امتدت اليها الشرور بقسوة
البياع زهرة على ياقة قميص الكرخ.. ذبلت

عبد الجبار العتابي من بغداد: يا لها من (بياع) هذه المدينة التي رسمت لنفسها موقعا تطل منه على الجهات وتفتح اذرعها لها وتدور في فلكها الاشياء التي اصبحت جزء من كيانها، يا لها من جسد معذب طالما تشظت عليه الشرور وباغتته انفعالات الـ ( تي ان تي) فبعثرت رخاءه ومزقت تلاوات الهدوء التي يعيشها، ويا لها من عجيبة يذهب الناس عنها في لحظة ويعودون اليها راكضين بعد هنيهة من تلك اللحظة، البياع.. مدينة تتنفس من رئة شارعها الطويل الذي حمل اسم رقم هو (20).

البياع.. الان غير التي كانت قبل ثلاث سنوات، او غير تلك التي كانت عليه قبل عشر سنوات، تغيرت نحو الافضل قبل السنوات الثلاث، وتغيرت اكثر بعد هذه السنوات، مررت بها قبل ايام، درت حولها، توقفت امام ما استجد عليها، اعدت ذاكرتي اليها، كنت اتنمنى ان اركض على ارصفتها لكنني لم افعل، ان اسمع معزوفة تائهة لكنني لم اسمع، فالارصفة تغطت بالبضائع وبالوسائل التي تحملها، والاجواء تتشظى فيها اصداء المولدات الكهربائية وضجيج اصوات الخوف والحذر، ثمة توجس، فقد مرت على هذه المدينة سوءات عديدة اكلت من اشياءها الكثير وعلقت اللافتات السود على جدرانها وسالت في دروبها احزان ما زالت روائحها تفوح في كل الامكنة وتتشعب في شوارعها العامة والفرعية، لقد تغيرت البياع لكنها لم تفقد احلامها.
صباحاتها لاتشبه مساءاتها، الحياة التي تدب فيها منذ الغبش سرعان ما تمتليء نشاطا يصل الى ذروته في الساعات التالية ولكن بعد ان يدركها وقت العصر يبدأ الذوبان، يتضاءل العدد حتى اذا حل الليل لا تسمع الا وقع خطوات مسرعة ترن على اسفلت الشارع العام منها فيما شارعها الكبير حين تعاينه لا ترى فيه سوى ظلام يتكدس على الاشياء واحيانا لا ترى الا بصائص اضواء متفرقة.

من ينظر الى البياع، الى بيوتها وتخطيطها، لا يمكن الا ان يؤكد حداثة عهدها، فعمرها الان لن يتجاوز الستين، كل ما فيها يدل على ذلك، فبناؤها حديث وشوارعها كذلك وتخطيطها يوحي بذلك، حيث التفاصيل في الازقة والمحلات، وحتى شارعها الشهير يدلل على انه معلم حديث، فهو على حاله منذ بدايته ولم تجر عليه توسعات، بل بعض التعديلات التي تتوافق مع الحالة العامة، يذكر الباحث قاسم خضير في بحث له : ( ان البياع حي كبير في الكرخ، انشيء في الخمسينيات (من القرن العشرين)، والتسمية جاءت من اسم المالك لتلك الارض وهو الحاج علي البياع ).

هذه نظرة الى الى ماضي المدينة، الى طفولتها، حيث تشكل اول بناء على هذا الطرف (الغربي الجنوبي للكرخ)، اكتملت لديه الاشياء قبل ان يبدأ حي السكك (حي العامل) بالتواجد، وهو اول حي بعد البياع يبنى في هذا المكان، وحين اغمض عيني واذهب الى اواسط الستينيات لأسوح فيها اجد ان المساحات تلك التي تبدو وكانها سجادة معلقة بأيدي (حي القادسية) الذي يحدها من الشمال، ولم يكن هنالك من بناء حولها، لاسيما الطرف الجنوبي الخالي تماما الا من بستان (الحاج عمران) الذي يبعد عنه مسافة ليست بالقصيرة والذي كان يمتد اليه شارع ترابي يحاذي البياع تم تعبيده فيما ثم ألغي في اوائل الثمانينيات حين قامت عليه الاحياء السكنية، وكذلك الجانب الشرقي، بينما يفصلها من الغرب عن حي العامل فاصل ترابي واسع كان في بعض الاوقات يمثل ملاعب لكرة القدم للفرق الشعبية في العديد من اجزائها وساحة لمواكب العزاء، و تقطع هذه المساحة ساقية للمياه الثقيلة نازلة الى الى مستنقع شهير يسمى (شطيط) حيث تصب فيه، و(شطيط ) هذا مستنقع عميق تتجمع فيه المياه الثقيلة والنفايات والسكراب، وهذا المكان يرسم جزء من الطرف الجنوبي امتدادا الى الطرف الاخير من حي العامل ومكانه الحالي هو الحي الصناعي وجزء من معارض السيارات، شطيط هذا كان عجيبة من عجائب المنطقة فهو رهيب الشكل ليس له قرار تتراكم فيه الاشياء بشكل غريب وصورته بشعة، وما بعده لم تكن سوى مساحات يصفر فيها الفراغ، مساحات غير منظورة لا يرى الناظر اليها سوى سراب يلتمع في (سبخها)، وبعد سنوات اقيم على مسافة من البياع (حي الرسالة)، أي في اواسط السبعينات، وما دمت اتحدث عن السبعينيات، فقد كان شارع (20) ينتهي جنوبا بساحة دائؤية هي مجرد (فلكة) للسيارات تدور حولها لتعود من حيث اتت يسيجها القصب النابت عشوائيا، وما بعهدها ارض سبخة لايقترب منها احد، ومن الطريف ان بعض سائقي السيارات كانوا لا ينتبهون في الليل الى ما هو موجود او اولئك الذين تأخذهم غفوة، وسرعان ما يجدون سياراتهم مغروسة في تلك الارض، ايام كان الشارع هادئا، ولم تعرف اطرافه الصخب، ولا اعماقه، كان هو الشارع العام، فيه سوق يقع على طرف من وسطه ولا غيره، فضلا عن بعض المحال التجارية البسيطة كالافران ودكاكين المواد الغذائية وغيرها، واغلب ما على ضفافه هي دور سكنية، وتنتشر على اجزاء منه النقاهي وفيها مقرات الفرق الرياضية حيث ترى صور ولاعبي الكرة، اما اشهر فريق فيها فهو فريق (الطليعة) و (برازيل البياع ) الذي كان يلعب له حارس مرمى العراق الشهير رعد حمودي في صباه وتقطعه حافلة مصلحة نقل الركاب ذات الرقم (45) التي كانت تتهادى تبحث عن راكبين قبل ان تتغير الحال وتكتظ بهم في السنوات التالية،ونظرة اخرى.. على البياع نجدها تختلف عن غيرها كونها احتضنت اول دار سينما متكاملة هي (سينما الكرنك) التي تقع في شارع (13) وكانت محطة لكل الشباب من ابناء المنطقة وما حولها فيما بعد واذكر انني فيها شاهدت اول فيلم سينمائي في حياتي مطلع السبعينيات، وجاءت بعدها سينما (اليرموك) التي تقع في اعالي المدينة في شماليها ببنائها الحديث، وكانت مع الكرنك علامتين بارزتين مهمتين في ذلك الواقع، لكن سينما الكرنك اغلقت منذ امد بعيد وظلت اليرموك لمدة وقد حاولت ان تكون مسرحا ثم تحولت الى بناية تحمل الاسم فقط وها هي الان واقفة تعاني الكهولة لا ترى الا الشارع الذي صار سريعا، كما يميزت البياع بكونها احتضنت اول معمل للثلج ثم صار اثنين قبل ان يندثر الاول قبل سنوات ومن ثم يليه الاخر قبل وقت قريب.

السنوات اللاحقة.. اخذت تسكب المتغيرات على البياع، وتحولت الى عالم كبير يزدهي بالاسواق والحركة لا سيما بعد ان اقيمت حولها المدن التي صارت تنتمي لها، لكن اغرب ما حدث ان اسم البياع نال تغييرا طريفا وان كان شهيرا فقد اعطاه النظام السابق اسم (التأميم) لكنه لم يغير منه شيئا وظل الاسم الجديد فقط في سجلات البلدية، وتكاثفت عليه المستجدات ليكون الشارع تحديدا عالما مفعما بالجمال والحيوية والمتعة، حتى اصبح الشارع اكثر ضجيجا وامتدت الاسواق الى مساحات ابعد وبنيت العمارات، وما زلت اذكر (الافق) الذي كان حاضرا في رغبات الشباب الذين يجدون فيه الاستكانة مع اجواء شاعرية تتناطح فيها الكؤوس، واقيمت معارض السيارات في جنوب الشارع ومرائب سيارات النقل وصارت المدينة محورا لكل المدن التي تدور حول البياع.

هذه المدينة..التي هي زهرة على ياقة قميص الكرخ. كثيرة حكاياتها، في السابق والحاضر، وكل القراءات في ايامها لن تفيها حقها، ها انذا اقف على طرف الشارع الجنوبي، يثيرني المنظر، فمع بعض التجديد لبعض الاشياء فيها الا انها لم تكن سعيدة لاسيما في شهورها الاخيرة حيث بوغتت بتفجيرات ارهابية دامية قاسية في داخلها وخارجها راح ضحيتها العشرات وتكللت بالسواد والبكاء امتدت اليها الحواجز الكونكريتية لتسد منافذها، وصارت تنام مبكرا على وجع الحذر، تطفيء نهارها لكن قلبها يظل يترقب، محالها تقفل ابوابها مع غروب الشمس وحين يهم الليل بالانتشار تتقوقع على نفسها، وقفت اترقب علامات الحزن في شارعها الطويل الذي صار ينوء بالوحشة والظلمة، وتلك الاثار على جسده مما تركته الانفجارات، كثيرة هي البنايات التي تعطلت فيها الحركة وغادرها اصحابها الى السماء او الى اماكن اخرى، لكنها الان تحاول ان تقاوم الظروف، تنظر في الجهات وتستجمع شجاعتها للوقوف من جديد لكن الحذر ما زال براودها، اشعر انها الان تمشط شعرها وترتب هندامها وتتوضأ بضوء الفجر وتشجع ابنائها على ان يكونوا اذرعا تعينها كما تتمنى من بلديتها ان تعالج ما تضرر منها، سألت رجلا كان على مقربة مني : كيف ترى البياع الان ؟ قال : يحزنني منظرها ويؤلمني شكلها فهذه ليست البياع التي عرفتها، ايام كانت رائعة وكان شارعها هذا حيويا، يا صاح.. ثقيل هو حمل المدينة ولكنني اظنها في لحظة ستقرع نواقيس استعادة بهائها كاملا، وتعود مجددا اليها ايامها ولياليها.