التفتيش عن الذرائع لا يتماثل مع الأسس الثابتة التي يتفرع منها البحث عن البينات كون طلب أصحاب الثانية يؤول إلى الاطمئنان الناتج عن اليقين الراسخ لديهم دون أن يضطرهم ذلك الطلب إلى الكفر، ولو نظرنا إلى أسباب هذا النهج نجد أنها لا تفارق الاستقرار الملازم لنفوسهم وما جبلوا عليه من الاستعدادات التكوينية التي اتخذت من أفعالهم الاختيارية موئلاً يرجعون إليه عند الاستفهام عن المقاصد اليقينية التي يكون مردها إلى العلم بقدرة الله تعالى المطلقة، أما في حال حدوث ما يعكر صفوهم الإيماني أو ما يتخلل قلوبهم من شك فههنا تستيقظ عندهم المحصلات الأولية والرغبات الأساسية التي تصلح ضمائرهم وتطهر ساحتهم القدسية لأجل أن يكونوا في منأى عن الشك التقليدي الذي مني به جمع من الناس الذين لا يملكون القدرة على الرجوع إلى الحق المبين، ومن الأمثلة على ما نحن بصدده قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) البقرة 259.

وكما ترى فإن هذا الفعل لا يتأتى إلا لنبي مقرب أو لأحد الصلحاء الذين دأبوا على استقبال الآيات الكونية على ما هي عليه، وقياساً لذلك نعلم أن ما حدّث به نفسه لا يعدو كونه أمراً طبيعياً يبين مرحلة من مراحل الاعتقاد السائد لدى الإنسان العالم الذي يريد أن يقف على حقيقة الإحياء بعد الإماتة، ولهذا قابله الحق سبحانه بهذه النتائج الباهرة التي جعلته يزداد إيماناً مع إيمانه، وإنزاله تعالى لهذا الكلام الممدوح في آخر القصة يظهر أن صاحبها من المقربين كما أسلفنا، ولذلك هيأ سبحانه له كل أسباب المعرفة اليقينية كما في الآية، وإن كان جل شأنه قد أبهم شخصية هذا النبي أو العبد الصالح فإنه لم يبهم شخصية النبي إبراهيم في القصة التي تلتها، وذلك في قوله: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم) البقرة 260.والآية صريحة بأن استفهام إبراهيم كان عن خصوصية وجود الشيء لا عن أصل وجوده كون الأصل مفروغاً عنه، وهذا هو الفرق بين من يسأل لأجل الرؤية والكيفية الناتجة عن الإحياء والإعادة وبين من يسأل لأجل الحصول على الذرائع أو الاحتجاج.

من ذلك يظهر أن طلبات المشركين لم تكن مماثلة لطلبات الأنبياء أو الصالحين كون تحققها في الخارج يستلزم الاستحالة إذا ما سلمنا جدلاً بصحة مواقفهم، ومن هنا نلاحظ أن رغباتهم السلبية قد أدت بهم إلى طلب تكليم الله لهم أو إيتائهم مثل ما أوتي رسل الله، كما في قوله تعالى: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) الأنعام 124. والقصد من هذا الطلب لا يخلو من إشعار بالاستهزاء لأنهم أرادوا الحصول على النبوة حتى يؤتوا مثل ما أوتي رسل الله، ولذا فصل تعالى قولهم بقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) الأنعام 124. ولا يخفى على المتلقي أن لهذا الاستهزاء نظائر، كما في قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) الزخرف 31. وكذا قوله: (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً) الفرقان 7. وقوله سبحانه: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) الحجر 6.

وبناءً على ما تقدم نعلم أن طلبات المشركين لا تخرج عن كونها طلبات تعجيزية يصاحبها الاستهزاء ولا يمكن تحقيق تلك الطلبات نظراً لضعف القابل دون الفاعل، وقد أشار تعالى إلى استحالة تحقيق هذه التعجيزات في كثير من متفرقات القرآن الكريم، كما في قوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون) الأنعام 111. ويضاف إلى سبب امتناع القابل سبب تكذيبهم بالآيات التي يرسلها الحق سبحانه، كما حدث لأقوام الأنبياء السابقين على مر الأعصار، ويمكن معرفة ذلك السبب من خلال قوله تعالى: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً) الإسراء 59. ثم تدرج القرآن الكريم في ذكر طلبات المشركين المشابهة لما كان يطلبه الأولون، كما في قوله سبحانه: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً... أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً... أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً... أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً) الإسراء 90- 93.

وهذه الطلبات التعجيزية التي اقترحها المشركون تكاد تكون متقاربة مع ما كان يطلبه أهل الكتاب الذين سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، كما في قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) النساء 153. وقد ذكّرهم الله سبحانه بهذا الموقف في قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) البقرة 55. وقد مر عليك تفسير الآية الأخيرة في كتابنا هذا.

تفسير آية البحث:

قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) البقرة 118.

لولا تستعمل على وجهين:

الأول: امتناع شيء لوجود غيره، كما في قوله تعالى: (لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم) القلم 49. وكذا قوله: (يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين) سبأ 31.

الثاني: للتحضيض بمعنى هلا وتختص بالدخول على الأفعال، كما في آية البحث وكما في قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه) طه 133. وكذلك قوله: (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) الفرقان 32. وهناك شواهد أخرى لكلا الوجهين.

وعند تأمل منطوق الأية يظهر أن مشركي العرب اعترضوا على النبي (ص) وأرادوا أن يكلمهم الله تعالى أو تأتيهم آية، أما مفهومها فيشير إلى نبذهم القرآن كونه لا يفي بالغرض الدلالي حسب اعتقادهم وإن شئت فقل حسب تعنتهم ولجاجهم، ولو كانت طلباتهم لا تجانب الحق لكان القرآن هو الدليل لذلك وهذا ما يقرر المعنى على أتم وجوهه، ومن هنا نرى أن الله تعالى لم يستجب لمقترحاتهملأن مجيء الآيات سيكون سبباً لترغيبهم بطلب المزيدوبالتالي يحق عليهم القول ونزول العذاب، أضف إلى ذلك أن كلامهم كان موجهاً للنبي (ص) وهذا الأمر لا يدخل في مهمته الرسالية بل هو من الأمور التي اختص بها الله تعالى، وبهذا تظهر النكتة في قوله جل شأنه: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين... أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) العنكبوت 50- 51.

فإن قيل: ما معنى تشابه قلوبهم مع أهل الكتاب الذين أشار إليهم تعالى بقوله: (الذين من قبلهم) من آية البحث؟ أقول: تشابه القلوب يرجع إلى سوء النظر الحاصل لدى الطرفين، إضافة إلى ما رسخ في عقولهم من الجهل الذي أدى إلى انحرافهم، ولهذا علل تعالى المقام بقوله: (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) فتأمل ذلك بلطف.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن 

عبدالله بدر اسكندر