نفط العراق... بين حكامه الأكراد والعرب

محمد عارف

ابتهج الرئيس جلال الطالباني عندما أخبره الضابط الكردي أن مدافع الفرقة تصيب الهدف من مسافة 60 كيلومتراً، وسأله: quot;وإذا كان الهدف على بُعد كيلومتر واحدquot;؟.. قال الضابط: quot;نسحب المدافع مسافة 59 كيلومترا ونضربquot;. هذه النكتة تصوّر تكتيك السياسيين الأكراد المتعاونين مع الاحتلال في الاستيلاء على حقول النفط والغاز العراقية. وللأكراد فضل اللعب على المكشوف بالمقارنة مع زعماء عرب يتعاونون مع الاحتلال وفق المثل المشهور: quot;يُصَّلون وراء الإمام علي، ويأكلون على مائدة معاويةquot;! والله يعلم من أين لمهندسي وخبراء النفط الوطنيين تفاؤلهم الذي قد تصوره نكتة أرجو أن تتسع لها خاتمة هذه المقالة.
وأسباب الضحك كثيرة مع المسؤولين الأكراد، وأولها تحويل جغرافية وهوية جبال، وتكوينات جيولوجية، وحقول نفطية معروفة. يعرض تفاصيل ذلك مهندس وخبير النفط فؤاد الأمير في دراسة عنوانها quot;حكومة إقليم كردستان وقانون النفط والغازquot;. ويذكر الأمير في دراسته، التي تقع في 28 ألف كلمة أن عقد المشاركة الذي وقعه الأكراد مع شركة quot;هنت أويلquot; Hunt Oil الأميركية، لا يخالف الدستور العراقي فقط، بل quot;القانون الكردي للنفطquot; أيضاً، وتنقض عقده بصورة سريّة ادِّعاءات المسؤولين الأكراد الالتزام بالشفافية.

يشمل العقد جبال quot;قندquot; وquot;فجرquot; وquot;نرجسquot; وquot;عين سفنيquot;، وهي حسب نشرة نفط الشرق الأوسط quot;ميسquot; MEES، تراكيب معروفة تقع في محافظة نينوى الواقعة خارج كردستان. وفي حين يعلن المسؤولون الأكراد داخل العراق أنها في محافظة quot;دهوكquot; الكردية، يؤكدون في الولايات المتحدة أنها في محافظة نينوى والتي هي، حسب ادعائهم، quot;تاريخياً كردية، ولكن العرب يطالبون بهاquot;!

ومن يسهُلُ عليه التلاعب بهوية واحدة من أشهر العواصم في التاريخ، لن يصعب عليه التلاعب بالجيولوجيا. حدث ذلك بتحويل هوية quot;طق طقquot; من quot;حقلquot; غني باحتياطياته النفطية الممتازة إلى quot;رقعةquot; نفطية يجوز إدخالها في ما يسمى quot;عقود المشاركة في الإنتاجquot;. وهنا quot;مربط الفرسquot; في الصراع الجاري حول نفط العراق. فهذه العقود تحقق هدف الاحتلال بالاستحواذ على ثالث، وربما أول احتياطيات نفطية في العالم. ويعارض أغلب خبراء ومهندسي النفط العراقيين هذه العقود التي رفضتها أكبر ست دول منتجة للنفط. ولا تُستخدم هذه العقود إلاّ في حقول نائية غير مجزية تحتاج إلى عمليات تطوير مكلفة تستغرق سنوات طويلة. وحقل quot;طق طقquot; الذي حفر فيه المهندسون العراقيون ثلاث آبار في أواخر السبعينيات، قد يكون أثمن اكتشاف في شمال العراق منذ العثور على حقول كركوك مطلع القرن الماضي.

وقد حدث لحقول quot;خرمالةquot; وquot;كورمورquot; وquot;جمجمالquot;، ما حدث لحقل quot;طق طقquot;. وإذا كانت quot;طق طقquot; بالنسبة لحكومة الإقليم الكردي مسرحية هزلية، فهي بالنسبة لحكومة بغداد مهزلة مأساوية. فالمسؤولون في quot;وزارة النفط الاتحاديةquot; لم يدروا ما حدث لـquot;طق طقquot; إلاّ عندما طلبت quot;وزارة النفطquot; في إقليم كردستان تحويل هويته من quot;حقلquot; إلى quot;رقعةquot;. وكان قد مضى آنذاك ثلاث سنوات على توقيع العقد، والعمل جار في الموقع بمعدلات جيدة منذ عامين، حسب ادّعاء quot;شركة عمليات طق طقquot; Taq Taq Operating Company التي يملكها كونسوريوم كندي تركي!

والاستيلاء على قبة quot;خرمالةquot; يمثل quot;الطلقة الأولى في معركة حكومة إقليم كردستان للسيطرة على كركوكquot;، حسب نشرة النفط الأميركية PIW. فهي واحدة من ثلاث قبب يتكون منها حقل كركوك، والتعامل المنفرد مع إحداها يهدد بانهيار الحقل الذي يُعّدُ أقدم الحقول العراقية المكتشفة. وتثير دراسة المهندس quot;فؤاد الأميرquot; تساؤلي عن جدوى الرهان على القوى المتعاونة مع الاحتلال؟ ألم توافق حكومة المالكي بشكل سري على quot;قانون النفط والغازquot; الذي ندّد به معظم خبراء النفط العراقيين، وكشف عن هفواته القانونية quot;مجلس شورى الدولةquot;؟ وما قيمة الاحتكام إلى quot;الدستورquot;، وهو حسب اعتراف الأمير، quot;حمّال أوجهquot;؟

وقد صيغ الدستور والقانون حسب quot;قاعدة ترومانquot; التي ابتكرها رئيس الولايات المتحدة الأسبق هاري ترومان: quot;إذا لم تستطع أن تقنعهم شوِّشهمquot;. ولجأ المحتلون والمتعاونون معهم إلى أعتى وسائل التشويش: ذبح وتشريد الملايين من أبناء العراق، وبذر الفتنة الإثنية والطائفية بين سكانه. والآن يدرك أكثر العراقيين أن quot;الدستورquot; وquot;مجلس النوابquot; وquot;قانون النفط والغازquot;... من بذور الفتنة الشريرة. ولا يجهل ورثة أغنى الحضارات بالقوميات والأديان والعقائد، أن وضع المصالح الإثنية والطائفية فوق مصالح الدولة يؤدي إلى التضحية بكليهما.
أرجو أن يدرك ذلك أكاديميون عراقيون أودّهم ساهموا أخيراً بإنشاء مركز استشارات وبحوث في لندن يحمل اسم quot;العراق للطاقةquot;. يرأس مجلس أمناء المركز علي علاّوي الذي ارتبط اسمه بكتابة ما يُسمى quot;البيان الشيعيquot; المشهور، وكان أول وزير دفاع بعد الاحتلال، وتولى وزارة المالية في حكومة الجعفري. ويضم مجلس الأمناء موظفين سابقين في احتكارات النفط quot;بريتيش بتروليومquot; وquot;شيلquot; وquot;بكتلquot; التي تستهدفها شعارات المتظاهرين حول العالم: quot;ارفعوا أيديكم عن نفط العراقquot;. وبين الأمناء مدير شركة خليجية عقدت quot;بروتوكول التحالف الاستراتيجيquot; لتطوير الغاز في كردستان، فيما كانت وزارة النفط العراقية تفاوض حول المشروع شركة هندية! ومع أن مركز quot;العراق للطاقةquot; لم يعلن بعد موقفه من موضوع quot;عقود الإنتاج المشتركةquot;، إلاّ أنّ ناطقه الرسمي كتب مقالة مقذعة ضد معارضي هذه العقود، والذين يشكلون الأغلبية المطلقة من مهندسي وخبراء النفط العراقيين.

وشراء ضمائر خبراء النفط العراقيين هو الهدف الأساسي الآن لاحتكارات النفط العالمية، والتي تشارك في مؤتمر للمغتربين العراقيين تنظمه quot;وزارة التنمية الدوليةquot; البريطانية. موضوع المؤتمر الذي يُعقد هذا الشهر في الكويت quot;تنشيط الأعمال في منطقة البصرةquot;. ويعقبه مؤتمر مماثل في لندن في أبريل المقبل.
وليس كخراب البصرة برهان على فساد الاحتلال. فالبصرة لم تشهد ما يُسمى quot;مذابح طائفيةquot;، وهي توّفرُ حسب تقديرات لندن quot;90% من موارد العراق و70% من احتياطياته النفطيةquot;. مع ذلك لا تجد لندن ما تُغري به المستثمرين سوى الوعد بأن يصبح العراق روسيا أخرى! يعني هذا قيام أفسد طبقة نفطية تكنوقراطية في التاريخ، وهي التي كانت وراء quot;عقد الإنتاج المشتركquot; الوحيد الذي منحته موسكو لاحتكارات النفط العالمية، وانتهى أفرادها إلى السجن داخل روسيا أو الاغتيال خارجها. وموسكو ليست البصرة، حيث بلغ عدد قتلى القوات البريطانية هذا الأسبوع 175 مجنداً.
وفي البصرة، كما في جميع أنحاء العراق، لن quot;تفرط القوى الوطنية بجزء هنا وجزء هناك quot;خوفاًquot; من البطش الأميركيquot;، حسب المهندس الأمير: quot;لقد بطش الاحتلال ولم ينجح، والآن الدور على القوى الوطنية للحصول على الحقوق، وأهمها الحقوق في النفطquot;.
وباقي القصة ترويها نكتة عن امرأة حامل تصرخ وتولول من آلام الوضع، عندما سمعت زوجها يتضرع داعياً الله أن ينجيها، ويُقسم أن لا يقربها مرة أخرى طوال حياته. توقفت الزوجة عن الصراخ وزعقت بزوجها: quot;شنو هذي السخافة؟!.. هيّه كلها ساعة شدّة وتنقضيquot;!