quot;لو كان الفقر رجلا لقتلتهquot; (عمر)
منذ 9 سنوات لم أكن قد سمعت باسم الشيخة موزة بنت ناصر المسند، زوجة أمير قطر، إلى أن قرأت ذات يوم في quot;الحياةquot; مقال حازم صاغية عنها فكتبت لها رسالة ثناء وتشجيع. فلأول مرة أقرأ عن خليجية داعية لتحرير المرأة في بلدها. وهذا في حد ذاته خبر جدير بالصفحات الأولى.
وفي هذه الأيام الحزينة حيث يتظاهر الشبان، مخاطرين بحياتهم ضد البطالة وغلاء المواد الغذائية التي التهمت القدرة الشرائية للكادحين حتى في البلدان المتقدمة، أقرأ خبرا عن مبادرة خيرية تاريخية نادرة في المنطقة العربية هي تأسيس الشيخة موزة بنت ناصر المسند، زوجة أمير قطر، خلال الشهر الجاري، لمؤسسة خيرية مرصودة لتشغيل الشباب العاطل في 6 دول عربية هي قطر، البحرين، سورية، تونس والمغرب وموريطانيا. وهي مبادرة مدروسة إذن واعدة. كتبت الشيخة موزة : quot;تأكّد لي مع مرور الزمن أن الإهتمام بتوظيف طاقات الشباب وفق رؤية جريئة ومبدعة يمكن أن يشكل إسهاما حقيقيا لمعالجة أوضاع اقتصادية واجتماعية وسيكولوجية دقيقة يمكن أن يؤدي تفاقمها إلى ما لا تحمد عقباهquot;. وهذا لم يعد مجرد توقع، بل هو اليوم واقع. وأنا أخط هذه السطور أستمع إلى أنباء 3 مظاهرات للشباب العاطل في مصر والمغرب وتونس.
بيان تأسيس quot;صلكquot; تشخيص سوسيولوجي وسيكولوجي دقيق لماساة البطالة المزمنة لملايين الشباب القادرين على العمل والراغبين فيه. لكن فقر بلدانهم وضعف قطاعها الخاص وانصراف كثير من الرأسماليين إلى المضاربة في البورصة، بدل الاستثمار المنتج، حكم عليهم بالحرمان الطويل، وربما مدى الحياة، من امتلاك مستقبل. الشباب الذي هو نصف الحاضر وكل المستقبل محروم من مستقبل! أي من عمل ومسكن وأسرة. وهكذا تتفكك الرابطة الاجتماعية ويتلاشى معها الشعور بالانتماء لمجتمعه وبلده. فراغ الانتماء تملأه الإنتماءات السلبية للمخدرات والجنوح والإرهاب. هذا الأخير يقدم للشباب خطابا تحريضيا ثأريا يلقى هوى في نفوسهم الجريحة : quot;نحن في آخر الأمم وحكامنا خدام لحكام النصارىquot; (أسامة بن لادن). وهكذا تُقدّم ندّاهة الكراهية لـ quot;اليهود والصليبينquot; للشباب الفاقد لهوية إيجابية ولإنتماء يعتز به، والذي يشعر عن خطإ أو صواب أن بلده يعامله ككمّ مهمل، فرصة الإنتماء إلى quot;كلّ عظيمquot; متخيَّل إلى... الأمة الإسلامية التي تستغيث به لنقلها من منزلتها كـ quot;آخر الأممquot; لتصبح خير أمة أُخرجت للناس... لا شيء أكثر إغراء للشباب المهمش الذي إنهارت ثقته بنفسه، من الأوهام التي تعده بأن يكون شيئا مذكورا في الدنيا والآخرة بعد أن كان لا شيء.
بطالة الشباب، خاصة خرّيجي الجامعات، مسألة إستراتيجية يتوقف على حلّها تنمية بلدانهم التي ما زالت معدلات النمو الديموغرافي، في كثير منها، تتفوق على معدلات النمو الإقتصادي. وما زالت السجون تنافس المدارس في استقبال الأجيال الصاعدة والحال أن كل أمة بها أكثر من 10% من الأميين لا مستقبل لها.
في عصرنا حيث لم تعد الدولة ربّ عمل ولم يعد القطاع الخاص قادرا على تلبية الطلب الحاشد على التشغيل، هو عصر العمل الخيري لتخفيف آلام المعذبين في الأرض الذين يشكلون نصف البشرية. بعض أغنياء أميركا وعوا هذا الاتجاه فانخرطوا فيه بكل قوة. بيل غيتس أسس مع زوجته سنة 2006 quot;مؤسسة غيتسquot; للعمل الخيري ووهبها منذ تأسيسها 29 مليار دولار لخدمة البشرية المُتألّمة في التعليم والسكن والصحة، وخصص 95% من ثروته الطائلة للعمل الخيري تاركا لأطفاله الثلاثة 5% فقط منها. (أنظر مقالي : quot;نداء إلى أغنيائناquot; 22/6/2006) الذي دعوت فيه أغنياء أرض الإسلام إلى محاكاة بيل غيتس والأمريكيون الآخرين الذين تبرّع أحدهم بكامل ثروته (مليار ونصف مليار دولار) لمؤسسته، ولمّا سُؤل عن الدافع إلى ذلك أجابت عنه زوجته quot;لأن الأكفان ليس فيها جيوبquot; كما ذكرت جريدة quot;لوموندquot; الفرنسية.
أسس سنة 2005 رئيس الجمهورية العراقية جلال طالباني مؤسسة خيرية لمساعدة المثقفين الفقراء حيث كانوا دون قيد ولا شرط. بعض نساء الرؤساء والملوك العرب انخرطن أيضا في العمل الخيري داخل بلدانهنّ مثل السيدات ليلى بن علي وسوزان مبارك ورانيا عبد الله الثاني. وها هي الشيخة موزة تبادر إلى عمل خيري غير مسبوق لتشغيل الشباب في بلدان تضم حوالي سبعين مليون نسمة.
يا نساء ورجال الخليج، مبادرتها الإنسانية جديرة بالمحاكاة. الخليج المالك اليوم لكمّية هائلة من السيولة النقدية قادر على تنمية دول الجامعة العربية والجارة المسالمة تركيا لخير الجميع.
لقد بات واضحا، بعد أزمة رأس المال المالي المضارب التي قد تدوم طويلا (بين 10 و15 عاما)، أن مجال الاستثمار المضمون هو التنمية المستدامة على الأمدين المتوسط والطويل. أما عصر الاستثمار القصير الأمد فقد ولّى إلى الأبد. من يضارب اليوم في البورصة هو كمن يحرث في البحر!
الإنسان، كما يقول الأنتروبولوجي والفيلسوف الفرنسي رونيه جيرار، يتصرف بدافع من حب المحاكاة. فمتى نسمع بمبادرات خليجية خيرية وتنموية ثانية وثالثة وسادسة تحاكي مبادرة الشيخة موزة الكريمة والشجاعة تهب البسمة لملايين الشباب اليائسين؟ أكثر من 80 % من العاطلين في دول الجامعة العربية شباب دون الثلاثين يسلب اليأس من المستقبل النوم من أجفانهم.
عندما كنت طفلا (13 عاما) يتيما وفقيرا، مرضت بالسلّ. عولجت مجانا في مستشفى quot;عزيزة عثمانةquot; الخيري. منذ ذلك التاريخ انتقش اسمها في ذاكرتي. اليوم أيضا سأذكر وأشكر في سيرتي الذاتية كل من ساعدوني في محنة المرض الذي ما زلت أعاني من عقابيله والذين لولاهم لكنت اليوم ترابا في التراب.
الحداثة التي تنعم البشرية اليوم بمكاسبها مدينة بالكثير لملوك أوروبا المستنيرين الذين أرادوا تخليد أسمائهم وذكراهم بتشجيع فقراء الفلاسفة ماديّا للتصدي للظلامية الدينية التي كانت بالأمس بأوروبا، كما هي اليوم في أرض الإسلام، مُتَغوِّلة. عندما حلّت البأساء بأكثر فلاسفة الأنوار شجاعة فكريّة، أخي ديدرو Diderotفاضطُرّ لبيع أعزّ ndash; وكل ما يملك ndash; مكتبته، إشترتها منه إمبراطورة روسيا، كاترين الثانية العظيمة، وأعادتها إليه.
كما إنتقش إسم عزيزة عثمانة في ذاكرتي، سينتقش اسم الشيخة موزة بنت ناصر المسند واسم كل من سيحاكيها من نساء ndash; أو رجال ndash; الخليج في ذاكرة ملايين الشباب العاطلين الذين سيستقبلون فرص العمل المهداة إليهم كما تستقبل أرض عطشى ماء المطر.