وقد تلقيت ردودا كثيفة عليه لا سيما على بريدي الالكتروني، وهذه المقالة هي محاولة لتوضيح بعض النقاط الواردة فيه.
لعل الإشكالية التي تقع في عملية تحليل الأوضاع السياسية والاجتماعية وغيرها تكمن في أن معظم التحليلات تتناول القضايا بشكلها الآني وبوجهها المادي وبإيقاعها المباشر والسريع، دون الوقوف على الخلفيات الأخرى والعوامل لفهمها بشكلها الكلي الشامل، ولطالما حاولت ان اربط بين أمور لأن عملية الفهم تتجاوز الفواصل بين الأشياء وترى الواقع كلّ متكامل يتجاوز التناقض والازدواجية، وقبل طرح إشكالية العمل السياسي وعلاقته بالمستوى الغرائزي لا بد من توضيح نقاط ضرورية اهمها:
إن الغريزة تقع تحت تصرف الطبيعة وتنتمي الى اللاوعي، أما الوعي فساحته العقل والفكر، أما الوعي الوجودي الأعلى فهو الوعي الذي يتجاوز الفكر وساحة العقل الواعي الى العقل الكوني المنفتح على الوجود، بطبيعة الحال فإن الذكاء والفكر جزء من الوعي الوجودي الأعلى وليس الكل، لأنه ليس كلّ من يفكر ذكي وليس كل إنسان ذكيّ يفكر، أما الوعي الوجودي فهو يرى الأشياء ويختبرها روحيًّا كالمحبة فإنه لا تعمل بشكل منهجي ولكنه بالنهاية حقيقية.
و يُشبّه الحكيم غوردجيف الإنسان بالمنزل المكون من أدوار ثلاثة الاول منه غريزة والثاني الوعي والثالث الوعي الأعلى،.
أما محيي الدين ابن عربي الأندلسي فقد ميز بين النفس و العقل والقلب معتبرا ان الفهم الحقيقي الأعلى للوجود يتم عبر النور المُلقى الى القلب عبر العقل وهو ما يُعرف بالبصيرة (1).
إذن هناك تلاقي عند الحكماء في كون الكائن الانساني والمجتمعات تمر بمستويات متعددة من الوعي على حدّ سواء...
ترى كيف يبدو المشهد السياسي الحالي ولأي مستوى من مستويات الوعي ينتمي؟؟؟
حاليًّأ؛ السياسة هي السلطة، وهي القوة، لذلك فإن إرادة الوصول الى السلطة تسمى بالعمل العمل السياسي، والسلطة مصطلح يشتمل على أنواعٍ كثيرة بدءًا من سلطة الاهل على الابناء و سلطة الرجل على المرأة او العكس وصولا الى سلطة الدولة على الشعب...
غير أن الصراعات على السلطة الأشد هي تلك التي نراها في مجتمعاتنا و تتجلى من خلال محاور ثلاث: سلطة quot;الرجلquot;، سلطةquot;المراجع الدينيةquot;، وسلطة quot;الدولةquot;...
فالمجتمع الذكوري هو ذاك الذي يحاول بشتى الوسائل ادخال الأنثى طوعًا او كرهًا تحت سلطة الذكر متبعا حيالها استراتيجية على أنها أدنى منه، فحتى المجتمعات التي توصف بالغربية المتحررة هي أيضا مجتمعات ذكورية تمارس القمع المقنع تجاه المرأة ولكن مع تفاوت النسبة مقارنة بغيرها من المجتمعات.
ولست من دعاة تحويل المجتمعات الى انثوية بحيث تصبح الانثى هي من يمارس السلطة لأننا نكون مازلنا في دائرة الصراع على السلطة ولكن مع اختلاف الادوار.
كما أن المقارنة التي تثار بين ما يوصف بالرجل وبين ما يوصف بالمرأة مقارنة حمقاء لأنهما صنفان مختلفان من البشر وكلاهما كائن إنساني فالمرأة ليست أدنى من الرجل ولا أرفع منه والرجل ليس أدنى من المرأة أو أرفع منها (2).
ببساطة عندما يرتقي الانسان الى درجة الوعي الكوني يصبح إنسان ولا فرق عندها بين انثى وذكر فالكل إنسان كوني.
والامر في مجال ما يوصف بquot;المراجع الدينية quot; متشابه فالشيخ يطمح لان يصبح مفتي والمطران يسعى لان يصبح بطريركا او كاردينال وهكذا من أجل الحصول على مزيد من quot;الصلاحيات quot; وبالتالي مزيد من السلطة فيمنح الغفران لمن يشاء و يمارس quot;الحرم الكنسيquot; على من يشاء، يطلق فتوى تكفيرية هنا او تحليلية هناك، وهكذا في إطار ممارسة النفوذ باسم الرب او الإله...
أما الصراعات السياسية فتتجلى فيها سائر التعقيدات السلطوية الالغائية الشرسة التي لا تعرف الهوادة، والحاصل في الانتخابات خير دليل كما أن الانظمة الحالية تسعى الى التوريث بشتى الوسائل حتى بالانظمة الجمهورية؟!! ومن المفارقات أن معظم الدول العربية توريثية سواء في الانظمة الملكية أم الجمهورية! وهذا يدل على أن المشكل يكمن في الوعي والعقلية لا في الشكل، وكنت أتساءل دائمًا ألا يوجد في هذه الدول quot;رئيس سابقquot;؟؟ والرئيس باق باق باق!!
ما يحصل على المستوى السياسي هو ان السلطة تمنح القوة والقوة تصنع الحق والغاية تبرر الوسيلة، إنها quot;البلطجة quot; بامتياز وشريعة الغاب!!

إذن هذه الصراعات المحمومة على ماذا تنم؟؟
هكذا دوامة تشير الى عقدة نقص كامنة داخل الفرد و يهدف من خلالها اثبات انه صاحب نفوذ وبالتالي فإن لوجوده quot;قيمة quot; هذا الصراع نابع من عقدة دونية دفينة، مفادها انه يشعر بأنه أدنى ممن هو اكثر سلطة منه، لذلك فإنه يسعى لامتلاك السلطة ليصبح أعلى..هذه دوامة تقذف البشرية بأدنى مستويات الحياة.

كثيرا ما قابلت أفراد من خلال مؤتمرات وكانوا يسألونني عن عملي قبل إسمي: أين تعملين؟؟؟؟؟ إنه سؤال مبطن يهدف السائل من خلاله معرفة حدود سلطة المقابل!! إنه سؤال: ما هي حدود سلطتك؟؟
فهم لا يستطيعون ان يتصوروا ان هناك انسان يُقدم نفسه على انه انسان وحسب ولا شيئ آخر، دائما يريدون ان يصنفوا البشر وفق مهنهم ووفق المؤسسات التي يعملون بها، فلو كنت مديرا في شركة توصف بالكبيرة فإنك مقدر اجتماعيًّا اما لو قلت انك فلان وحسب لما أعارك احد اي اهتمام، لذلك فإنه فور انسحاب صلاحياتك لسبب من الأسباب ينفض عنك الناس أجمعين!! لأن هذه العلاقات تقوم على أسس سلطوية رعوية.
كنت اتسائل دومًا: ما هي الفائدة من أن يكون المرء زعيمًا سياسيًا يتجول في الدول والبلاد ممارسًا سلطته على الرعية موقعًا الهزائم بالبشر والعباد؟؟؟
ماهي الفائدة من يكون رجل دين يمنح نفسه حق اعطاء الغفران و حجبه؟؟ والقاء فتاوى التكفير والتفسيق؟؟؟
ماهو الهدف من قمع براءة الاطفال وتشويه الفطرة السوية بحجة التربية والتأديب وتنظيم السوك الاجتماعي؟!!
طبعًا هذه الامور لا حاجة لها ولا فائدة منها عند الحكماء، فعندما يرتقي الانسان بوعيه ويتطور ينتقل من مرحلة معرفة الحقائق الى اختبارها المباشر فتسقط الحاجة لديه لإثبات تفوقه ووممارسة ما يعرف بالسلطة.
ويمكن حصر مفهوم السلطة وعلاقته بالوعي من خلال نقاط ثلاث:
bull;المستوى الغريزي الأدنى وهو مستوى اللاوعي: السلطة هي القوة والقوة تصنع الحق والصراعات تكون شخصانية محمومة، لذلك فإن عالم السياسة والسلطة الحالي يمارس قانون الغاب: القوة المادية هي التي تصنع الحقوق المادية والمعنوية وهو أمر ينم عن عقدة دونية، لذلك فإن السياسة المتداولة حاليًّا تنتمي الى المستوى الأدنى وهو مستوى الغريزة وهو مستوى اللاوعي إنه عصر الانسان الأدنى والصراع فيه غريزي والسياسي فيه لا يؤمن بأي شيئ سوى ان يكون متفوقًا منتصرًا.. لذلك فإن من يحيا على هذا المستوى لا يمكن ان يكون صانع سلام ابدا حتى وان ادعى ذلك وعقد لذلك المؤتمرات...
bull;المستوى الثاني هو مستوى الوعي:الحق يقرره العقل والتحليل والذكاء بغض النظر إن كان المرء قويًّا ام لا، وبغض النظر عن موقعه الاجتماعي او المهني فعندما يرتقي الانسان من مستوى اللاوعي الى الوعي، اي من مستوى الغريزة الى العقل، وعندما تتطور المجتمعات من لاواعية الى عقلانية تكون المجتمعات أكثر تقدمًا، يتطور الأمر في الشأن السياسي والاجتماعي، و تتحول الصراعات من صراعات شخصية تهدف الى مجرد التفوق على الاخرين الى صراعات نابعة عن مبادئ وتحترم الخصم تهدف الى البحث الحثيث للوصول الى الحقائق، فالصراع على هذا المستوى قائم ولكن طابعه إنساني فكري.
bull;المستوى الثالث وهو مستوى الوعي الأعلى الوجودي وفيه يكون التناغم بين الظاهر الفاعل و الداخل الوجداني، لا وجود فيه للسياسة بمعناها المتداول حاليًّا، وفيه تتلاشى الصراعات والتحديات، على هذا المستوى يعيش قادة الإبداع؛ إنهم الحكماء، واؤلئك لا يسعون الى السلطة لانهم في مرتبة وعي أعلى منها، وذكائهم يتجاوز المادية السياسية، إنهم اناس يضمحلون في الوجود بشكل كليّ أولئك هم في قمة العظمة ولو افترضنا وجود سياسي يعيش بهذا المستوى فإن quot;أناهquot; او انويته تكون مختفية، إنه إنسان كليّ انه حرّ يتحلى بالبصيرة لذلك فهو مبدع يرى ما لا يراه الآخرون، وبهذا المعنى فالسياسة لا تكون علمًا يُدرس في الجامعات بل فنا وحكمة وخبرة ونور.. في هذا المستوى يكون السلام حقيقيًا إذ تستحيل معه النزاعات أليس من الروعة وقمة الإبداع عند الانسان هو ان يسمو من مرحلة الوعي الى الوعي الوجودي عبر العقل الواعي؟؟
من حقنا أن نحلم، نعم، من حق ارواحنا ان تنعتق من اسر النزاعات والصراعات الغرائزية، ومن حقنا ان نفكر بحرية ومن حقنا أن نحيا بنورٍ وسلام.
(فإليك يا وطن المحبَّة... من منفى الجرحِ وإليك يا بيروت من تغريبتي بعضًا من الحنانْ،
وسلام.... وطني إليكَ، وسلامًا لك... من فوق كلّ الحضاراتِ... من فوق كلّ الأديانْ
أعبرُ قرونًا من التقنية المدمرة.... أطوي كلّ معتقدٍ.... أسلك طرقًا تتقاطع مع كل انسانْ
أعبر مستويات الوجود الآن أعبر الواقع والذات؛ أطيرُ إلى أبعدِ.. من أبعدِ جَوهَرٍ،
أتجاوز الأسباب... والمُسببات... أمرّ.. فوق كل الكلمات والتسميات
هناك عندَ الرُّوح تهدأ رُوحِي، و تَسكن عند إبداع... انسان
فما آلمنِي.... صِراعٌ أدلجتْ أطْرَافُه و اكتويت لجرحِ أي كائنٍ...
وأعبرُ اليومَ لأجلِ إنسان ) (3)
1-بالامكان العودة الى مجموعة رسائل ابن عربي: في شرح مفهوم quot;عين اليقينquot;، وللكاتبة مقال بعنوان quot; كلمة نورانية في حضرة وجدانية quot; تتناول السياق نفسه.
2-لمزيد من التفصيل: العودة الى مقالة الكاتبة المنشورة بعنوان quot;المرأة والعنفquot;
3- مقاطع متفرقة من قصيدة quot; معبر سلام لأجل لبنان quot; من ديوان معابر الروح، بقلم الكاتبة، وهي مهداة لضحايا عدوان تموز 2006.
كاتبة لبنانية

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه