ما أن تجتاز السيارة الحدود الأردنية في طريقها الى بغداد حتى يختلف كل شئ.. السماء والهواء والماء والوجوه والهموم... تنهب عجلات السيارة المسرعة الطريق الدولي الذي كانت بعض نقاطه الى زمن ليس بالبعيد مرتعا لقطاع الطرق الملثمين. ثم يأتي الشروق، و ها هي الشمس الأجمل كما وصفها السياب، ترتفع في الأفق على مرمى البصر.. إنه الفجر الأول في بغداد بعد سنوات طويلة..

طريق طويل قصير، مشبع بنسمات الفجر الخريفية المحملة بذكريات الطفولة و الصبا وريعان الشباب واحلام ربيع العمر وذكريات القمع والحروب و وجوه الاصدقاء والأهل والاحباب، تمر جميعا في الذهن كشريط فيلم قديم. دورية أميركية وأخرى عراقية تمران بسرعة، في حين ندخل نطاق" ابو غريب" متجهين الى قلب بغداد، موطني النائي القريب، على حد تعبير الشاعر الكبير رشيد ياسين..

بغداد و أهلها
الحديث عن بغداد من خارجها، غيره من داخلها. في الخارج تتقاذفنا العواطف و المصالح و المواقف و الأهواء و التراكمات و الصور المختلطة و اكاذيب الاعلام ومبالغات مختلف الاطراف كل على هوى ليلاه..أما الداخل، فهمومه و اولوياته و احلامه مختلفة.. كذب من قال إن البغداديين قد تغيروا، بل نحن في الخارج من تغير.. ها هم، بكل طيبتهم و عفويتهم، و ضحكتهم و نكاتهم ، يسخرون من الماضي المظلم والحاضر الغامض و يحلمون بمستقبل مشرق. لقد استرد البغدادي عفويته الأسيرة و سخريته المميزة، بعد عقود من الظلام كانت النكتة فيها كفيلة بقيادته الى حبل المشنقة.

وبغداد الواقع غير بغداد "الجزيرة" و "العربية" المختلقة التي يصورونها كما يريدونها، فها هو العراقي يتحدى القتل العشوائي الذي قد يأتي من قنبلة على قارعة طريق أو سيارة مفخخة في الزحام أو قذيفة هاون تائهة تنطلق من خرابة أو جحر، فترى الطرقات مزدحمة و الاسواق عامرة و حتى ساعات متأخرة من الليل في مختلف المناطق، و يذهب التلاميذ الى المدارس و الجامعات و الموظفون الى دوائرهم في مثال لتفوق ارادة الحياة على ارادة الموت. و في حين اعتاد سكان بغداد التعامل مع انقطاعات الكهرباء التي شهدت تحسنا ملحوظا مع نهايات تشرين الأول و تذبذب مستوى الخدمات الاخرى، و ازمة المشتقات النفطية الخانقة، فإن الهم الأمني لا يزال الرقم الأول في الاهتمام الشعبي، و هو ما تراهن عليه القوى التي تحلم باعادة الحياة خمس و ثلاثين عاما الى الوراء، و حليفتها التي تحلم بطالبان عراقية تعيد العراق والعالم الى ما قبل عشرة قرون.

لقد أخذ البغداديون في التعاطي بنهم مع قيم المجتمع الاستهلاكي التي كانت حتى زمن قريب حكرا على فئة قليلة من اتباع السلطة و حلفائها، مدفوعين بعودة الكثيرين الى العمل و صرف الحقوق التقاعدية و في ضوء اسعار منخفضة، فها هي السيارات من مختلف الانواع تملأ الطرقات في حين تعج السطوح بالاطباق اللاقطة.. و يحمل الكثيرون منهم اجهزة الهاتف الجوال التي كانت الى وقت قريب حلما يسمعون به و لا يرونه، فالتمتع بمزايا "الرفاهية الغربية" كان حكرا على ثوريي القصور و الجحور الذين اخذوا كل شيء و قدموا للعراقيين عقودا من القمع و الهراء.

دين و سياسة
لم يبق من حضور لصدام حسين و عصره في العراق سوى في النكتة و الذكريات الاليمة، و أوهام بعض خفافيش الظلام التي لا تزال تقاتل عما تبقى من المصالح و ترهب الناس بقنبلة هنا و قذيفة هاون هناك، و بيانات مضحكة و رسائل تهديد تحمل النفس ذاته الذي عزلهم عن الشعب سابقا و يقطع عليهم طريق العودة اليه لاحقا، متحالفة مع اصولية اسلامية لادينية وافدة تملأ العراق سيارات مفخخة و انتحاريين بلداء قتلوا من العراقيين أكثر بكثير مما قتلوا من الاميركيين، و رغم كل ذلك، فقد طرأ تحسن نسبي في الوضع الأمني بانتهاء "حركة" مقتدى الصدر في مدينة الثورة، وسط أقاويل تتداول في المجالس بأن بعض الإنتهاكات التي نسبت الى اتباع مقتدى قد قام بها آخرون من تيارات اخرى لها حضور في السلطة. و يتحدث الكثيرون عن تجاوزات لقوات بدر في بعض المناطق من قبيل تهديد الفتيات السافرات و الاساءة الى المسيحيين، و تجاوزات جهات اخرى على المال العام ، و غير ذلك الكثير، فيما يعود الكثيرون من البعثيين السابقين الى الحياة العامة تحت مظلة حركة الوفاق التي يبدو انها تؤهل نفسها لتكون الحزب الحاكم الجديد ضمن تحالفات هشة مع قوى سياسية لكل منها اجندة سياسية مختلفة، قد لا يشكل العراق أولوية لدى البعض منها.. و تتداول المجالس احاديث الانتخابات القادمة و آمال تحسن الوضع الأمني و بالتالي البدء باعادة الاعمار الذي يحلم به الجميع.
ومن المؤلم ان يرى المرء في بغداد نهضة للفكر الطائفي التمييزي، فمسألة السنة و الشيعة باتت حاضرة في اذهان الكثيرين بشكل يدعو للقلق وإان بدرجات متباينة لم تصل حتى اليوم الى حد الاقتتال، و تتداخل شعارات من قبيل "لا شيعة بعد اليوم"، أو "الموت لأتباع يزيد" أو "لا مسيحية في العراق" لتشوه وجه المدينة المتعبة التي تحتاج لجهود الجميع لاحيائها..

الدولة وحضورها
تحضر الدولة في بغداد و تغيب اختياريًّا، فحين تحضر الشرطة و سياراتها في مفترقات الطرق، ينتظم المرور و يلتزم المواطنون، و حين تغيب يغيب النظام و تعم الفوضى، و إن كان مبرر الغياب هو احتمال التعرض للهجمات، فإن مبرر الحضور بالمحافظة على النظام العام و التصدي للمخلين أوجب بكثير، و لعل روح المواطنة و تقديم قيمها على قيم اخرى كالعشيرة و المذهب و الدين اساسي في خلق الدولة الحديثة حيث ان رفع الوعي بهذه القيم يقع على عاتق و منظمات المجتمع المدني المتزايدة العدد و المحدودة الفعالية بالاضافة الى الدولة عبر اعلامها و مناهجها التعليمية ، فلا مساومات على استقرار الوطن و سيادة القانون كما يرى أغلب العراقيين و ينتظرون تطبيقه على ارض الواقع. أما عن الحضور الحكومي غير المسلح من قبيل خدمات النظافة و الصيانة و غيرها من الخدمات البلدية فلا يزال دون مستوى الطموح ، و لا تزال الحاجة الى بلورة نظام يزاوج بين القطاعين العام و الخاص لتقديم مثل هذه الخدمات ماسة. و من المفهوم ان تكون المبادرة الشعبية في هذا المجال شبه معدومة بعد عقود من ثقافة الاتكال على الدولة ، و في ضوء الغموض الذي يلف المستقبل و عمليات التخريب التي تطال أي جهد لإصلاح ما تدمر..
الا ان حضور الدولة في كثير من المرافق لا يزال قائما و بقوة، فالوزارات و الكثير من الادارات الحكومية و العدلية تعمل رغم كل شيء، و المواطنون يتدفقون على فرص التوظيف و إن كانت لا تزال محدودة، و كما قلت سابقا، فإن العراقي يتألق في التمسك بقيم الحياة في مواجهة قيم الموت و الخراب و الدمار.

حديث "المقاومة" والحدود
كان لاغتيال ثمانية و اربعين متطوعا من الحرس الوطني فعل الصدمة على العراقيين، كما جاء الهجوم على الكنائس مؤلما و مثيرا للقرف و القلق و لم تخجل فضائية "العربية" من نقل الخبر بصيغة "جماعة التوحيد و الجهاد تتبنى اعدام ثمانية و اربعين من الحرس الوطني العراقي" ، حيث لا يخفى على المشاهد مغزى استخدام كلمة "اعدام" بدلا من اغتيال مثلا و كأن هذه الجماعة هي السلطة و القتلى هم من الخارجين عن القانون، و في شرائطها الاخبارية اليومية يتم ايراد مصطلحات ذات دلالة كأن يقولون "استشهاد فلسطينيين برصاص قوات الاحتلال الاسرائيلي" و يتبعها فورا خبر "مقتل ثلاثة عراقيين بانفجار قنبلة " فالفلسطينيون شهداء و هذا لا نختلف عليه و لكن العراقيين الابرياء مجرد قتلى ما دام من يقتلهم فاشيو البعث أو ملتحو بن لادن، ولن ابوح بسر إن قلتإان هذا النوع من "المقاومة" منعدم الشعبية بين العراقيين، على عكس ما تروج له كتلة الاعلام العربي الغبية و نشريات البعث و بن لادن الصفراء في الخارج، فاللعنات تطاردهم اينما تذهب في العراق، حتى بين اولئك الذين يرفضون الوجود الاميركي في العراق. و تبقى الحدود العراقية لغزا محيرا ، فالدخول الى العراق بالغ السهولة مقابل حفنة من المال رغم ارتفاع مرتبات العاملين في النقاط الحدودية كما ان التفتيش شبه معدوم، مما يفتح الطريق لكثير من التأويلات و الشائعات و حديث المؤامرات.

حديث الشمال والجنوب
وفي حين يتداول الكثيرون قصص الازدهار والاستقرار اللذين يشهدهما شمال العراق ويضربون الامثال عن السليمانية ودهوك واربيل ومبالغات الاعلام عن الموقف في كركوك، تأتي الاحاديث الحزينة عن البصرة التي تعاني رغم استقرارها النسبي من النفوذ الايراني الاستخباراتي الظاهر فيه و سيطرة الحركات الاسلامية الشيعية المسلحة على شوارعها في غياب متعمد للحضور البريطاني و غير المبرر للدولة. و منبع القلق هو امكانية التمهيد لقيام شكل الدولة الاحادي الذي تريده بعض الاطراف للعراق و لو في قسم منه، بالتزامن مع المقابل السني في غربي العراق مما يجعل احتمالات التقسيم الطائفي قائمة و لو بعد حين..

بغداد اليوم اذا خليط من الايجابيات والسلبيات، ومن القلق والتفاؤل، ومن تراكمات الماضي واحلام المستقبل، و من الدين والعلمانية، ومن التنوير والإظلام، و تبقى بغداد رغم كل ذلك هي بغداد، و البغداديون هم البغداديون اهل الكرم والجود، والمائدة العامرة، والنكتة والطرفة، والثقافة والرقي، وسادة المستقبل.


يغادر المرء بغداد وفي القلب غصة، وقرار بعودة نهائية قريبة جدا..