كانت الحملة الفرنسية على مصر في حقيقتها رحلة خاطفة إلى الشرق، إذ وصلت الجيوش سرّاً إلى مصر، وغادرتها مخفورة بالأسطول الإنجليزي، ولم يُعلَن رسمياً لا عن لحظة الوصول ولا عن لحظة المغادرة إلا فيما بعد. وتكشف وثائق الحملة أنّ القوات الفرنسيّة كانت محاصرة في مصر، وقد انقطعت عن فرنسا؛ فالبحر المتوسّط ومُعظم المناطق المجاورة كان تحت سيطرة القوات الإنجليزيّة والعثمانيّة، وداخل مصر لم يرم الفرنسيّون طوال السنوات الثلاث سلاحهم، وحتى المادة الأوليّة التي قام علماء الحملة بجمعها عن مصر تمّت بسرّية وبحماية محكمة، وهُرِّبت إلى فرنسا، ثم استعيدت ذهنياً في ظروف مختلفة، مما أضفى عليها طابعاً رومانسياً مشبعاً بالحنين والرغبة وحس المغامرة الفردية، ولا تكشف الوثائق- التي عرضها بالتفصيل "هنري لورنس ومواريه"- عن أي تواصل وتفاعل حقيقيين بين الفرنسييّن والمصرييّن، ففضلاً عن التمرّد اليومي والاحتجاج المتواصل، فإنَّ مصر لم تخضع بأجمعها أبداً للنفوذ الفرنسي، فما أن تُقمع ثورة إلاَّ ويندلع تمرّد.
وبالإجمال فُجع الفرنسيون والمصريون بهذه الحملة على حد سواء، إذ لم تكن للفرنسيين إلاَّ مغامرة مُهلكة، ما سمحت لخيلاء الفاتح أن يتفتّح، ولم تكن للمصريين غير فصل من مأساة بدأت مع الفرنسيين واستمرّت بعدهم. والتقارير اليومية والتفصيلية التي كان دوّنها ضبّاط الحملة، وغطّت كلّ الأحداث الصغيرة والكبيرة، باعتبارها وثائق رسمية، لا تعمّق لدى الباحث أي إحساس بالمشاركة بين الطرفين الفرنسيّ والمصريّ، والترتيبات التي أجراها "نابوليون" – وكثيراً ما يشار إليها- ذات طبيعة أمنيّة وقائيّة يُراد بها ضبط الأهالي، وغالباً ما كانت مُخادِعة استغلّت الشعور الديني من جانب، وكُره المماليك من جانب آخر. فادّعاء " نابوليون" الإسلام، واستخدام المطبعة في نشر الأوامر العسكرية، واستدعاء الأعيان، وتشكيل المجلس الاستشاري(=الديوان)،كانت تهدف، في تلك الظروف القاتمة والقلقة، إلى إحكام السيطرة من جهة، وامتصاص الغضب من جهة ثانية، وكلاهما متلازمان في كل فعل استيطاني.
ذهب"أندريه ريمون" في كتابه"المصريون والفرنسيون في القاهرة:1798-1801"إلى أنَّ " الديوان" كان أشبه بمؤسسة" ذات طابع استشاري، حيث لعب دور الوسيط بين السكان المصريين والسلطات الفرنسية" ووجد الفرنسيون في ذلك " فوائد في استخدام مرجعية مصرية لتأمين سياستهم الخاصة" لكنّهم أصيبوا بخيبة أمل عظيمة" فواقع القاهرة لم يكن يتماشى مع الآمال الناشئة عن قراءة كتب الرحالة المتفائلين". ويدرج "ريمون" نصوصا من رسائل ومذكّرات ضبّاط الحملة وجنودها تعبر عن ذلك، وبالمقابل وجد القاهريون في أولئك الأجانب الذي يغزون المدينة تدريجيا، ويقيمون بينهم في بيوت المماليك، شبانا" تثير عـاداتهم الاستغراب، وغالبا الصـدمة، وتبدو على أية حـال غــير لائقة وعبثية". مع أنَّ شروط الحياة تفرض نفسها مع الزمن، فيكون التواصل بين الجانبين ظاهرا في حدّه الأدنى، لكنّه لا يمثّل، بأي حال من الأحوال تواصلا عميقا، فإدّعاء التوافق لا يعبر عن أي شيء من حقيقته المزعومة، على العكس،كان الخداع يربض وراء ذلك التوافق الزائف، فقد كتب الجنرال "دوبوي"حاكم القاهرة، الذي طالما وصف المصريين بأنّهم منفِّرون ومخبولون، معبّرا عن ذلك الخداع بقوله" نحتفل هنا متحمّسين بأعياد محمّد، ونخدع المصريين بإبداء تعلّقنا المزعوم بديانتهم التي لا يؤمن بها "بونابرت"ولا نحن بأكثر من إيمانه أو إيماننا بديانة المرحوم بيوس" وذلك في إشارة إلى "بيوس السادس" بابا روما الذي خلعه الفرنسيون قبيل قدومهم إلى مصر بأشهر.
ومن أجل كشف نمط التفكير الذي كان سائدا يحسن أن نورد نصين متقابلين يصوران احتفالا حضره "نابوليون" وأعضاء الديوان والسلطات في 18آب/ أغسطس عام 1798 فقد وصفته جريدة "أخبار مصر" الناطقة باسم الحملة، بأنّه كان مناسبة لحضور" عدد غفير من الناس الذين راحوا يلهجون بالثناء على النبي وعلى الجيش الفرنسي، وهم يلعنون البَكَوات واستبدادهم، فقد قالوا: أجل، لقد جئتم لتخليصنا بمشيئة الرحمن الرحيم" فيما يورد "الجبرتي"، المؤرخ وشاهد العيان، أنّه لم يحضر الاحتفال سوى عدد من المتسكعين بقلوب منكسرة، ونفوس ضعيفة، واعتكف أغلب الناس في بيوتهم في نوع من الاحتجاج والرفض. وليس غريبا أن يلعب النفاق لعبته الماكرة في مثل هذه الظروف، فقد أمر" نابوليون" بإحياء عيد المولد النبوي، وحضر إلى الاحتفال في أبّهة عظيمة، وأُلبس الفَروة، وجعله الشيخُ البكري" نقيبا للأشراف" بدل "عمر مكرم" الذي هرب من القاهرة عشيّة وصول الفرنسيين إليها، ومن الطريف أن يكون " نابوليون" نقيبا على آل البيت في مصر بعد أقلّ من شهرين على وصوله غازيا، وباستثناء هذه الفاصلة المرحة والشنيعة من الخداع فإنَّ العلاقات ظلّت متوتّرة ومتدهورة، فقد كان الفرنسيون يشعرون بالثقة في أنَّ الحضارة التي جلبوها سوف تلقى القبول من جانب السكان المصريين"وبالمقابل"لم يكن المصريون غافلين عن دوافع الفرنسيين العميقة.
وخاب الأمل حتى في أعضاء المجلس الذين أمر نابوليون إلباسهم شالا ثلاثي الألوان رمزا لشعار الثورة الفرنسية، وذلك كتعبير عن امتثالهم للسلطة الفرنسيّة، فكانوا يتردّدون في ذلك، ويخلعون تلك الشالات الزاهية الألوان قبل مغادرة المكان خشية التأويل الديني الذي يرجّح أنّهم انخرطوا في خدمة الفرنسيين، إذ كان ذلك محرجا لهم كعلماء دين، ولما تعمّق التوتّر، وبلغ حدّه الأقصى،كشف العنف عن وجهه بحجّة الحفاظ على النظام، فتوالت اغتيالات كبار الجنرالات:"جوليان" معاون القائد العام، الجنرال البولوني "سلكلوفسكي"، ثم "دوبوي"، وتوّج كل ذلك بمقتل " كليبر"، وهي اغتيالات وصفت بأنّها"كثيرة ومرتبكة"، وبالمقابل واصل الفرنسيون إعداماتهم للثائرين والمتمرِّدين: محمد كريم، سليمان الجوسقي، أحمد الأزهري، عبد الوهاب الشبرواي، يوسف المصيلحي، إسماعيل البراوي، السيد عبد الكريم، ثم سليمان الحلبي قاتل " كليبر".
لم يكن هذا سوى أنموذج فحسب، فقد سحق الفرنسيون ثورة القاهرة الأولى التي اندلعت في الحادي والعشرين من تشرين الأول / أكتوبر من عام 1798 وتراوح قتلاها، بحسب اختلاف الروايات بين سبعمائة وأربعة آلاف، واعتبر المهندس "جراسيان لوبير" عقاب "نابوليون" للمصريين معتدلا"حيال شعب فظّ وجاهل مؤمن بالخرافات وقاس" ودُكَّ الأزهر بالمدافع، وخُرِّب، واقتُحم بالخيول، ودُمّرت الكتب والمصاحف، وجرى تلويث المكان بالغائط والبول والمخاط والخمر، فقابل المصريون ذلك بسخط كبير. أما عامّة الناس،كما يقول الجبرتي، فقد نظروا " للفرنسيس بعين الاحتقار وأنزلوهم عن درجة الاعتبار، وكشفوا نقاب الحياء معهم بالكلية، وتطاولوا عليهم بالسبب واللعن والسخرية...ولم يتركوا معهم للصلح مكانا حتى إنَّ فقهاء المكاتب كانوا يجمعون الأطفال ويمشون بهم فرقا وطوائف حسبة، وهم يجهرون ويقولون كلاما مقفّى بأعلى أصواتهم بلعن النصارى وأعوانهم وأفراد رؤسائهم، كقولهم الله ينصر السلطان ويهلك فرط الرمان ونحو ذلك...على أنَّ ذلك لم يثمر إلاَّ الحقد والعداوة التي تأسست في قلوب الفرنسيس، وأوجبت ما حصل بعد ذلك من وقوع العذاب البئيس" وبالغ الفرنسيون في قسوتهم على القاهريين، وقمعوا تمردهم، واستباحوا القاهرة بجيوشهم، وحسب الجبرتي، فقد أعطى "جيشُ الرحمن فسحةً لجيش الشيطان".
وبلغت المفارقة مداها الكامل، بعد ذلك، حينما مثّل "نابوليون" دورا نبويّا، فخاطب المصريين بنبرة كونيّة بوصفه مخلّصا انتدبته العناية الإلهية " اعلموا أمتكم أنَّ الله قدّر في الأزل هلاك أعداء الإسلام، وتكسير الصلبان على يدي، وقدّر في الأزل أنى أجئ من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها، وإجراء الأمر الذي أمرت به...واعلموا أيضا أمتكم أنَّ القرآن العظيم صرّح في آيات كثيرة بوقوع هذا الذي حصل...واعلموا أني أقدر على إظهار ما في نفس كل واحد منكم؛ لأنني أعرف أحوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد ما أراه". وكشفت ثورة القاهرة الثانية التي استمرت أكثر من شهر بين آذار/مارس وأبريل /نيسان من عام 1800 عن حجم الكراهية المتبادلة بين الطرفين، إذ صُبغت القاهرة بدماء آلاف القتلى والجرحى، فيما خسر الفرنسيون أكثر من خمسمائة قتيل.
قرّر" أندريه ريمون "المتخصّص بهذه الحقبة المملوءة بالأحداث الكبيرة، أنَّ" نرجسية تاريخية" أوصلها تمجيد" الملحمة النابوليونية " إلى ذروتها، والمبالغة في تقدير أهمية النتائج العلمية للحملة قد برّرتا، من الجانب الفرنسي، تقييما إيجابيا بشكل مبالغ فيه للحملة ولنتائجها، يصل حدّ إرجاع يقظة مصر إلى عام 1798. أما المصريون فقد تردّدوا بين رؤية إيجابية للحملة" التي يقال إنها قد رمزت إلى بداية تحديث مصر " واتجاه يميل إلى اعتبارها بمثابة" لا حدث"بحكم أنَّ مصر لم تكن "نائمة"البتة في عام 1898 وبحكم أنَّ الآثار المباشرة للاحتلال كانت محدودة. وأيا كان الأمر، فإنَّ قصر أمد الحملة وطابعها العنيف والاستيطاني لم يكن من شأنه أن يسمح لـ"الحداثة" بمدِّ جذور لها في مصر، فتجربة الديوان(= المجلس)لم تمس غير عدد محدود من المشايخ، والإصلاحات الإدارية كانت مجرد مشاريع ورقية، ولم تطبّق قط بالفعل، ولم تعرف جمهرة السكان بشكل خاص سوى الجوانب القمعية، العسكرية والبوليسية لاحتلال لم تكفّ عن التطّلع إلى التحرّر منه، ومن جهة أخرى، فإنَّ الظروف ساعدت على إزالة الالتباسات المحيطة بالحملة بسرعة. هدفت الحملة على مصر إلى تعزيز مكاسب الفرنسيين دون مكاسب المصريين الذين اظهروا كراهية للفرنسيين، وفي أحسن الأحوال فشـلوا في فهم مقاصدهم فـهما كامـلا. وحسب"جوان كول "المتخصص في دراسة التاريخ الاجتماعي لمصر في القرن التاسع عشر، فإنَّ حكم الفرنسيين الذي استمرّ ثلاث سنوات "لم يترك إلاَّ أثرا ضئيلا".
abdullah.ibrahim.name