-1-

من خلال قراءتنا المتتابعة للفكر السياسي الديني الأصولي الإسلاموي، تبين لنا بأن هذا الفكر الذي تمثل معظمه جماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي وفي العالم الإسلامي وفي أوروبا، يغيّر جلده السياسي من وقت إلى الآخر، وذلك لمحاولة الوصول إلى كراسي الحكم بأي شكل من الاشكال، حتى وإن كان ذلك على حساب المبادئ الثابتة، والشعارات السابقة.

وقد قرأنا في تطور الفكر السياسي الديني الأصولي الإسلامي نماذج عديدة لتغيير الجلد هذا. وهذا في واقع الأمر ليس مُعيباً في السياسة. بل أن التغيير ضروري، والذي لا يتغير هو الحجر. بل حتى الحجر يتغير بفعل ظروف مناخية وعوامل الطبيعة المختلفة.

فالسياسة ليست كالدين. فهي متغيرة والدين ثابت. وهي نجسة والدين مُطهّر. وهي من المُدنّس والدين من المُقدّس. وهي من الأرض والدين من السماء. وهي تحكم والدين يهدي.. الخ.

-2-

وجماعة الإخوان المسلمين، نتيجة لتبنّيها في هذه المرحلة البرجماتية السياسية، والتي لخصها عصام العريان أحد قيادييها المصريين بقوله: "الاتفاق على التعددية السياسية والموقف من المرأة أمور فيها اجتهادات جديدة من جانب الإخوان تتماشى مع المستجدات التي تعيشها الأمة الإسلامية الآن"، متهمة بأنها تنازلت عن أهم أركان عقيدة المسلمين، ألا وهو ركن التسليم بحاكمية الله التي نادى بها سيد قطب. واتّباع أصول الجاهلية الديمقراطية في التشريع والتي تعني التسليم بحق البشر في اختيار ما يرونه من تشريعات وعقائد (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون). وهو تنازل مرحلي في رأينا لا تلبث بعده حركة الإخوان إلى العودة إلى شعارات ومبادئ الاربعينات والخمسينات، فيما لو استولت على الحكم. وهو ما قام به الترابي عند تسلم الحكم في السودان في عهد النميري. وهو ما يؤكده القرضاوي في سؤاله: "كيف يستغل الإسلاميون الديمقراطية وهم غير مؤمنين بها – حتى يصلوا إلى الحكم فقط – وحينئذ يحكمون على غيرهم بالإعدام؟" (أنظر: التعددية السياسية: رؤية إسلامية، ندوة نظمها مركز الدراسات الحضارية في القاهرة، ، مركز الإعلام العربي، القاهرة 1994، ص 55).

إذن، فلا اعتراض على جماعة الإخوان المسلمين - وهي زعيمة الحركة الدينية السياسية الأصولية الإسلاموية في العالم العربي - أن تغير من شعاراتها ومن مبادئها، وتجاري الظروف التاريخية السياسية المحلية والاقليمية والدولية المتغيرة. فهذا ذكاء من الجماعة وليس غباء، وهذه حصافة من الجماعة وليست "لقافة"، وهذا بعد نظر سياسي محض لا علاقة له بالدين على الاطلاق من جماعة تستعمل الدين كسلاح وغطاء لكسب مكاسب سياسية، وتحاول أن تؤقلم هذا السلاح وتطوّعه كلما اقتضت الظروف السياسية ذلك.

وهذا كله محمود للجماعة التي لا تثبت على موقف سياسي واحد، ولكنها تغير مواقفها كأي حزب سياسي متمرس في أية بقعة من هذا العالم. وفي هذا الصدد صرّح محمد عاكف مرشد عام الإخوان الجديد بأن الأولوية عنده الآن لملف الحريات، وأن قضية الحرية يجب أن تسبق قضية المطالبة بتطبيق الشريعة!

فهل هناك توجه جديد لتحويل الإخوان المسلمين من جماعة إسلامية كانت تطالب بتطبيق الشريعة كمطلب أولي إلى حزب سياسي يؤجل تطبيق الشريعة، ويسارع بالمطالبة بالحرية السياسية التي هي ليست من التراث الإسلامي، ولا علاقة لها به؟

وهل ستتحول الجماعة إلى حزب سياسي "مدني" لا "ديني"، كما يسعى محمد عاكف نفسه المرشد العام الجديد للأخوان؟

جماعة الإخوان المسلمين مثلها في هذا مثل أية فرقة أو طائفة دينية من الطوائف التي نشأت وتكاثرت فجأة في صدر الإسلام، والتي بدأت أصلاً على شكل أحزاب سياسية وصراعات على السلطة والحكم كما يقول جمال حمدان في كتابه (العالم الإسلامي المعاصر، ص125،126). وفي العصر الحديث ظل الدين أداة ميسورة للسياسة تستغله القوة لتشريع وجودها غير الشرعي مرة ولتبرير مظالمها مرة أخرى. وهذا ما يبشر بأن جماعة الإخوان المسلمين ربما تنتهي بعد عشر سنوات من الآن، أو بعد عشرين سنة، أو بعد نصف قرن إلى نفس المطالب التي يطالب بها الليبراليون الجدد الآن، من فصل الدين عن الدولة نهائياً، وتبني الدولة العلمانية، وتبني آليات الديمقراطية الغربية، والانتهاء من أسطورة الشورى ذات المحتوى السياسي الفارغ التي أصبحت مسخرة سياسية في العصر الحديث، حيث لم يكن لها وجود حقيقي أو تنظير سياسي علمي، لا في التاريخ العربي الإسلامي القديم، ولا في التاريخ العربي الحديث.

وهذا كله لصالح معركة الحداثة العربية على كافة المستويات. وهو يدفع بعجلة الديمقراطية إلى الأمام عندما تتصالح الجماعات الإسلاموية الأصولية مع نفسها ومع الليبراليين الجدد، وتتحد الشعارات والأهداف. وهو ما يبشر بالخير، ويبعث على التفاؤل، وإن كان كله سيأتي متاخراً بعد زمن طويل. ولكن لا بأس أن يأتي متأخراً، من أن لا يأتي أبداً.

-3-

إذن، لم تعد جماعة الإخوان المسلمين حركة دينية ولكنها أصبحت حركة سياسية محضة، لا تأخذ من الدين أي جانب سياسي، حيث لا سياسة في الدين تؤخذ لهذه الأيام. وانما تتبنى افكاراً سياسية غربية مائة بالمائة (الديمقراطية، الانتخابات، الحريات السياسة، النضال الدستوري، اقامة المجتمع المدني، اقامة الدولة المدنية وليست الدينية.. الخ)، وهو ما جاء مؤخراً على لسان محمد السيد حبيب عضو مكتب الارشاد في مصر الذي قدم شعارات سياسية حداثية وليبرالية جديدة للإخوان في مقابلة صحافية على موقع (الإخوان المسلمون) في الانترنت في 28/2/2004 ، فيما يعتبر انتفاضة سياسية إخوانية مثيرة. وكان من أهم هذه الشعارات الجديدة:

1- أن "الإخوان لا يسعون لأن يكونوا بديلاً لأحد، وهم حريصون على أن يكون لهم حزب سياسي". وحبيب لم يقل: "أن يكون لهم حزب ديني سياسي"، ولكنه قال: "حزب سياسي" فقط. كما أن حبيب تخلّى عن فكرة الإخوان لمحق ومحو الآخر عندما يتسلمون الحكم. فعندما تسلم الإخوان الحكم في السودان مثلاً، شنقوا المفكر الاصلاحي الكبير محمود طه بقرار من حسن الترابي زعيم الإخوان في السودان. كما استهدف الخط السياسي التعبوي، الذي انتهجته جبهة الميثاق الإسلامي، تصفية الدستور القائم وقتها، ومن ثم تصفية أساس الديمقراطية السودانية. وقد تجلى ذلك في انمحاء الخطوط الفاصلة بين السلطات الثلاث، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، الذي تجسد في قضية حل الحزب الشيوعي الشهيرة.

2- يرفع حبيب شعار: "تدرج الخطوات من ثوابت منهجنا، والنضال الدستوري سبيلنا عبر القنوات القانونية". وهذا اعتراف صريح بأن القرآن ليس دستوراً سياسياً. إذ لا دستور سياسياً في الإسلام. وكلمة "الدستور" ليست عربية وإنما فارسية. والدستور نظام سياسي جاءنا من الغرب. والنضال عبر القنوات القانونية تعني هنا، أن الإخوان قد اقتنعوا اخيراً، بأن لا قوانين سياسية في الإسلام، وانما هناك قوانين سياسية موضوعة وضعها البشر. وبذلك انتفت نظرية "الحاكمية" التي كان يدعو اليها سيد قطب من خلال كتابه (معالم في الطريق) والتي اقتبسها عن الفكر الباكستاني أبي الأعلى المودودي، الذي أصبحت بلاده الآن بلاداً ديمقراطية علمانية بارزة، لا أثر للحاكمية فيها، وتولت فيها المرأة رئاسة الوزراء. فلقد شدد سيد قطب، أكثر ما شدد، على الإستعلاء بالإيمان، بزعم أن المجتمع في مجمله، لا يعدو كونه قبيلاً من الجاهليين. وشدد على ألا يجيب المتحمسون على دربه لفكرة إقامة الدولة الإسلامية، على الأسئلة المتعلقة، بتفاصيل الدعوة، وإنما عليهم أن يكتفوا فقط بالدعوة إلى العقيدة.

3-يرفع حبيب شعار: "تبنّي الدعوة لإنهاء الخصومة بين الحكومات والشعوب من خلال الإصلاح السياسي وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني". وهناك اعتراض كبير على هذا النهج من قبل السلفيين الذين يرون أن نبذ "الجهاد العيني" الواجب ضد تلك الحكومات المرتدة التي تحكم بلاد المسلمين، بل ومعاداة وتسفيه من يدعو إلى ذلك، والتشنيع عليه، ودعوة الحكومات إلي القضاء عليه، والتبرؤ منه أمام هؤلاء الطواغيت. وأن دعوة حبيب مناقضة لقوله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).

وبذا، فقد خرجت – على هذا النحو – جماعة الإخوان المسلين من عصبة السلفيين ودخلت – ولو من طرف خفي – في عصبة الليبرليين الجدد الذين يسعون إلى المسعى نفسه. وهو مكسب جديد لليبراليين الجدد فيما لو صحّت دعوة الإخوان هذه، وتمّت المعجزة.

-4-

من ملامح الوجه الجديد لجماعة الإخوان المسلمين أن الجماعة في الاربعيات كانت تقف موقفاً معارضاً تماماً وقوياً من الانتخابات النيابية، وتنادي بالبيعة من قبل أصحاب (الحل والعقد) من الفقهاء الذين ينوبون عن الأمة في البيعة، علماُ بأن لا أحد أنابهم في ذلك. وما زال الإخوان حتى الآن في تنظيمهم الداخلي يأخذون بالبيعة، ولا يأخذون بالانتخاب. فالمرشد العام ( يجب أن يكون مصرياً. المرشدون من مصر، على غرار شعار: الأئمة من قريش) الذي يحكم الملايين من الإخوان في خمسين بلداً في العالم، يختاره بالبيعة 15 شخصا فقط من مكتب الارشاد، وهم (أهل الحل والعقد)! وهذه هي الشورى التي ينادي بنا الإخوان المسلمون، والتي لا يستشار فيها أحد، والتي هي مُعلّمة كما يقول الشعراوي والقرضاوي والغنوشي وغيرهم، وليست مُلزمة كالديمقراطية الغربية كما يقول خالد محمد خالد ومحمد الغزالي وغيرهما. ولكن حسن البنا عاد ووافق على مبدأ الانتخابات ورشح نفسه في العام 1942 للانتخابات، ولكن النحاس باشا رفض ترشيحه، وطلب منه الانسحاب وقَصْر نشاطه على الدعوة الدينية للهداية فقط. فانسحب في صفقة مكاسب سياسية مع حزب الوفد. وما زالت بعض حركات الإخوان في العالم العربي تؤمن بالبيعة لا بالانتخابات. وآخرها كانت بيعة الإخوان السودانيين لجعفر النميري التي وصفها ياسين عمر الإمام أحد قيادي الإخوان بأنها بيعة كبيعة الرضوان، وأنها تستعيد ذكرى السيرة العطرة ومواقف الصحابة في بيعة الرضوان (أنظر: محمد القدال، الإسلام والسياسة في السودان ، ص221).

-5-

ومن المتغيرات الجوهرية التي طرأت على فكر الإخوان السياسي البراجماتي الذي حوّل الإخوان الآن إلى حزب سياسي في الواقع، لا علاقة له بالدين إلا الإسم، التخلّي عن "الدولة الدينية" والمطالبة بقيام "دولة مدنية". وهكذا تقترب جماعة الإخوان من الأحزاب الغربية المسيحية الاشتراكية والديمقراطية المدنية في أوروبا (حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني، والحزب الديمقراطي المسيحي الهولندي، والحزب الديمقراطي المسيحي بسويسرا وغيرها) التي تأخذ من الدين اسمه لا فعله، حيث لا فعل سياسياً في الدين.

وفي هذا الخصوص، فقد أصدر عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين وثيقة بعنوان "المفهوم الإسلامي للإصلاح الشامل " تحمل مؤشرات على تطور رؤية جديدة من داخل التيار الإسلاموي تتحدث عن "الدولة المدنية" باعتبارها بدهية، لا بديل عنها لتحقيق المواطنة الحقة!

وفي رؤيته التي وزعها على هامش "مؤتمر أولويات وآليات الإصلاح في العالم العربي" الذي عُقد بالقاهرة في5 /7/2004، يؤكد أبو الفتوح أن "الخطاب الإصلاحي الإسلامي بشكل عام هو خطاب بشري"!

وأشار أبو الفتوح إلى أنه فيما يتعلق بالإصلاح السياسي ليس لدى التيار الإسلامي، وفي القلب منه الإخوان المسلمون، أي تصور لتنفيذ أي إصلاح سياسي سوى صناديق الانتخابات!

والسؤال هنا: لماذا لا يبدأ الإخوان المسلمون بأنفسهم، ويجريوا انتخابات شاملة ونزيهة، لانتخاب المرشد العام وأعضاء مكتب الإرشاد، بدلاً من قصر الموضوع على 15 شخصاً من أهل (الحل والعقد) كما جرى ويجري الآن؟!

وأين صدقية الإخوان في ذلك؟

-6-

وبعد، فهل نأخذ بهذه التصريحات التي صدرت عن قياديين كبار في جماعة الإخوان المسلمين، والتي تمثل انتفاضة فكرية سياسية في نهج وفكر الإخوان المسلمين، نأمل أن لا تكون مناورة سياسية من مناورات الإخوان السابقة؟

أم أن الأمر لا يعدو كونه مناورات سياسية، درج على الأخذ بها وتريديها الإخوان المسلمون في معظم أنحاء العالم العربي، لكي يحاولوا الخروج من عنق الزجاجة الذي هم فيه الآن، نتيجة لاندحار التيار السلفي الديني المسلح في فلسطين والعراق والسعودية وغيرها من العالم العربي، وافتضاحه كرمز لسفك الدماء وانتهاك الحرمات والفساد والسطحية والجهل وقلة العقل والجنون، وانتصار التيارات الداعية إلى العلمانية والعولمة والحداثة السياسية والانفتاح على الآخر؟

وهل كانت هذه التغيرات التي طرأت على فكر الأخوان المسلمين نتيجة لفقدانهم أكبر سند لهم في الماضي مالياً وسياسياً وهو السعودية التي أمنتهم من خوف واطعمتهم من جوع في الستينات وما بعدها، والتي أعلنت على لسان وزير داخليتها بأن جماعة الإخوان المسلمين أصبحت بلاءً على العالم العربي بعد أن كانت عزاءً ("السياسة" الكويتية، سبتمبر 2002)؟

وهل هذه التغيرات نتيجة لانتصار الشعب العراقي على طاغيته الأكبر فجر التاسع من نيسان المجيد 2003، والنهاية السعيدة التي انتهى اليها العراق الآن، والتي لا ترضي جماعة الإخوان المسلمين الذين وقفوا إلى جانب الطاغية المنهار، وساندوه في اعتدائه الأثيم على الكويت والسعودية؟

وهل هذه التغيرات نتيجة لوعد من الحكومة المصرية بالتصريح لجماعة الإخوان المسلمين باقامة حزب سياسي نتيجة للتغيرات التي طرأت في القيادة المصرية، فيما إذا هم بدلوا وغيروا من شعاراتهم ومبادئهم للحصول على هذا التصريح الذي يجاهدون من أجله منذ سنوات طويلة مضت؟

كل هذه الأسباب واردة، وهي أسباب سياسية مبررة على المستوى السياسي, وغير مبررة دينياً. ولكن المهم في النهاية أن تكون هذه هي القناعات الفكرية السياسية لجماعة الإخوان ولا تكون الجماعة عصية على التغيير والتطوير حتى لا ينطبق عليها- لا سمح الله - القول الشعبي:

(ذنب الكلب أعوج، ولو وضعته في مائة قالب!)

(تنشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية، و "المدى" العراقية، و "الأحداث المغربية")

[email protected]