د. سعد الدين إبراهيم


بشّر الرئيس الأمريكي جورج بوش، ووزيرة خارجيته كونداليزا رايس بميلاد شرق أوسط جديد ، وقد سمعت تفصيلات عن هذا المولود الجديد من مسئولين أمريكيين كبار، في اليوم التالي لزيارة وفد رسمي مصري رفيع المستوي لواشنطون، قبيل أيام من انفجار الحرب الإسرائيلية علي لبنان. وكانت قد سبقت هذه الزيارة المصرية زيارات لوفدين أحدهما أردني والآخر سعودي لنفس العاصمة الأمريكية. وكان الحديث في واشنطون هو عن محور إقليمي رباعي جديد، يتكون من مصر والسعودية والأردن وإسرائيل، وتدعمه الولايات المتحدة وذلك لمناهضة محور الشر الإرهابي الذي يتكون من إيران وسوريا وحزب الله وحماس.

وقد رددت علي هذا المشروع المقترح بمقال لي في صحيفة الواشنطون بوست بنفس العنوان الرئيسي، ولكن بعنوان فرعي مختلف، نعم: شرق أوسط جديد، ولكنه غاضب وإسلامي وديمقراطي .

وهذا هو أهم ما ورد في المقال:

- أولاً، هناك شرق أوسط جديد، يتشكل بسبب وفي أعقاب هذه الحرب اللبنانية الإسرائيلية، والتي دامت خمسة أسابيع (12/7 - 16/8/2006). وهو أمر طبيعي بعد كل الحروب والثورات. وما أكثرها في منطقتنا، خلال الفترة الأخيرة.

- ثانياً، إن الشرق الأوسط الجديد الذي يولد هذه الأيام لن يكون شبيهاً لما حلم أو يحلم به جورج وكونداليزا. ولن يكون محباً أو حليفاً للأمريكيين. إنه سيولد عبوساً قمطريرا، غاضباً، ولو إلي حين. ثم حينما يهدأ صراخ هذا الوليد الجديد، وتنكشف ملامحه، سيتضح للجميع أنه إسلامي ، وأن جيناته شرق أوسطية أصيلة، وليست هجينية من صلب جورج وكوندي. سيحمل الشرق الأوسط الجديد ملامح حزب الله اللبناني، وحماس الفلسطينية، والإخوان المسلمين المصرية، وحزب العدالة والتنمية التركي، وحزب العدالة والتنمية المغربي. فهذه الحركات والجماعات والأحزاب أثبتت جدارتها اجتماعياً واقتصادياً، قبل أن يعلو صوتها سياسياً، ويشتد ساعدها عسكرياً. فالأبعاد الخدمية لها سبقت الجوانب النضالية أو رافقتها جنباً إلي جنب.

وربما كان وسيظل هذا التكامل الإنساني المجتمعي هو الذي جعل محاولات القضاء عليها غير مجدية بالمرة. ونحن علماء الاجتماع والأحياء ندرك أن الكيانات الحية تستمر في البقاء طالما تكيفت مع بيئتها، وطالما كانت لأعضائها وظائف تخدم وتساعد هذا الكيان في البقاء. وهذه الأحزاب والجماعات والحركات تلبي وظائف هامة لقطاعات كبيرة من أبناء مجتمعاتها. بل أكثر من ذلك نجحت هي حيث فشلت الدولة الوطنية الحديثة، خلال العقود الستة الماضية (1945-2005). لذلك تجذرت هذه الحركات، والتي اتخذت من الإسلام مرجعية وشعاراً. وستظل موجودة وستنمو سواء أحب ذلك جورج بوش، أو كره. لقد باءت بالفشل محاولات أربعة عهود مصرية (الملك فاروق، عبدالناصر، السادات، ومبارك) في القضاء علي الإخوان المسلمين.

كذلك باءت بالفشل ثمانون عاماً من الكمالية في تركيا في اقتلاع المرجعية الإسلامية لدي الشعب التركي. أما حزب الله ذو المرجعية الإسلامية الشيعية فقد صمد لربع قرن، أفني فيها، خمسة رؤساء وزراء إسرائيليين (مناحم بيجن أتزاك رابين - بيبي نيتانايهو- أيهود باراك- أريل شارون). وها هو علي وشك إفناء سادسهم، أيهود أولمرت. كذلك أفني أربعة رؤساء أمريكيين، حاولوا جميعاً، سحقه بمفردهم أو بمساعدة إسرائيل وهم رونالد ريجان، وجورج بوش (الأب)، وبيل كلينتون، وجورج بوش (الابن).

- ثالثاً، إن الحركات الإسلامية المذكورة في هذا المقال استطاعت إلي تاريخه أن تتجاوز الأمراض السياسية المهلكة في الشرق الأوسط. لقد تغلبت علي معضلة اختيار القيادات ومشكلة الفساد. فالإخوان المسلمون، مثلاً، توارد علي قيادتها ستة مرشدين (حسن البنا - حسن الهضيبي - عمر التلمساني - حامد أبو النصر- مأمون الهضيبي وأخيراً مهدي عاكف). وحزب الله توارد علي قيادته ثلاثة أمناء، خلال 24 سنة: أي معدل زعيم كل ثماني سنوات. ونفس الشيء بالنسبة لحماس خلال العشرين سنة، التي هي كل تاريخها (ياسين الرنتيسي وإسماعيل هنية) وهذه النزعة في الإحلال والإبدال السلمي للقيادات هو عملة نادرة، لا فقط بين رؤساء الدول، بل ورؤساء الأحزاب في عالمنا العربي.

فالقذافي في قمة السلطة الليبية منذ 37 عاماً، وعلي عبدالله صالح علي قمة السلطة اليمنية لأكثر من 27 عاماً، ومبارك علي قمة الرئاسة المصرية منذ 25 عاماً. وينطبق نفس الشيء علي الأحزاب العلمانية مثل الوفد، والتجمع، والعمل في مصر، والاستقلال والاتحاد الاشتراكي في المغرب. وعدم تغيير وتبديل القيادات دورياً هو أحد أسباب إصابتها بتصلب الشرايين، وفقر الخيال والإبداع، ونضوب الشجاعة. لذلك انفضت الناس عنها.

أما مشكلة الفساد فقد تجاوزتها الحركات والأحزاب الإسلامية، رغم الزيادة المطردة في مواردها المالية. وذلك بفضل أسلوب الحياة البسيط والمتواضع للقيادات. لقد زار هذا الكاتب قيادات حزب الله وحماس والإخوان المسلمين وحزب العدالة والتنمية المغربي سواء في مكاتبهم أو مساكنهم، خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وأشهد أن البساطة والتواضع هما السمتان المشتركتان بينهم جميعاً من لبنان إلي غزة إلي مصر إلي المغرب. كذلك بقت هذه القيادات في قلب الأحياء الشعبية التي نشأت فيها. لذلك فإن ملاهي الحياة لم تغرهم بالفساد أو الانحراف علي الأقل إلي تاريخ كتابة هذا المقال (أغسطس 2006).

إن الغضب العربي والشرق أوسطي هو غضب مثلث ضد إسرائيل والولايات المتحدة والحكام العرب المتواطئين معهما في العدوان علي لبنان، وقبله العدوان علي حكومة حماس والبنية الأساسية في لبنان وغزة. وهذه هي المرة الأولي في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، التي يري فيها ثلثمائة مليون عربي ومليار مسلم بشاعة العدوان الإسرائيلي يومياً علي شاشات التليفزيون. لذلك فالغضب والإحباط والشعور بالمهانة هو شعور غير مسبوق. لقد نزعت الجماهير العربية ما تبقي من شرعية أنظمتها الحاكمة، حتي إذا استمرت عاجزة عن إزاحة هذه الأنظمة من كراسي السلطة.

تبقي المسألة الديمقراطية. وهنا تقاطع غريب بين ما يريده جورج بوش وما يمارسه معظم الإسلاميين بالفعل. فحزب الله، وحماس، والإخوان المسلمون، وحزبا العدالة والتنمية في تركيا والمغرب قد قبلوا ومارسوا الديمقراطية الانتخابية. بل وربما أجادوها أكثر مما كانت ترغب الولايات المتحدة. صحيح أنه ما تزال هناك شكوك مشروعة في مدي إيمان أو التزام الإسلاميين بقيم وممارسات الحرية. ولكن هذا الشك يتحول إلي يقين في حالة حكامنا الطغاة. وبين شكّنا في احترام الإسلاميين للحريات العامة والشخصية من ناحية واليقين في أن غيرهم من الحكام المستبدين قد انتهكوا هذه الحريات فعلاً كما لم يفعل ذلك لا مستعمرين ولا أجانب ولا إسلاميين.

والاستثناء الدرامي من هذه الملاحظة هم حركة طالبان في أفغانستان وأنصار حسن الترابي في السودان ومتشددون الثورة الإسلامية في إيران. وأصحاب هذه الاستثناءات الثلاثة أتوا للسلطة بالمنهج الانقلابي العنيف، ولم يأتوا لها بالمنهج السلمي أو الديمقراطي. وشتان ما بين تنظيم القاعدة وحركة طالبان من ناحية وحزب الله وحماس والإخوان من ناحية أخري. فالأولي لا تؤمن لا بالديمقراطية ولا بالانتخابات، وتعتبرها أنظمة حكم غربية مستوردة، تؤدي إلي الانقسام والتشتت. بينما الأخيرة قد وجدت ضالتها في الديمقراطية. والشاهد أن أنصار بن لادن، والظواهري، والترابي هم في تناقص مستمر، بينما الأنصار والمعجبون بحزب الله وحماس والإخوان هم في تزايد مستمر. وهو ما يعني أن الشرق الأوسط الجديد الذي يساهم في تشييده إسلاميون، من تركيا شرقاً إلي المغرب غرباً، سيكون ديمقراطياً إن آجلاً أو عاجلاً. والله أعلم.