لقاء مع الشاعرة الفلسطينية زينب حبش:

- لا يحق لاحد ان يقصر الأدب الفلسطيني على محمود درويش وسميح القاسم
- شهرة فدوى طوقان كانت لاكثر من سبب فلا تقارن شهرتها بي

حاورها حسن الشيخ: الحوار مع أديبة كبيرة وشاعرة مثل الأديبة الفلسطينية زينب حبش، حوار محفوف بالمخاطر. انها مغامرة حقا ان تفتح حوارا من نوع ما مع شاعرة مبدعة وقاصة متميزة و فنانة تشكيلية ومترجمة في آن واحد. انك بحاجة ان تستجمع كل قواك لكي تحاول قراءة تلك الشخصية حتى تقدمها لقراء إيلاف وهي المتقدمة دائما. إيلاف تفتح كل أوراق الشاعرة والقاصة الفلسطينية زينب حبش لكي تبوح بأسرارها الثقافية والنضالية. فهي شاعرة ترسم للوطن اجمل لواحتها , وتغني للحرية أعذب قصائدها، وكيف لا وهي الشاعرة التي لا تحتاج إلا إلى حرف واحد لكي تكمل قصيدتها.


* كيف يمكن أن نبدأ حواراً غير عاديا مع شاعرة ومترجمة وقاصة وكاتبة مثلك؟
- وهذا ما يُحيرني أنا أيضاً. فهل أنا كلّ ذلك؟ ها أنت تُعيدني إلى سنوات عمري الأولى. إلى الطفلة التي كانت تستمع بشغفٍ إلى حكايات أبيها التي لا تخلو من الشعر. والتي تحفظ كلّ القصائد التي يتدرّب اخوتها الكبار على حفظها باللغتين العربية والإنجليزية. ألا توافقني أن الشاعرة التي تسكنني الآن هي تلك الطفلة نفسها؟
أوّل مشاركة لي كشاعرة في برنامج " مع أدبنا الجديد"، كانت قصيدة بعنوان "سماء". كنت حينذاك طالبة في الصف الثالث الإعدادي. وبعد ذلك، كانت كل قصائدي تفوز، وتُذاع. إلى أن فوجئت بإحداها منشورة في مجلة الإذاعة. وأسفل العنوان: الشاعرة زينب حبش. قفزت من شدّة الفرح. أحقاً؟! كنت لا أزال طالبة في الجامعة أدرس اللغة الإنجليزية وآدابها.
كان الشعر عندي بمثابة اللعب بالكلمات والصور والموسيقى. وتحوّل إلى غذاء روحيّ لا غنى لي عنه. لديّ الآن مخطوطتان: الأولى بعنوان " كيف أضمّ إليّ القمر!" والثانية بعنوان " شعرت بالدنيا تُغني". وهما تضمان قصائدي فترة الدراسة المدرسية والجامعية. وأعتبرها أجمل قصائدي وأحبها إلى نفسي. ثم تغيّر الحال، فتحوّلت القصيدة الذاتية إلى التعبير عن الوضع العام، في دواويني الخمسة المطبوعة.
المترجمة ظهرت بشكل واضح حين وصلتني رسالة من الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ردّاً على قصيدة ورسالة أرسلتهما له بعد زيارته لرام الله، عام 1996م. كانت في الحقيقة رسالة مدهشة، دفعتني لمراجعة اللغة الفرنسية التي تعلمتها في الجامعة.فطلبت من الأستاذ الفرنسي في رام الله أن يساعدني على مراجعة اللغة عن طريق ترجمة بعض قصائدي إلى الفرنسيّة. وحين نجحت في ذلك فكرت بأن أختار قصائد من دواويني الخمسة، لأشرع بترجمتها إلى اللغة الإنجليزية.
أما القاصة، فهي حكاية أخرى. معظم قصصي القصيرة كتبتها عن الأطفال ولهم. لعلّ لطبيعة عملي كموجهة في منطقة القدس آنذاك، أثراً كبيراً في ذلك. فقد كنت أزور المدارس معظم أيام الأسبوع، وأنتقل من مكان إلى آخر في أنحاء المنطقة. ولقد كانت علاقتي بالطلبة والهيئات التدريسيّة علاقة حميمة. وكنت أشاهد الأحداث التي يُعانون منها بنفسي. وكثيراً ما كنت أقف إلى جانبهم أثناء اقتحام الجيش للمدارس، أو أستمع إلى الحكايات التي يسردونها عليّ، فأتأثر بها. ومن ثمّ تتحوّل إلى قصص، إضافة إلى القصص التي تنطلق من قلمي بالطريقة التي تنطلق بها القصائد.
الكاتبة أو الباحثة، هي المتخصّصة بدرجة ماجستير في التربية من جامعة بيرزيت والتي تبحث عن أدوات جديدة تساعد فيها المعلمين والطلبة على التعليم والتعلم بطرق جديدة محفزة، ومثيرة للتفكير والإبداع. وهذه تجدها في جميع دراساتي التربوية. سواء أثناء عملي موجهة للغة الإنجليزية قبل عام 1996م، أو خلال عملي الحالي في وزارة التربية والتعليم العالي كمدير عام وأمين سرّ لجنة التربية والتعليم، إلى جانب رئاسة لجنة تحسين نوعية التعليم والتعلم، حتى الوقت الحاضر.

* أيهما يسيطر عليك الآن؟ الشاعرة أم القاصة؟
- لا هذه ولا تلك. فأنا أتنقل الآن بحرية بين فنون الأدب والعلوم على اختلاف أنواعها. وهذه الفترة بالذات أنتظر صدور أوّل رواية لي بعنوان " الفراشة والأخطبوط". وفي الوقت نفسه، أقرأ بنهم في الكتب التي اشتريتها من المعرض الدولي السادس للكتاب، الذي استمرّ عشرة أيام في مدينة رام الله. وقد تستغرب لو قلت لك إنها تتضمن كتباً في دراسة العقل، وحول التفكير والإبداع والفلسفة والشعر والمسرحية والرواية والقصة القصيرة. بعضها باللغة العربية والآخر باللغتين الإنجليزية والفرنسية. والسؤال الذي يُطرح، كيف أقرأ هذه الكتب المتنوّعة في آن واحد؟ حسناً، إنني أتنقل بينها كما تتنقل النحلة من زهرة إلى أخرى.

* من هنا يمكن أن نغوص بشكل أعمق في نفسيّتيْ القاصة والشاعرة، لكي نتلمّسَ عشقهما لفلسطين. فكيف صنعت هذا العشق الجميل في كتاباتك وشعرك عن تلك الأرض المقدّسة؟

- عشقي لفلسطين هو الهواء الذي أتنفسه. وقد بدأ هذا العشق منذ سنوات طفولتي الأولى التي عشتها في بيت دجن/يافا قبل عام النكبة. كانت فلسطين آنذاك هي أرجوحتي التي أحلق بها كما الفراش. وحين حُرمت منها، شعرت بأنّ الحياة بدونها أو بعيداً عنها لا تساوي شيئاً.ظلت فلسطين هاجسي وحلمي الذي لا يُفارقني. وما أن تعلمتُ أبجدية الحروف، حتى بدأت أصوغ منها كلمات وعبارات، سرعان ما نبت لها زغب وريش، فصارت تجري على الورق. ثم صارت تُحلق في سماء أحلامي على شكل يوميّات، فيها كلّ ما أحمله من مشاعر وأفكار وأمنيات، وكلّ ما يفرحني ويدهشني ويجعلني أحلق في عوالم جديدة لا يراها سواي.
بدأت أول قصيدة وأنا في السادس الابتدائي، أقول في بدايتها:
فلسطيني فلسطينيفديتك بالملايينِ

فأوّل كلمة أنارت لي طريق الشعر، كانت فلسطين كما وردت في الشطر الأوّل. وثاني كلمة امتزجت بروحي من أجل تحرير فلسطين، هي الفداء. لقد رافقتني هاتان الكلمتان منذ بداية رحلتي في هذه الحياة، حتى هذا اليوم. وليس غريباً أن ترافقاني حتى آخر يومٍ في حياتي.كان أفراد أسرتي هم أوّل من يقرأ قصائدي وقصصي ويعتزّ بها. أما أمي، فكانت أوّل من أقرأ لها كل ما أكتبه. فتساعدني بحسّها الشاعريّ في استبدال كلمةٍ بأخرى. وكما قلت سابقاً، إن الفضل الكبير في حبي للشعر والقصص يعود إلى أبي وأمي. فقد عوّدانا أن لا ننام إلا على الحكايات المضمّخة بالقصائد، والأغنيات التي يفوح منها عبير الشعر والموسيقى. وينبعث منها عشق الوطن والتضحية من أجله.
ولا غرو في أن ينعكس كلّ ذلك على كتاباتي، سواء في ذلك الشعر أو القصة أو الخاطرة. وإذا لم يكن ما أكتبه للتعبير عن حبي لفلسطين، فعن حبّ من يمكن أن يكون ذلك؟

* في ديواني ( قولي للرمل) و ( لأنه وطني)، الصادران في بداية التسعينات بوح مشرع الأبواب على الذات وعلى الوطن وعلى التاريخ وعلى المكان. ما سرّ هذا البوح المتدفّق؟ وهل هو صادر من الإنسانة الشاعرة أم من الشاعرة المناضلة؟
- قبل أن أجيب عن أسئلتك المدهشة، أودّ أن أشكرك لأنك جعلتني أعود إلى دواويني وقصصي، فأقرأها وأتأمّلها واستعيد لحظات كتابتها. هذه تجربة كبيرة بحدّ ذاتها، لم تكن لتخطر لي على بال، لولاك أنت. لنعد الآن إلى الأسئلة.
ديوان ( قولي للرّمل)، كان أوّل ديوان نُشر عام (1993م). علماً بأنه لم يتضمن أولى قصائدي، وإنما آخرها، في ذلك الوقت.
معظم القصائد لا تعبّر فقط عن عشقي لهذا الوطن المقدّس، وإنما أيضاً عن حبي وتقديري الكبير لهذا الشعب المعطاء. أن تحبّ الوطن يعني أن لا تكون جزءاً منه، وإنما أن يصبح هو جزءاً منك. بترابه وسمائه وشعبه، بأشجاره وأزهاره وطيوره، وبكل ما ينتمي إليه.
أهديت الديوان لأمي قبل وفاتها بفترة قصيرة:
إليها... إلى التي لا تكفي كل الكلمات الحلوة لأن تكون أوصافاً لها... إلى أمي... بمعناها الحقيقي.... وبمعناها الرمز.... ).

هذا البوح المشرّع على الذات والوطن، أختزله بمقدّمة قصيدة " أحلام فلسطينية ":

كما يلتحم القضاء بالقدرْ
كما تذوب التربة السمراءُ
حين تلثمّ المطرْ
كما تغيب النجمة الشقراءُ
حين يضحك القمرْ
أذوب فيكْ
أغيبُ في عينيكْ
أصير شرياناً في قلبكَ الكبيرْ
يا وطني...

أما ديوان ( لأنه وطني )، فهو الديوان الأخير الذي ضمّ أحدث القصائد آنذاك، وقد نُشر عام (1999م). وهو يُعبّر عن مرحلة ما بعد أوسلو، وعن الدولة الفلسطينية التي حلُمنا بها، وعن السلام الحقيقي الذي نريده. وفيه أردّ على قصيدة أخي " صخر أبو نزار" الذي عاد، بعد ثلاثتين عاماً، من الشتات إلى أرض الوطن.كنت في أعماقي أشك بما تمخض عنه مؤتمرا مدريد وأوسلو. لأن ما نُشاهده على الأرض يتعارض مع كلّ أمنياتنا بتحقيق العدالة والحرية والسلام. لكنني رغم ذلك، أظلّ مصرّة كشاعرة مناضلة على أن نعمل على تحقيق تلك الأحلام. وأظل مصرة كشاعرة إنسانة، بأن:

أعودَ لأغمسَ ريشتي بالحبّ
أصنعَ من ضياءِ عزيمتي
شمساً تُضيءُ
وتغمرُ الدنيا سلام.


* هل يمكن أن نجد تفسيراً لذلك البوح ببعده الإنساني الجميل في تضاريس شعرك التي حوتها كلّ دواوينك الشعرية؟
- لعلّ ذلك ينبع من التراث الديني الذي تشرّبته منذ نعومة أظفاري. فالإنسان هو الذي خلقه الله سبحانه في أجمل صورة. وحبي للإنسان ينبع من حبي لله الذي جعل الملائكة تسجد له. وأنا حين أتحدّث عن العدالة أو الحرّية أو السلام أو السعادة، فإنني أتمنى أن تغمر البشر، كلّ البشر في هذا الكون.
( أحلم لو تصير الكرة الأرضية
أغنية شعبيةْ
يُطلقها الصغارُ والكبارْ
في رحلةِ الحياةِ
في الأعراسِ
في الأفراحِ
في الأعيادْ
وفي مواسم الجمالِ والحصادْ)


* تجاربك أشبه بالمغامرات الشعرية الجميلة، أقول رأيي كقارئ.
- أشكرك على هذا التشبيه الجميل لتجاربي الشعرية. فالمغامرة تعني الإبداع. أي تقودك إلى السير في عوالم سحرّية لم تكن تعرفها من قبل. ويسعدني أن أكون كذلك.

* عندما نتصفح دواوين شعرك، نجدها اتخذت من القضية الفلسطينية همها ومحورها، وصادرت مواضيع الشعر الأخرى.
- إنه لشرف كبير أن تتصفّح دواوين أشعاري. وهذا الأمر يُسعدني بحدّ ذاته. أما أن تجدها قد اتخذت من القضية الفلسطينية همها ومحورها، فإنني أوافقك على ذلك. فهي همي الكبير الذي من أجله اعتُقلتُ في السجون الإسرائيلية. ومن أجله استشهد أخي أحمد وابن أخي بسام، وكذلك ابن أخي خالد. ومن أجله اعتقل كلّ من ينتمي لأسرتي، ومن أجله أيضاً لا زال شعبي الفلسطيني يُعاني قسوة الاحتلال صبحاً مساءً.أما مصادرة مواضيع الشعر الأخرى، فأنا في الحقيقة لا أتعامل معها كبضاعة تخضع للمصادرة. وإنما أرحّب بها لو فكّرت يوماً ما بزيارتي والتقرّب إليّ.
وأودّ أن أشير هنا إلى أن القصيدة تشبه الطائر المغرّد. هي التي تختار أن تحطّ على غصن دون آخر من غير أن يجبرها على ذلك أحد. وأنا لم أجبر نفسي يوماً على كتابة أي نوع من أنواع الأدب، سواء كان قصيدة أو خاطرة أو قصة أو غير ذلك. هي التي تأتيني بشكلها الذي تختاره بعد أن تتخمّر في ذهني. وما أن تنضج حتى تستفزني لأن أمسك قلمي وأنطلق على بساط أوراقي، إلى أن تخرج كما يخرج الجنين من رحم أمّه. بالتكوين الذي يُميّزه عن غيره. فتندهش به الأم الذي كان يعيش كجزء منها، كلّ تلك الشهور.ربما لو أتيحت لك فرصة قراءة باقي الأشعار التي لم تُنشر، لوجدت أنني لم أصادر تلك المواضيع الأخرى التي تتحدّث عنها.

* ألا يكفي الأدب الفلسطيني شعر محمود درويش وسميح القاسم؟ هل يرغب الشعراء باستنساخ تجربتي هذين الشاعرين الكبيرين؟

- مع احترامي الكبير لهذين الشاعرين، واعتزازي بشعرهما الرائع، إلا أنّه لا يحقّ لأحد أن يقصر الأدب الفلسطيني عليهما وحدهما.
فالأدب الفلسطيني لا زال عاجزاً عن التعبير عن هذه القضيّة التي تشغل العالم بأسره. ولكل فلسطيني وغير فلسطيني الحقّ كلّ الحق بأن يكتب عن هذه القضيّة، سواء ببعدها الإنساني أو الأخلاقي أو الوطني.أما كلمة استنساخ، فتعني طبق الأصل. ولا يمكن لأيّ تجربة أن تكون نسخة طبق الأصل عن تجربة أخرى حتى لو كانت حول الموضوع نفسه. فالشاعر الواحد، تتغيّر لديه التجارب بتغير الزمان والمكان.وعلى سبيل المثال، فإن تجربة محمود درويش داخل الوطن، تختلف عن تجربته خارج الوطن. وتجربة سميح القاسم داخل الأرض المحتلة عام 1948م، تحتلف عن تجربة زينب حبش أو غيرها، التي عايشت فترة الاحتلال منذ عام 1967م حتى الوقت الحالي.
لكلّ شاعر يا أخي العزيز تجاربه الخاصة به على مدى الزمان والمكان، وبقدر ما يكتسبه من علم وثقافة.

* منذ ديوان ( قولي للرمل) حتى ديوان ( حفروا مذكراتي على جسدي) هناك تجارب متنوعة ومتفاوتة في هذين الديوانين. فإلى أين ترغب أن ترسو أشرعة تجربتك الشعرية؟ وخاصة بعد أن توقفت عن كتابة الشعر العاطفي.

- من قال إنني توقفت عن كتابة الشعر العاطفي؟ أم أنك تقصد الشعر الرومانسي؟ إن كل قصيدة تعبّر عما يختلج في نفس الشاعر من عواطف. والعواطف كثيرة ومتعدّدة. فهناك عاطفة الحزن أو الفرح، وعاطفة الألم أو السعادة، وعاطفة المحبّة أو الكراهية، إلى غير ذلك. ألم تلاحظ أن أشعاري تغرق في كلّ هذه الأشكال؟ حتى أنّ هناك الكثير من الشعر الرومانسي ولكنه غير ظاهر بشكل مباشر.

* دعيني أسألك بصراحة. لماذا لم تحصل زينب حبش على تلك الاحتفالية الشعرية التي حصلت عليها فدوى طوقان في العالم العربي من الخليج إلى المحيط؟ رغم أنك شاعرة مجيدة ومميّزة؟ فهل لانشغالك بالتعليم وكتابة القصة حيناً والترجمة مرّة أخرى دور في ذلك؟

- إن أجمل احتفالية شعرّية بالنسبة لي، هي أن تقرأ أنت وغيرك أشعاري. وأن أشاهد قصائدي على المواقع المختلفة على الشبكة الإلكترونية. فحين أقرأ التعليقات عليها من الشعراء والقرّاء، أشعر بالسعادة. ويكفيني ذلك.أما أن تقارن بيني وبين الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان، ومدى شهرتها على صعيد العالم العربي، وحتى الغربي أيضاً، فهي تستحق كل ذلك بجدارة. إلا أنّ ذلك يعود في الوقت نفسه إلى أكثر من سبب.
فدوى طوقان كانت مشهورة قبل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948م.حين كنت لا أزال طفلة في الروضة. واستمرّت في نشر أعمالها دون توقف. كما أنها عُرفت كشاعرة كبيرة تخطّت بجدارة الرحلة الصعبة والرحلة الأصعب في حياتها. وعُرفت كذلك كشاعرة مناضلة من خلال قصائدها الرائعة أثناء فترة الاحتلال.
أما زينب حبش، فقد كانت آنذاك طفلة غير معروفة لأحد. ثم كبرت وصارت تحفظ دواوين فدوى وغيرها عن ظهر قلب.وحين بدأت كتابة الشعر، صارت ترسله للإذاعة. كما أنها لم تنشر سوى بعض القصائد في مجلة الأفق الجديد.
بعد تخرجي من جامعة دمشق بعامين احتلت الضفة الغربية، وكنت آنذاك أعمل مع وكالة الغوث مديرة مدرسة في منطقة نابلس. آثرتُ الانغماس في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة لديّ. وأهمّها الاهتمام بالتعليم الذي كان المحتلون يهدفون إلى تدميره، بإغلاق المؤسسات التربوية وتغيير المناهج، وتفريغها من محتواها، إلى جانب تفريغ المكتبات المدرسية من كتب المطالعة.لقد أجبت بنفسك حين ذكرت التعليم وانشغالي به. أما الأمور الأخرى، فلا علاقة لها بذلك لأني لم أكن قد كتبت قصصاً ولا ترجمت قصائد في تلك الفترة، إلا ما كنت أكتبه في حصص التعبير في المدرسة.
لم أحاول نشر قصائدي في دواوين لأنها لم تأخذ الأولوية في اهتمامي، إضافة إلى أنّ معظم القصائد التي كنتُ أنشرها في الصحف والمجلات – خاصة بعد فترة الاعتقال – كانت تُشطب من قبل الرقيب الإسرائيلي. علماً بأن الكثير من زملائي في العمل كانوا يتداولونها فيما بينهم بخط اليد.
ديوان ( حفروا مذكراتي على جسدي) كان ترتيبه الثالث ( بعد الديوانين المخطوطين")، وبعده ( لا تقولي مات يا أمي) ثم ( الجرح الفلسطيني وبراعم الدم) وبعده (قولي للرمل) والأخير ( لأنه وطني). وكما تلاحظ فقد نشرتُ دواويني بطريقة عكسيّة. وقد بدأت ذلك كما -ذكرت سابقاً- عام 1993م. وهذا يعني أنها لم تصل لأحد من خارج الوطن. كما أنني كنت أنشرها على حسابي الخاص وليس عن طريق دور النشر التي تهتمّ بتوزيعها. في عام 2002، أنشأت موقعي الإلكتروني، وأدخلت كلّ أعمالي الأدبية والتربوية. وكنت حريصة أن أسّهل على القارئ الاطلاع عليها أو سحبها دون أيّ عائق. فهي ملك لكل من يقرأها، وهدية لكل من يحبّ اقتناءها والاستفادة منها.
وبالمناسبة، هناك سيدة فلسطينية في مصر تُعدّ رسالة الدكتوراة حول الأدب المقارن. فاختارت قصائدي وقصائد فدوى طوقان تحت عنوان الشعر المقاوم للمرأة الفلسطينية، وذلك بعد اطلاعها على الموقع.

* أنت لا تحتاجين إلا لحرف واحد لتكملي قصيدتك! أتلك ثورة المشاعر أم أنها ثورة المناضلة في داخلك؟
- كنت أحلم بأن أنهي قصيدتي النابعة من الشاعرة المناضلة في داخلي، لأتفرغ بعد ذلك للكتابة عن الحرّية والسلام والفرح وكلّ ما هو جميل ورائع في هذا الكون. إلا أن ذلك الحرف، استجاب لندائي كنهرٍ خالدٍ من الدماء البريئة، التي قُدّر على هذا الشعب الفلسطيني أن ينزفها في الدفاع عن حريته وكرامته.

* دعينا ننتقل من الشعر إلى القصة. ألم يكفيك الشعر لمواجهة الاحتلال؟ أم أنّ المناضلة فيك تحتاج إلى أسلحة أكثر؟ أم لا هذا ولا ذاك؟ فأردتِ التعبير عن نفسك بعيداً عن مسطرة الشعراء إلى فضاء القصة؟
- لا مجال للانتقال من الشعر إلى القصة أو العكس. فالشعر والقصة وجهان لعملة واحدة، هي الأدب. قد تأتيك جنيات الشعر بقصيدة. ثم تتبعها جنيات القصة بحكاية لا يُمكن للشعر أن يُعبر عنها، وهكذا.
أما أن المناضلة فيّ تحتاج إلى أسلحة أكثر. هذا صحيح.فالشعر لم يعد يكفيني لمواجهة الاحتلال. فهناك الخاطرة والقصة والرواية واللوحة والتمثيلية كما أنّ هناك كلّ الدراسات التربوية التي قارعتُ بها جيش المحتلين. وهناك المقالات السياسية والرسائل التي كنت أرسلها عبر شبكات الإنترنت، من أجل أن تصل معاناة أطفال فلسطين وشبابها ونسائها وشيوخها وأشجارها وكلّ ما يدمره جيش المحتل فيها إلى كل المهتمين بهذه القضية المزمنة. وكنت أكتب تلك الرسائل والمقالات بالإنجليزية، كما كنت أترجم كل ما أجدهُ مهمّاً من الإنجليزية إلى اللغة العربية. فكانتُ تلك المقالات تنشر في جريدتي الانتفاضة والرصيف، وفي الجرائد المحليّة الثلاث.
في الانتفاضة الأولى كانت هديتي لطلبة المدارس والمعلمين كتاب "تعلم كيف تتعلم بنفسك" وكتاب "ترشيد المناهج المدرسية في الضفة الغربية وغزّة". ليتمكن الطلبة من التعلم بأنفسهم أثناء إغلاق المدارس. وليتمكن المعلمون من التركيز على المهارات الأساسية في التعليم بحيث يتعلم الطلبة أكبر قدر ممكن في أقلّ فترة من الزمن.

أما في انتفاضة الأقصى، فقد كانت هديتي، أو سلاحي الجديد، كما تحب أن تسميه، كتاب ( آفاق تربوية في التعليم والتعلم الإبداعي)، وكتاب ( التفكير الإبداعي). وإذا بحثت في جوجل باسم زينب حبش، تجدّ أن بعض مديريات التربية والتعليم في السعودية، قد وضعت دراستي حول القراءة الإبداعية على موقعها الإلكتروني، هل تُصدّق أن فرحتي بذلك كانت أعظم من أي جائزة مهما عظمت؟هذه برأيي أهمّ بكثير من نشر أعمالي الأدبية التي لازالت تنتظر النشر، والتي لا هي قصّة ولا قصيدة، وإنما خواطر شاهدة على ما يحصل داخل الوطن، ليظلّ مشعلاً يُنير الدرب للأجيال القادمة.

* أنت تصرين على استخدام كل أدوات التعبير. رسمت بالحروف وأنت الآن ترسمين بالفرشاة. لماذا كل تلك الأدوات؟ ألم تشتّت إبداعك؟
- صدّقني أنني لا أصرّ على استخدام هذه الأدوات، وإنما هي التي تصرّ أن ألعب بها ومعها. في المرّة الأولى التي فكرت فيها أن أرسم بالفرشاة كانت قبل مجزرة الحرم الإبراهمي بيوم واحد. فاشتريت كل ما أحتاجه من فراشٍ وألوان يوم الخميس. كان لدّي حدس بأنّ حدثاً ما سيحصل، وبأنني لن أتمكن من ممارسة هوايتي في المشي اليوميّ. لذا عليّ أن أبحث عن بديل لذلك.
يوم الجمعة، حصلت الجريمة، وفُرض علينا حظر التجوّل لمدة أسبوعين متواصلين. خلال هذه الفترة، لم أدع مزهرية أو صحناً أو ورقة إلا ورحت أطرطشها بالألوان. لأوّل مرّة في حياتي، أدركت ما تعنيه الفرشاة بالنسبة للرّسام. فهي تساعده على بثّ همومه ومشاعره وأفكاره بطريقة تختلف عن قلم الكاتب.لقد ساعدتني الفرشاة على تخطّي تلك الأزمة الصعبة. وإلا كنت سأعاني من المرض، كما كان يحصل لي في مثل هذه الأزمات.
بالممارسة، توطّدت العلاقة بيني وبين الفرشاة، فأصبحت صديقتي. صارت لعبتي التي بها أجد الفرح والسعادة. ولعلها هي التي دفعتني لتعلم الرسم، ولشراء الكتب الجديدة لتعلمه، ولاقتناء كل ما تحتاجه مبتدئة مثلي من موادٍ وأدوات. بالرسم ملأت وقتي أثناء إجتياح رام الله خلال السنوات الأربع الماضية. وما تراه على الموقع ليس كل ما رسمته، فهناك العديد من اللوحات تنتظر الظهور على شاشة الموقع كذلك.أنا لست معك في أن تعدّد أدوات التعبير تشتّت الإبداع. بل هي في الحقيقة تكمله وتثريه.

* ما هو الفرق بين خواطرك وشعرك؟
- إنها كالفرق بين طفلٍ وآخر. فكلاهما جميل، وكلاهما نابع من القلب. وكما قيل: "ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب". وأنا في الحقيقة لا أفرض نفسي عل أيّ منهما. وإنما أتلقى أيّاً منهما بشوق ومحبة. المهم أن تكون الخاطرة " وأنا أسميها نثراً فنياً"، قادرة على التعبير عمّا يجول في نفسي كما تفعل القصيدة ذات التفعيلة.

* أنت ترجمت بعض دواونيك الشعرية. وتلك مغامرة تستحق التوقف.
- لقد ترجمت بعض القصائد من دواويني، وليس بعض دواويني. أما أن هذا الأمر يُعدّ مغامرة، فأنا أوافقك. وإلا لما كنت متردّدة ومتهيبة في البداية. أظنّ أنني أوضحت سابقاً ما الذي دفعني لترجمة أولى قصائدي بالفرنسية. ونجاحي في ذلك، دفعني إلى المغامرة في ترجمة أشعاري ومن ضمنها بعض الخواطر.أمّا أن ذلك مغامرة تستحقّ التوقّف. نعم. ففي بحثي الأخير حول التفكير الإبداعي، لاحظت أن المبدع هو شخص مغامر. يبحث فيما هو جديد، ويجرب ما لم يكن قد جرّبه سابقاً. لذا، فإنني أشكرك على منحي هذه الصفة التي أعتزّ بها. وآمل أن تقرأ قصائدي باللغة الإنجليزية لتحكم عليها بنفسك.وأخيراً، لك مني كلّ الشكر والتقدير، لاهتمامك بقراءة قصائدي وقصصي، ولمشاركتي في الحديث عنها. كما أشكرك على تقديمي للقرّاء بهذه الطريقة المدهشة.