أشرت في مقالي السابق في ايلاف، الى ان المحنة التي يمر بها العراق اليوم هي نتيجة تراكم عوامل عديدة، تاريخية وذاتية وموضوعية، في مقدمتها التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق من الاستبداد والقمع والاستلاب، التي جرت البلاد الى سلسلة من الحروب والحصار المهين، والتي هيأت لغزو العراق واحتلاله وساعدت على نشر حالة الفوضى والعنف والارهاب وتفكيك مؤسسات الدولة واستشراء الفساد والرشوة في جميع مفاصل الدولة والمجتمع، وتقوية المرجعيات القبلية والدينية والطائفية، بحيث وقع العراق في quot;ردة حضاريةquot; تتمثل في التفكك والتمزق والخراب، محاصرا بين قوات الاحتلال، التي لها مصالحها الاستراتيجية التي تتخطى العراق واجندتها التكتيكية التي أدخلت العراق في نفق مظلم طويل ومغلق من جهة، وبين منظمات ارهابية تكفيرية وعصابات اجرامية مرتزقة واحزاب وميليشيات طائفية ذات مصالح خاصة ومجموعات من المهمشين والعاطلين عن العمل وغيرهم من جهة ثانية، وبين حكومة محاصصة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، يستشري بين مفاصلها الفساد وتنخر في جسدها الرشوة والمحسوبية والمنسوبية من جهة ثالثة، وبين شعب ممزق ومنقسم على ذاته وفيه من الصراع الاثني والقبلي والطائفي والطبقي اكثر من اي بلد عربي آخر، مع ضغوط وتدخلات دينية وقومية وطائفية وسياسية من قبل دول الجوار لتشابك العلاقات والمصالح والادوار معها من جهة رابعة.
ان ثقافة العنف والارهاب المستشرية اليوم في العراق، التي وصلت الى حد القتل على الهوية والصراعات الاثنية والدينية والطائفية التي كادت ان تصل الى الاحتراب الاهلي، تثير تساؤلات عديدة: من يقتل من.. وكيف.. ولماذا.. ؟!هل يقتل العراقي أبن وطنه وأخيه وابن عمه وقريبه ألخ؟ وعلى أي شيء..؟ هل على القوة والثروة والزعامة والنفوذ.! ولكن هل يدرك العراقي، بانه لو استمر على هذه الحالة التراجيدية فسوف تغرق السفينة التي تتلاطمها الامواج العاتية وتتجاذبها الرياح والعواصف والمصالح والاهواء، واذا غرقت فسوف يغرق جميع من وما فيها ويحترق الاخضر مع اليابس.. هذه ابسط قواعد اللعبة السياسية.!
لقد هد التعب كاهل العراقيين وكسر ظهورهم الخوف وانطبع العجز والقهر والذل على وجوههم وأكل الموت والانكسار عيونهم، وبدأ البؤس واضحا على ملامحهم القاسية ووجوههم الحزينة المتربة .
ان ما طال الانسان والمجتمع والثقافة والدولة من خراب، يدعونا اليوم الى الوقوف طويلا أمام المرآة للتعرف على ذاتنا المنقسمة ونقدها، وقفة تأمل عميقة مع الذات المنكسرة، خصوصا ونحن نقف اليوم على اعتاب مرحلة حاسمة في تاريخنا الحديث ونمر بامتحان صعب وعسير لوطنيتنا، اذ يجب الخروج من البند السابع لنصبح دولة مستقلة ذات سيادة كاملة وغير منقوصة. ولتحقيق ذلك هناك مستلزمات اساسية يجب تحقيقها ترتبط بالاتفاقية الأمنية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الاميركية التي سيجري توقيعها في الاشهر القادمة. وأولى تلك المستلزمات هي الوحدة الوطنية الحقيقية التي تحتاج الى وعي وطني جمعي ثاقب ومراجعة شاملة لما نحن فيه والوقوف صفا واحدا متينا لاستخدام جميع وسائل الضغط الممكنة لرفض الاقتراحات الاميركية المجحفة التي لا تحفظ للعراق وحدته واستقلاله وأمنه وكرامته، لان سيادة العراق هي خط احمر لا يمكن المسساس به مطلقا، وكذلك ضرورة الاعلان عن بنود الاتفاقية في جميع وسائل الاتصال باسرع وقت ممكن لافساح المجال الكافي لمراجعتها ومناقشتها مع ضرورة توفير ظروف وشروط ذات شفافية ووضوح عالية خلال المفاوضات حتى يتوفر اجماع عراقي وطني واسع عليها وعدم استبعاد أي طرف من الاطراف من المساهمة الفاعلة في مناقشتها وابداء الرأي فيها وان لا تتضمن أية بنود سرية او بروتوكولات اضافية من الممكن تمريرها.
ولذلك، نحن اليوم بحاجة الى مصالحة وطنية حقيقية من الداخل يدفعها وعي وطني أصيل لحمته الثقة والتسامح وسداها الوفاق والتواصل والتفاهم والحوار العقلاني الرشيد وليس العاطفي المتسرع والمنفعل، بالرغم من وجود صعوبات وعوائق ومطبات تقف حجر عثرة امام كل ذلك. ومع ذلك، علينا ان نقف بثبات وثقة وتفاؤل ونضع مصلحة الوطن أمامنا وان ننظرالى مستقبل الجيل الجديد، الذي يعيش البؤس والانكسار والضياع وفقدان الأمل... فالمصيبة هي انه اذا استطاع العراق اعادة بناء البنية التحتية في سنوات قليلة، فليس من السهل عليه بناء الانسان المكسور والمحطم نفسيا واجتماعيا واخلاقيا، فقد يحتاج ذلك الى سنين طويلة.!
وعلينا ان نخطو الخطوة الاولى بأرجل ثابتة ونبدأ بنبذ العنف والعداوة والكراهية والبدء بالمصالحة مع الذات ومراجعتها أولا واعتراف كل من شارك في العنف أو أقترف أثما من الاثام بحق الشعب والوطن والاعلان عن ذلك، فالندم هو الخطوة الاولى والاساسية في طريق المصالحة مع الذات ومع الاخر والوعي بها وتحمل المسؤولية، أي الاحساس بما اصاب الاخرين من أذى وعدم نسيان او تناسي ما مر على العراق من كوارث وآلام ومحن، اليوم وليس غدا أو عند الموت، وان ندرك تماما باننا لم نكن مجرد قتلة وضحايا فحسب، وانما شركاء في الجريمة.
والخطوة الثانية هي ان نلملم اشلاء ضحايانا المبعثرة في كل مكان وان نمسح دموع الارامل والثكالى والايتام ونربت على اكتافهم المثقلة بالالام وان نداوي قروح الجرحى والمقعدين والمحطمين نفسيا والمتشردين والهاربين الى المنافي والمغتربين في وطنهم.
أما الخطوة الثالثة فهي ان نكون شجعانا، ولو لمرة واحدة، وننزل عن بغلتنا ونتسلح بالحكمة والجرأة والعقل ونترك المكابرة والعنجهية البدوية و ونعترف بما قمنا به من خطايا وما ارتكبت ايدينا من تجاوزات، وان نظهر علامات الشعور بالندم والتوبة على ما اقترفت أيدينا من ذنوب وآثام وما قمنا به من عنف وظلم وقسوة في حق الشعب والوطن والامة، ففي كل واحد منا قاتل وضحية في آن.
ان الاعتراف بالاخطاء والذنوب والخطايا والتجاوزات، التي شارك الجميع فيها، سوف يوفر فرصة ذهبية سانحة للتفكير والتأمل في تجارب الماضي والحاضر المريرة والتعلم من الاخطاء السابقة واستخلاص الدروس والعبر.
فالاعتراف بالاخطاء وتجاوزها هو اعظم فضيلة من الممكن ان نقوم بها اليوم وهو أقل ما يمكن تقديمه للوطن..!
وبذلك يمكن استعادة القيم الاجتماعية الاصيلة التي افتقدها العراقيون في العقود الاخيرة. وهي مهمة كبرى لاستعادة الثقة بالنفس واعادة الاعتبار للذات المنكسرة وفتح ابواب التفاهم والتواصل والحوار المسدودة من جديد . فيكفينا ما دفعناه من ثمن باهظ من الدماء والدموع. وان اعادة الثقة بالنفس وبالآخر وعدم الخوف منه والتفاؤل بالمستقبل، هو الطريق الوحيد لبناء جسور الثقة والمحبة والتسامح من جديد .
فهل نملك الشجاعة الكافية للاعتراف بالخطايا والذنوب والاعتذار عن الافعال والاقوال التي قمنا بها، أم نستمر في سباتنا وعنادنا وكبريائنا الفارغ ونضع رؤوسنا في الرمال ؟!