كانت ثورة 14 تموز احدى نتائج التحولات البنيوية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية المحملة بالارهاصات والتغيرات والتناقضات التي حدثت في العراق، اضافة الى ما حدث في المنطقة العربية وغيرها من الدول التي كانت تسمى quot;بالعالم الثالثquot; او quot;الدول التي تسير في طريق النموquot;، التي طالبت بالاستقلال والخروج من ربقة الاحتلال. وبدأت في تلك الفترة حركات التحرر الوطني بأندفاعات شعبية كان من نتائجها التضحية بهامش الليبرالية والديمقراطية المتواضع، حيث اعتبرت الاستقلال هو الغاية والهدف، ولذلك يمكن تأجيل الديمقراطية والتعددية البرلمانية. ومن ذلك الوقت بدأ الحجر على الحريات العامة. وعندما استقلت بعض الدول العربية وتخلصت من الاستعمار، ولو شكليا، لم تفي بوعودها في اشاعة الحرية وتطبيق الديمقراطية، وانما طبقت تعددية برلمانية شكلية وناقصة.
ومهما اختلفت الآراء بشأنها، فان ثورة تموز احدثت تغيرات جذرية في التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تخطت في ابعادها كونها مجرد انقلاب عسكري. وبالرغم من أهمية الانجازات الوطنية العديدة، التي تحققت في ظلها، وفي مقدمتها التغيير الاساسي لنظام الحكم من الملكي الى الجمهوري، فقد حققت انجازات وطنية بارزة تجاوزت الطوائف والمذاهب والاثنياتمنها:
1- اصدار قانون الاصلاح الزراعي، الذي اخترق العمق الريفي، بالرغم من تعثر تطبيقه.
2- اصدار قانون رقم 80 الذي قلص من نفوذ شركات النفط الغربية ووضعت الحكومة العراقية يدها على ما يعادل 99،5% من الاراضي العراقية في مناطق ذات امكانيات كبيرة من النفط لابد من استغلالها.
3- نمو وتوسع الطبقة الوسطى، التي كان من المفروض ان تقود العراق الى بناء الدولة الوطنية المستقلة على ايدي السياسيين المدنيين.
4- الخروج من حلف بغداد وانتهاج سياسة عدم الانحياز وغيرها.
5- اصدار دستور مؤقت وقانون الاحوال الشخصية الذي اتاح للمرأة العراقية ان تنال، ولأول مرة، بعض حقوقها.
5- الغاء قانون دعاوى العشائرالعراقية الذي اصدره الانكليز من اجل تثبيت العلاقات والعصبيات القبلية وترسيخ علاقات الملكية الكبيرة في العراق.
والحقيقة مثلت ثورة 14 تموز منعطفا تاريخيا هاما في تاريخ العراق الحديث، رفع بعد مخاض عسير، من مستوى الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي، وعملت دون غيرها توازنات بين الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة عندما خلقت وضعا جديدا وجدت فيه الفئات المهمشة والمقموعة والفقيرة فرصتها التاريخية لتشارك في بناء المجتمع والدولة.
ولكنها، في ذات الوقت، تركت ارثا سياسيا مفعما بالتعارضات ماتزال تداعياته تحكم وتتحكم بالمسرح السياسي الراهن، الذي افرز تمويها في اشكالية العلاقة الملتبسة اصلا بين الدولة والسلطة في العراق وهو ما ادى الى اضعاف السلطة الدستورية والتهام مؤسسات الدولة المدنية والتمهيد لنمو المؤسسة العسكرية نموا هجينيا.
والحال كانت ثورة 14 تموز اعلانا عن تعثر الحركة الوطنية ومن ورائها الطبقة الوسطى، التي لم تحقق المهام الكبيرة التي حملتها على اكتافها، رغم قابليتها على ان تعيش وتتطور وان تتحول الى بلد كان من الممكن ان يتحقق فيه هامشا من الديمقراطية.
وبقدر ما اشاد العراقيون بالجيش العراقي، الذي امتاز بالقوة والبأس وادعاءه بانه quot;من الشعب والى الشعبquot;، إلا انه فشل في الاخير في ان يكون أمينا ومدافعا عن الشعب، الذي هو منه، ولكنه نجح في خلق قادة وتأليههم. وهو ما قاد في الاخير الى اجهاض الثورة قبل ان تستكمل شروط تكاملها على يد المؤسسة العسكرية التي توسعت توسعا هجينبا وساعدت على ضرب الاحزاب التي تمثلها من جهة وصعود الاحزاب الثورية(الشمولية) وضرب الحركات الديمقراطية التي اخذت تنمو منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانهاء الاحزاب الوسطية، التي كانت تدعو الى هامش من الديمقراطية، مما دفع الى الابطاء في تكوين مؤسسات المجتمع المدني وتأخير التحول الى الديمقراطية، وفي ذات الوقت، تهيأة الظروف المساعدة لصعود دولة البعث في شكلها الأولي الى السلطة، التي اخذت تهيمن بالتدريج على جميع المؤسسات وخاصة العسكرية وتحقيق السيطرة الشاملة على جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية وتنفيذ سلسلة من الخطوات والاجراءات لاحتكار السلطة وترسيخ الدولة الشمولية ذات النزعة العسكرية التوسعية وتحجيم خطط التنمية والتحديث الوطنية للقيام بأول مغامرة عسكرية طائشة في شن الحرب على ايران والتحول نحو النظام الدكتاتوري وزج العراق في سلسلة من الحروب والكوارث والدمار والحصار الاقتصادي الذي قاد في الاخير الى احتلال العراق وتفكيك الدولة وتمزيق المجتمع العراقي.
عبد الكريم قاسم
لقد خلقت الظروف الموضوعية والذاتية من الزعيم عبد الكريم قاسم شخصية quot;كارزميةquot; جمعت خصائص عدة من بينها انه لم يكن ينحدر من مناطق الاطراف الاكثر قبلية، وانما من منطقة حضرية في وسط العراق. فهو معتدل سياسيا ومتسامح مذهبيا، ولذلك انتهج سياسة quot;عفى الله عما سلفquot; وعمل بوسعه على التوازن، بين ثقل المؤسسة العسكرية وبين الاحزاب السياسية، ففشل، في تخفيف حدة الصراعات التي احتدمت في فترة حكمة. ولكنه كان عصاميا وزاهدا ومتواضعا ومستقيما بسبب ايمانه بالعدالة والمساواة في توزيع الحقوق والواجبات ولان من أولوياته جمع العراقيين في هوية وطنية واحدة واتخاذه مبدأ المواطنة والكفاءة معيارا لإشغال الوظائف العامة في الدولة.
لقد حاول الزعيم عبد الكريم قاسم ان ينأى بنفسه عن المحاصصة بجميع انواعها وعن الانحياز لهذه الجهة او تلك وان يكونquot;فوق الميول والاتجاهاتquot;. وكان يريد منح الثورة بعدا اجتماعيا وديمقراطيا وفق رؤية توفيقية وواقعية لا تريد حرق المراحل مرة واحدة، وهو سبب من اسباب اصطدامه مع الاحزاب السياسية.
وكان الزعيم قد تعهد امام مراسل جريدة لوموند الفرنسية ادوارد صعب في آخر مقابلة له يوم الخامس من شباط 1963، أي قبل اسبوع من الانقلاب عليه من قبل حزب البعث، بان لجنة ستتشكل نهاية شهر شباط عام 1963 لتكلف باعداد مشروع دستور دائم وقانون انتخابات جديد يعتمد على دساتير اجنبية وعربية وان يكون عام 1963 عام ولادة الجمعية الوطنية العراقية.
لقد اتخذ quot;الزعيمquot; منذ البداية صورة quot;كارزميةquot; رومانسية انطبعت في عيون العراقيين، لحاجة الناس الى من quot;يقودهمquot; ويهتم بهم ويرعاهم. وقد تعززت تلك الصورة بسلسلة من الاعمال والقوانين والاصلاحات الهامة، التي ميزت ثورة 14 تموز عن غيرها، وبخاصة اهتمامه بالفقراء والمظلومين والمهمشين ومن ذوي الدخل المحدود.
غيران الخلافات الفكرية والسياسية وعدم الانسجام بين قادة الثورة وتضارب مصالحهم، الذي توسع وامتد الى الاحزاب السياسية، وكذلك الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، اضافة الى موقف مصر عبد الناصر المحرض لوقوف عبد الكريم قاسم ضد الوحدة الفورية، وكذلك موقف كل من بريطانيا والكويت، الذي كان له دور كبير في اسقاط ثورة 14 تموز ومجىء حزب البعث الى السلطة بانقلاب دموي عام 1963، وذلك لان أول خطوة قامت بها ثورة 14 تموز هي حلها لحلف بغداد، بعد ان كان العراق المركز الرئيسي له.
ومع ذلك فللزعيم عبد الكريم قاسم سلبياته ايضا وفي مقدمتها مثاليته ونزوعه الثوري الطوباوي، الذي تغذى من المؤسسة العسكرية والتقاليد الاجتماعية-السياسية واعتماده على آليات وأدوات السلطة التقليدية في تحقيق الاهداف الوطنية، التي ساعدت على تأخير التحول نحو الحكم المدني، رغم الحاح كامل الجادرجي وضغطة عليه لأجراء انتخابات ديمقراطية وترك الامور بيد النخبة السياسية المدنية. غير ان الرياح لم تكن تجري بما تشتهي السفن، لأنها كانت عاصفة لعبت بالسفينة فأخذتها الامواج الهوجاء نحو الشرق مرة ونحو الغرب مرة اخرى، وربما لم يكن باستطاعة أي ربان ماهر توجيه دفة السفينة نحو شاطىء الامان وهي تعصف بها رياح عاتية من كل مكان.