الثلاثاء: 2006.05.30

حازم صاغيّة


في تعهّده الأخير نشرَ laquo;الحريّةraquo; في العالم، تفوح رائحة تبشيريّة لم يبخل علينا جورج بوش بمثلها، إلا أنها نادراً ما كانت قويّة قوّتها الآن.

والتبشير، في أحد أوجهه، استعاضةٌ بالرغبات عن تعقيد الواقع، وإطلاقٌ للأماني بحيث تنوب مناب الوقائع.

وفي حال الرئيس الأميركي، واستطراداً حليفه البريطاني توني بلير، يتبدّى معنى التبشير هذا قياساً بنقطة الانطلاق، أي حرب العراق التي لم يجرِ إعداد عسكريّ وتقنيّ لازم لها، ولا وُضعت خطّة سياسيّة واقتصاديّة لما بعد إنجاز النصر العسكري هناك. هكذا طغى توقّع الورود والأرزّ تُنثر على الجنود الأميركيين فلم يترك مكاناً لمعرفة العراق وتعقيداته وملله ونحله.

وفي الغضون هذه، وعلى ما يقول التعهّد الأخير بنشر laquo;الحريّةraquo; (لا الديموقراطيّة طيّب الله ثراها!؟)، استأنف الجهل مسيرته الظافرة. هكذا ماثل جورج بوش بين حربه على الإرهاب من أجل الحريّة وبين الحرب الباردة ضدّ الشيوعيّة وكتلتها. بيد أنه، هنا أيضاً، تعامى، في جملة واحدة، عن جبل من الحقائق في عدادها أن النزاعات تختلف اليوم عنها في ظل الاستقطاب الثنائيّ الذي كانت تؤطّره أجسام دولتيّة مضبوطة، كما يختلف نوع السلاح ومدى انتشاره ومدى قابليّة الطرف الآخر للانقشاع والتعيين.

بكلام آخر، تستمرّ النوايا الحسنة، على افتراضها كذلك، غطاءً لأميّة في البيت الأبيض غير مسبوقة في حجمها، ولكنْ أيضاً في مواظبتها وإصرارها مما هو معهود في المبشّرين.

وفي هوّة كهذه تسقط تجارب إيجابيّة في حصيلتها العامّة، فيسيء التدخّلُ الجاهل والمدّعي لأعمال تدخّليّة أشدّ حصافةً وأكثر تواضعاً، كالتي سبق أن شاهدناها في بلدان كسييراليون وفي مناطق ككوسوفو وتيمور الشرقية وغيرهما. وتسقط في الهوّة نفسها أسباب وجيهة لتدخّلات كتلك، بعضها إنسانيّ بحت وبعضها الآخر مصلحيّ يلحّ عليه التداخُل الذي تُحدثه العولمة بين البشر والقضايا والأسلحة. وإذ تتردّى نزعة التدخّل المتواضع الذي لا ينوي تغيير العالم في ساعات قليلة، تتعزّز في البلدان الغربيّة اتجاهات العزلة التي يتسابق معظم المرشّحين الديموقراطيين المحتملين للرئاسة على إبدائها. وحتى في بريطانيا، يتردّد في الإعلام أن غوردون براون، وزير الخزانة المرشّح للحلول محلّ بلير، سينعطف كليّاً، في حال انتقاله الى 10 داوننغ ستريت، عن سياسات سلفه الموغل، بدوره، في التبشير.

لكن نشر الحريّة يكتسب، كما بتنا نعلم، أرضاً جديدة في أفغانستان التي تتهيّأ للاحتفال بالذكرى السادسة للحرب بالإعلان عن انبعاث laquo;طالبانraquo;. وعلى النحو هذا، وعلى وزن laquo;طريق الحريرraquo; القديمة، بات يسعنا الكلام على laquo;طريق الحريّةraquo; (أو الديموقراطيّة!؟) التي تتجه من الصومال باتجاه شمال شرقيّ الى العراق، ومنه تكمل صعودها في الاتجاه عينه الى أفغانستان. وعلى الامتداد هذا، يمكن أن نكتب: laquo;الحريّة مرّت من هناraquo;!

لكنْ كما يتبدّى معنى التبشير قياساً بنقطة الانطلاق، فإنه يتبدّى بالفصل الختاميّ، أو ما يُرجّح أن يكون كذلك. ذاك أن الخلفيّات التي أشير إليها لم تؤسّس لصانعها وضعاً أفضل مما يعيشه اليوم جورج بوش وتوني بلير، تدنياً في الشعبيّة واحتمالاً متوقّعاً لسقوط الثاني في أيّة لحظة. يكفي القول إن عبارة النائب جورج غالاوي، التي تشبه صاحبها، عن وجود laquo;تبرير أخلاقيّraquo; لمن يفجّر نفسه ببلير لم تجد الاستهجان الذي تستحقّه في بلد كبريطانيا!

وأبعد مما عداه، أن المبشّر يكذب، وأنه كلّما بشّر أكثر كان يكذب أكثر. فالمطروح، الآن، على جدول أعمال جورج بوش ليس الحريّة بل خطّة الخروج وكيفيّاتها. وهذا لئن جاء انتصاراً مُبيناً لكلّ أعداء الحريّة، جاء أيضاً توكيداً لقول القائلين إن الكذب هو الجسر الوحيد الذي laquo;يصلraquo; بين الواقع والتبشير.