لا بد لأي دولة من سلطتين: سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية. وللدولة واجبات على مواطنيها وعليها حقوق لمواطنيها. ولا بد للدولة من قانون أو دستور يحكم تصريف شؤون الدولة. فلا بد للدولة من بروتوكولات تحدد كيفية اختيار الحاكم أو الملك، وكيفية محاسبة الحاكم والمسؤولين بالدولة. ومن واجبات الدولة حماية حدودها وضمان أمن مواطنيها وتوفير العلاج والأكل والشرب لهم، وتوفير الأمن والتعليم، وكيفية جمع الضرائب وكيفية صرفها. وكل هذه البروتوكولات أو القوانين التي تنظم شؤون الدولة كانت معروفة منذ أيام حمورابي في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في اليمن وبيزنطة ومملكة الساسانيين. وفي اليونان وروما كانت هناك برلمانات للتشريع ومحاسبة الحكومة، كما حدث في محاكمة يوليوس قيصر في روما. فهل الدين الإسلامي يفي بهذه الشروط حتى نطبّق عليه مصطلح الدولة؟ يقول الدكتور شاكر النابلسي في مقال بعنوان " لماذا دولة الرسول والراشدين لا تصلح لنا الآن " في " إيلاف " عدد 4 أكتوبر 2004 ما يلي: " من يقول بأن الإسلام لم يكن ديناً دولة، فهو على خطأ كبير وجهل عظيم بالتاريخ. " وسوف أحاول سبر أغوار هذا التاريخ لمعرفة ما إذا كانت دولة الرسول بالمدينة دولة بمعنى الكلمة. ويقول د. النابلسي إن الذين ينكرون أن الإسلام دين ودولة يفعلون ذلك في " محاولة يائسة لابعاد شبح الخلافة الديكتاتورية المتمثلة بالأمويين والعباسيين والمماليك والعثمانيين الذين حكمونا بالحديد والنار وبالقرآن المديني السيفي وليس بالقرآن المكي السلمي طيلة أربعة عشر قرناً. " فهل كان في مقدور هؤلاء الخلفاء الدكتاتوريين أن يحكموا بالقرآن المكي المتسامح؟ بالطبع لم يكن ذلك في مقدورهم إذ أن القرآن الذي نزل بمكة على مدى ثلاث عشرة سنة بلغ مجموع سوره 86 سورة إذا اعتبرنا سورة الفاتحة مكية ( ويقول بعضهم إنها مدينية ويقول آخرون أنها نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة) وبهذا يكون عدد السور المدينية ثماني وعشرين سورة فقط، احتوت على التشريع الإسلامي. وكل السور المكية تحكي قصص الأنبياء والشعوب الغابرة وتصف الجنة والنار، وتحاول إثبات وجود الله. وكل ما جاء فيها من التشريع كان لا يتعدى العموميات التي لا تختلف عن الوصايا العشرة التي أتى بها موسى. فنجد مثلاً: " لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ". " لا تقربوا الزنا ". " لا تقتلوا النفس التي حرّم الله ". " ولا تقربوا مال اليتيم ". " أوفوا الكيل والميزان ". فليس في هذه السور المكية من التشريع ما يمكّن الخلفاء من حكم الدولة به. ولذلك حكمونا بالسور المدينية المليئة بالسيف والدماء.

وأنا أوافق المفكر التونسي محمد الشرفي في أن الرسول لم يقم دولة في المدينة، وإنما أقام حكماً عشائرياً لا يختلف عن حكم قريش قبل الإسلام. وكذلك أوافقه في أن القرآن لم ينص لا على دولة ولا على خلافة، رغم مقولة د. النابلسي: " ولكن القرآن كان أذكى من ذلك بكثير. ولو فعل ذلك لتحول الدين من دين سياسي إلى سياسة دينية، وفي ذلك فرق كبير سوف يغيّر مجرى التاريخ كله، بداية من القرن السابع الميلادي ." ولا أظنه يخفى علي أحد أن السياسة مكر ودهاء وجري وراء المصالح الذاتية، وشعارها: الغاية تبرر الوسيلة ( كما قال ميكافبلي). وقد أتقن هذا الفن معاوية بن أبي سفيان الذي كان سياسياً بالفطرة. بينما الدين، كل الدين، مجموعة مُثل أخلاقية وتربوية تحث المؤمنين به على التزام السبيل المستقيم والابتعاد عن الكذب والجري وراء المصالح الذاتية. وهذا عكس ما تقول به السياسة تماماً. وقول د. النابلسي إن القرآن لو نص على دولة أو خلافة لحوّل الدين السياسي إلى سياسة دينية، ما هو إلا محاولة لشق الشعرة، كما يقول المثل الإنكليزي: Splitting hair . ولا أعلم من أين أتى د. النابلسي بفكرة أن الرسول محمد كان مرسلاً للفقراء والأشقياء، عندما قال: " وما قول الرسول لعمر بن الخطاب: "مهلاً يا عمر، أتظنها كسرويّة، إنها نبوة لا مُلك " إنما جـاء رداً على الذين يريدون منه أن يحيا حياة باذخة مُترفة كحياة الملوك العظام، وهو المُرسل للفقراء والأشقياء. " فالقرآن يقول أن الله أرسل محمداً " لينذر أم القرى " وأم القرى وقتها كانت من أغنى مدن شبه الجزيرة العربية. ثم قال القران: " هو الذي أرسل رسوله ليظهره على الدين كله " وهذا يعني أنه كان مرسلاً للبشرية جمعاء ليحل محل الأديان السابقة، فهل كل البشرية فقراء وأشقياء؟ بل حتى أقرب صحابة الرسول أصبحوا من كبار الإقطاعيين بعد سنوات قليلة من بدء الفتوحات الإسلامية.

" فالرسول عندما دخل المدينة مهاجراً كان أول عمل قام به وقبل أن يكتمل الإسلام، إذ كان أمام الإسلام عشر سنوات أخرى لكي يكتمل، وقبل أن يرسخ الإسلام، وقبل أن يدعو إلى الإسلام في المدينة أن أسس "دولة المدينة" أو "دولة الرسول" في المدينة، وكانت دولة غير دينية وغير اسلامية. بمعنى أنه أشرك فيها الكفار من الأوس والخزرج، كما أشرك فيها اليهود وأقام لها كياناً سياسياً واضحاً." هكذا قال د. شاكر النابلسي، ولكنا لا نوافقه على هذا الرأي. فالرسول قبل أن يأتي إلى المدينة عقد معاهدةً مع سبعين رجلاً وامرأتين من الأوس والخزرج، منهم سعد بن أبي عبادة، كبيرهم وسيدهم، واشترط في بيعة العقبة هذه أن تحميه القبيلتان مما يحمون منه نساءهم وأطفالهم. والنبي عندما دخل المدينة مدعواً من الأوس والخزرج كان أفراد هاتين القبيلتين ضمنياً من المسلمين إذ أن زعماءهم قبلوا الإسلام، وعندما يقبل زعيم القبيلة شيئاً تتبعه القبيلة كلها حسب الأعراف القبلية. ولم نقرأ في التاريخ أن النبي كان يدعو للإسلام في قبيلتي الأوس والخزرج. ويقول ابن كثير في سيرته عن الأوس والخزرج عندما رجعوا إلى المدينة بعد معاهدتهم مع الرسول: " قال ابن إسحق: فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله (ص) ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله " (ص130). فدولة الرسول في المدينة لم يكن بها كفار من الأوس والخزرج، بل بها عرب مسلمون ويهود. ثم أن الصحيفة التي كتبها النبي لم تكن معاهدة بالمعنى المعروف إذ أن المعاهدة لا بد أن يوقعها الطرفان، واليهود لم يوقعوا على الصحيفة. والصحيفة كانت عبارة عن كتاب من الرسول يوضح العلاقة بين المسلمين واليهود، وبدأها بالآتي: " "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من محمدٍ النبيِّ بين المسلمين والمؤمنين من قُرَيْشٍ ويَثْرِب ومَن تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم أنهم أمَّةٌ واحدة دون الناس، المهاجرون من قريش على رِيعَتِهِم يَتَعَاقَلونَ بينهم مَعَاقِلَهُم الأُولى، يَفدُونَ عَانِيَهُم بالمعروف والقِسْطِ بين المؤمنين، وبنو عَوْفٍ على رِبْعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الأُولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف و القِسْط بين المؤمنين.... وإنَّ ذِمَّة الله واحدة، يُجِيرُ عليهم أدناهم، فإن المؤمنين بعضهم مولى بعض دون الناس، وإنه من تَبِعَنَا من يهود فإن له النصر والأُسْوَةَ، غير مظلومين ولا متناصرٍ عليهم، وإنّ سِلم المؤمنين واحدة ..... وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدثٍ أو اشتجار يخشى فسادُه فإن مَرَدَّهُ إلى الله وإلى محمد .....ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس " ( ابن تيمية: الصارم المسلول، وابن كثير، مختصر السيرة) فواضح من النص هنا أن الصحيفة بين المسلمين، الذين هم أمة واحدة دون الناس، وبين اليهود. وإذا اختلف الطرفان، تُرد المسألة إلى الله والرسول. ولا يُقتل مؤمن بكافرٍ.وهذا يعني أن المرجع لكل شئ في هذه الصحيفة هو الإسلام ورسوله، وإذاً النظام الحكومي في المدينة كان إسلامياً بحتاً. فقول د. النابلسي أن دولة الرسول لم تكن دولة دينية أو إسلامية، ليس صحيحاً. وكذلك قول د. النابلسي" " العقد السياسي والعسكري والاجتماعي الذي وقّعه مع قادة وزعماء الأوس والخزرج في مكة فيما عُرف بـ "بيعة العقبة" كان الخطوة الفعلية الأوليـة لبناء هذه الدولة الدينية السياسية المقبلة." ليس صحيحاً إذ أن بيعة العقبة لم تكن عسكرية سياسية اجتماعية. كل ما هناك أن الرسول كان مستضعفاً في مكة وطلب من زعماء الأوس والخزرج أن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأطفالهم، ولم يقدم هو لهم حماية عسكرية في المقابل، كما يحدث في المعاهدات العسكرية، ولم يقدم لهم أي عقود اجتماعية، بل وعدهم الجنة فقط. وقول د. النابلسي: " ووضع الرسول لهذه الدولة دستوراً يشتمل على سبعٍ وأربعين مادة تنظيمية لشؤون الحرب والسلم والمال والحدود الجغرافيـة والعلاقات الداخلية والخارجية. وهو ما أطلق عليه مؤرخو الإسلام "الصحيفـة"، أو "الكتاب" (مونتجومري وات، محمـد في المدينة، ص337)، فقول لا تسنده محتويات " الصحيفة " التي لا تذكر شيئاً عن الحدود الجغرافية أو العلاقات الخارجية. وهي لم تكن دستوراً بقدر ما هي شروط وضعها النبي ليهود المدينة إذا أرادوا أن يحتفظوا بدينهم وأموالهم. وقد بالغ د. النابلسي في وصف دولة الرسول بالمدينة، إذ قال إن التشكيل الإداري والسياسي لهذه الدولة كان على النحو التالي:
•وزارة التربية والتعليم وتشمل إدارات: تعليم القرآن، تعليم الكتابة والقراءة، الإفتاء، تعليم الفقه، والإمامة.
وفي الواقع لم يكن هناك أي تعليم، لا للقرآن ولا للقراءة والكتابة، إذ كان القرآن كان ينزل في شكل آية أو آيتين يقرأهما النبي على الحاضرين فيحفظوهما. ولم نقرأ عن أي مدرسة لتعليم القراءة حتى أن النبي مات أمياً كما يقول السلفيون. فلو كانت هناك مدرسة لتعليم القراءة والكتابة، أما كان الأجدر أن يتعلم الرسول نفسه الذي قال الله له: " إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم "؟ ويخبرنا البلاذري في " فتوح البلدان " عندما أرسل عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان لفتح مدينة الفرات عام 16 هجرية، أن كل جيشه كان من الأميين: " ولم يكن فيهم أحدٌ يكتب ويحسب إلا زياد." ( ص361)فلو كانت هناك مدارس لتعليم القراءة والكتابة لماذا ظل كل هؤلاء الناس أميين ستة عشر عاماً بعد إقامة دولة الرسول؟ أما الإفتاء وتعليم الفقه والإمامة فكانت كلها من اختصاص الرسول نفسه، ولم يؤم الناس بالمدينة أحد غير الرسول إلا إذا كان مريضاً.

•وزارة الحج، وتشمل إدارات السقاية وإمارة الحج.
وهذه الإدارات كانت معروفة وممارسة في مكة منذ أمد بعيد قبل ظهور الإسلام. والرسول لم يفتح مكة إلا في العام الثامن الهجري، أي قبل سنتين فقط من وفاته. فالرسول لم يأت بجديد في هذا الأمر

•وزارة الخارجية، وتشمل إدارات السفراء والترجمة.
وهنا كذلك علينا أن نتذكر أن الرسول لم يبعث خطابات إلى ملوك الروم والفرس إلا أيام غزوة تبوك في العام التاسع الهجري، وقد بعث خطاباً إلى ملك الروم وكذلك إلى كسرى، ولم يتجاوز عدد خطاباته أصابع اليد الواحدة. فلا يمكن أن نسمي هذا المجهود وزارة. ثم أن قريش كانت تبعث السفراء إلى كل الدول المجاورة لإبرام إتفاقيات " الإيلاف " التي ذكرها القرآن. فالرسول لم يأتي بجديد في هذا المضمار

•وزارة الإعلام، وتشمل إدارات الشعراء والخطباء
نحن نعرف أن القرآن والأحاديث حاولا إبعاد الرسول عن مجال الشعر، فال القرآن: " والشعراء يتبعّهم الغاوون " والرسول لم يكن غاوياً، وقد ذكر عندما نزل عليه الوحي أول مرة أنه: " لم يكن من خلق الله أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق النظر إليهما " (الطبري ج1، ص 532). ونحن نعرف كذلك أنه رغم هذا الحديث فقد قرّب الرسول حسان بن ثابت إليه وقرّب كذلك كعب بن مالك، أحد الثلاث الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. ويصعب علينا أن نسمي شاعرين أو ثلاثة، وزارة إعلام. ولو كان الأمر كذلك فكل قبائل العرب كانت لهم وزارات إعلام متمثلة في شعراء القبائل الذين فاق شعرهم وفخرهم شعر حسان بن ثابت.

•وزارة الدفاع وهي أقوى وأوسع وزارة، وتشمل إدارات: أمراء القتال وجنده (ما يُعرف اليوم برئاسة الأركان ) ، كتّاب الجيش، فارضو العطاء (ما يُعرف اليوم بالإدارة المالية ) ، العرفاء من رؤساء الجند. الحرس النبوي، المستخلفون على المدينة (ما يُعرف اليوم بالحرس الوطني) ، مستنفرو الناس للقتال (ما يُعرف اليوم بدائرة التعبئة العامة ) ، صـاحب السلاح (ما يُعرف اليوم بأمين المستودعات العامة للجيش) ، القائمون على متاع السفر (ما يُعرف اليوم بدائرة النقل العسكري) ، خاذلو الأعداء (ما يُعرف اليوم بدائرة الاستخبارات العسكرية ) ، ومبشرو النصر (ما يُعرف اليوم بدائرة التوجيه المعنوي والإعلام والمصدر المسؤول أو الناطق الرسمي).
وهذا الوصف لا ينطبق إطلاقاً على ما كان يحدث أيام غزوات الرسول إذ كان الجهاد فرض عين على كل مسلم قادر على حمل السلاح، وكان على كل مسلم إحضار سلاحه وحصانه أو جمله وإن لم يجد انضم إلى المشاة. فلم يكن هناك صاحب سلاح ولم يكن هناك دائرة نقل عسكري. ويظهر هذا جلياً عندما قرر الرسول غزو الروم في تبوك في العام التاسع الهجري، فجاءه سبعة من الرجال يحملون سلاحهم ولكن تنقصهم الدواب ولم يكن بمقدورهم السير إلى تبوك، فطلبوا من الرسول أن يمدهم بالدواب فلم يجد لهم دواب فراحوا يبكون حتى سموهم " البكاؤون ". وذكر القرآن هذه الواقعة في سورة التوبة: " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه فولوا وأعينهم تفيض من الدمع ". ولم يكن هناك دائرة للمال أو لتموين الجيش حتى أن المجاهدين في هذه الغزوة اضطروا لأكل الجلود. أما دائرة الإستخبارات العسكرية أو " العيون " فكانت تقليد معروف لكل قبائل العرب. وعندما كان أبو سفيان راجعاً بقافلته من الشام وقرر الرسول اعتراضهم ببدر، بث أبو سفيان عيونه وعرف أن المسلمين قد عسكروا ببدر، فغيّر طريق القافلة وأوصلها إلى مكة سالمةً. فالرسول لم يأت بجديد هنا كذلك.

•وزارة المالية، وتشمل إدارات: عمّال الجباية والخراج، عمّال الزكاة والصدقات، والخارصون للثمار (ما يُعرف اليوم بدائرة ضريبة الدخل أو الإنتاج. و"الخرص" هو تقدير إنتاج الشجر من الثمر بالظن والتخمين).
كان للرسول عمال يجمعون الزكاة بدليل أن أبواب صرف الزكاة تتضمن باباً عن " العاملين عليها " غير أن عددهم كان بسيطاً لأن الزكاة كانت تُدفع إلى المساكين مباشرةً وليس في الإسلام شئ يشترط على المسلم أن يدفع الزكاة إلى بيت المال. بل كان الرسول يوصي بأن تُدفع الزكاة إلى الأهل. وقد جاء أبو طلحة إلى النبي وقال له: إنّ أحب أموالي إليّ ببرحاء وإنها صدقة لله. فقال له النبي: " إني أرى أن تجعلها في الأقربين " (صحيح البخاري، باب الزكاة على الأقارب). ولم يكن هناك حتى بيت مال في أيام الرسول، فكانت الغنائم تُقسّم على المجاهدين بعد المعركة مباشرةً. وأول بيت مال في الإسلام أنشأه عمر بن الخطاب ( الكامل في التاريخ للمبرد .) وقيل إن أبا بكر كان له بيت مال في بيته " وكان له بيت مال بالسنح وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة، فقيل له : ألا نجعل .عليه مَنْ يحرسه . قال : لا. فكان يُنْفِق جميع ما فيه على المسلمين فلا يبقى فيه شئ . فلما انتقل إلى المدينة جعل بيت المال معه في داره . وحتى عمر بن الخطاب عندما أنشأ بيت المال كان يصرف كل ما فيه بمجرد أن يأتيه دخل، فقالوا له: ألا تترك ببيت المال شيئاً؟ فقال لهم: " كلمةُ ألقاها الشيطان علن فِيِّك وقاني الله شرّها وهي فتنةُ لمن بعدي ، بل أعِدُّ لهم ما أعدّ اللهُ ورسوله : طاعة الله ورسوله هما عدتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون ، فإذا كان المال ثمن دِيْن أحدكم هلكتم " فهل يمكن أن نسمي هذا وزارة مالية؟

•وزارة الصحة، وتشمل إدارة متولي التطبيب والعلاج
ولم تكن هناك وزارة صحة أو ما يقرب منها. فعرب الجاهلية كانوا يتداوون بالنُشرة وبالتمائم التي كان يكتبها لهم الكهان، وكانوا يتداوون بالكي بالنار وبالحجامة. وأوصى الرسول بنفس طرق العلاج هذه وأضاف إليها شرب ألبان وأبوال الإبل. ولم يكن هناك أشخاص معينون يشرفون على العلاج، فكل من أحس في نفسه المقدرة للكي كوى المرضى أو حجّمهم، والنبي نفسه كوى سعد بن معاذ بعد غزوة بني قريظة. وكل من ادعى الكهانة كتب التمائم. وحتى اليهود كانوا يكتبون التمائم للمسلمين، فقد روى البخاري أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة فوجد يهوديةً ترقيها فقال لها: إرقيها بالكتاب، وكان يعني التوراة. ولم تكن هناك أي محاولة لإخضاع هؤلاء الناس إلى الرقابة أو تنظيم عملهم. وعليه يصعب أن نقول كان للنبي وزارة صحة.

ويقول د. النابلسي: " وهذا التنظيم السياسي والإداري والعسكري لم يكن موجوداً كله وبهذا التفصيل عند العرب قبل الإسلام. ولا بُدَّ أن النبي قد استعان بخبراء غير عرب وغير مسلمين من البيزنطيين في الشـام والساسانيين في العراق والفرس في إيران وغيرهم، لإقامة هذا الكيان السياسي والإداري في دولته الجديدة. " والعرب في شمال الجزيرة وفي جنوبها كانت لهم حكومات وأنظمة متقدمة بكثير عن نظام دولة الرسول في المدينة. فالنعمان بن المنذر وملوك حضرموت كانوا على علم بنظم الحكم. وأهل دومة الجندل الذين عاهدهم الرسول وأخذ منهم الجزية، كانت لهم حكومتهم التي تنظم أمورهم.
وفي الحقيقة أن كل الحكومات بدأت في شكل حكومات دينية، فمثلاً، حمورابي كان يعتقد أنه مرسل من الآلهة " آنو " و " بيل " ليقيم حكم الخير على الأرض . ولهذا أتى حمورابي بكل قوانينه التي قننت لكل شئ، من الضرائب إلى عدد الزوجات وعقاب كل جريمة، حتى بلغت بنود قوانينه 280 بنداً، وهو أكثر من بنود قوانين دولة الرسول الأولى. ثم أن موسى، بعد أن قدّم لبني إسرائيل الوصايا العشرة، في بداية نبوته، وكانت تماما كالآيات المكية في محتواها، قنن لبني إسرائيل جميع شؤون حياتهم الدنيوية بعد فترة الشتات والضياع في الصحراء. فنجده قد قسّم بني إسرائيل إلى قبائل وأجرى إحصاءً للسكان تبعه إحصاء ثاني، وكلف كل قبيلة بتقديم عدد معيّن من الرجال ليخدموا في الجيش، وجعل أخاه هارون كبير الحاخامات ومسؤولاً عن أموال الخزينة، وجعل قبيلة " ليفي " مسؤولة عن حمل وحفظ " العهد الإلهي " The Covenant وحدد لهم ضريبة عبارة عن خُمس سعر الحيوان أو البيت الذي يهبه صاحبه لله ثم يرغب في استرجاعه، وأعفاهم من الخدمة في الجيش. وحث جيشه على محاربة القبائل الفلسطينية، ليس لنشر الدين، وإنما للاستيلاء على الأراضي منهم. ومنعهم من أخذ الربا من اليهود وحدد لهم قوانين التعويضات المالية عن الأذى الجسماني للإنسان الحر وللعبد وكذلك جزاء الحيوان الذي يؤذي إنساناً، كالثور الهائج مثلاً، وما إلى ذلك، وحدد لهم كل الحدود الإلهية للجرائم المعروفة. وحدد للجيش قوانين تحكم فتوحاتهم للمدن الفلسطينية وسمح لهم بزواج السبايا. والإسرائيليون أنفسهم طلبوا من الله أن يعّين لهم ملكاً يحكمهم، فعّين الله لهم الملك ساؤول ثم أيوب ثم سليمان.

وعليه نرى أن الدويلة التي كونها النبي بالمدينة لم تكن لها من مقومات الدولة إلا الاسم. فدستور الدولة كان محصوراً في العقوبات (الحدود) من جلد ورجم وقطع يد السارق. وحتى نظام القضاء كان معدوماً إذ أن النبي كان هو القاضي في كل الحالات، وإذا لم يكن عنده الجواب، طلب من الأطراف المتخاصمة أن يرجعوا إليه بعد أن يأتيه الوحي. وليس في التاريخ الإسلامي ذكر لأي شخص آخر قضى بشئ في حياة الرسول. ولم يفتِ أحد والنبي حيّ بين ظهرانيهم. ولم يكن هناك أي نظام مالي خاضع للرقابة أو له أوجه صرف محددة، غير أبواب صرف الزكاة التي لم تحتو على أي بند للصرف على الجيش أو المواصلات أو التعليم أو الصحة. والإسلام حرّم الربا لكنه لم يشرح لهم ما هو الربا وإنما ترك الشرح للفقهاء الذين حرموا كل المعاملات المالية التي هي أساس الاقتصاد الحديث. والرسول لم يحدد للمسلمين نوع الحكم الذي كان يريدهم أن يتبعوه أو كيفية اختيار الحاكم، كل ما قاله إن أمرهم شورى بينهم. وهذه الشورى لم تُطبق إطلاقاً حتى الآن. والأهم من ذلك كله أن الإسلام لم يحدد وسيلة لمحاسبة الحاكم، بل فرض على المسلمين طاعة الحاكم حتى وإن كان جائراً. وجعل طاعة الحاكم كطاعة الله والرسول. ولم يبين الإسلام الوسيلة السلمية لتغيير الحاكم، ولذا لجأ المسلمون إلى الاغتيالات لتغيير حكامهم.ولذا اعتقد اعتقاداً جازماً أن الإسلام دين وليس دولة.
وما دام الإسلام دين وليس دولة، فهو لم يصلح لحكومة الراشدين ولن يصلح لنا في عصرنا هذا. ويجب أن يتعلم المسلمون من اليهود الذين سبقوهم في الحكومات الدينية ثم اقتنعوا أن خير حكومة لدولتهم الثانية في إسرائيل هي حكومة ديموقراطية، رغم تعصبها واضطهادها لغير اليهود، ورغم المحاولات اليائسة من اليمين المتطرف لفرض الآراء الدينية على الحكومة.