كلما أسمع أخبار كركوك المشهورة بقلعتها الآشورية أتذكر رواية "آخر الملائكة" للكاتب العراقي الرائع فاضل العزاوي، التي صور فيها هذه المدينة بواقعية وخيالية ساخرة وساحرة في نفس الوقت كما فعل إلى حد ما غابريل ماركيز في "مائة عام من العزلة".

صدرت هذه الرواية عام 1990 عن دار الساقي في لندن، وأنا على يقين أن أغلب السياسيين لم يقرأها بل لم يسمع بها.

نقرأ في هذه الرواية عن أحداث كركوك منذ العهد الملكي وسقوطه وإنقلابات "العقداءوالزعماء" المتتالية وحمامات الدم التي حرمت هذه المدينة من الإستقرار والتطور، وأتساءل، يا ترى هل قرأ هؤلاء السياسيون العراقيون الجدد هذه الرواية الجميلة؟ 

تُصور هذه الرواية واقع الكركوكيين الناس الطيبين الذين يتحدثون باللغات الكُردية والتركمانية والعربية المتعايشين مع بعض بسلام، لكن المشكلة هي في "السياسيين" وولاءاتهم بالخارج وارتباطاتهم به وصراعهم الدائم على السلطة وكأنهم يمثلون الناس حقا. صراع دائم منذ تأسيس شركة النفط وإضرابات العمال وتأثر هذه المدينة بما يجري في بغداد مثل القتل والسحل والتمثيل بالجثث بدءاً من العائلة الملكية مروراً بأنصار الشواف وانتهاءاً بالشيوعيين والوطنيين وسطوات الأحزاب والإنقلابات الأخرى وتدخّل رجال الدين، كل يغني على ليلاه وما الناس الطيبون إلا وقود لهذه الصراعات.

وماذا كانت النتيجة؟ ماذا حصل أهالي كركوك من هذا "النضال"؟ هل تحسنت أحوال أهالي كركوك منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا؟ هل أصبح وضع الكُرد أفضل من التركمان أو العرب؟ الجواب بالنفي طبعا لأن المدينة حالها حال العراق كله لم تمر بفترة إستقرار يستطيع الناس أن "يجروا أنفاسهم" ويتنفسوا الصعداء ويربّوا أطفالهم على قبول الآخر و يعلّموهم بحيث تظهر أجيال جديدة بعيدة عن الإنتقام والتعصب والتطرف والإيمان بالخرافات.

وكانت النتيجة أن بطل الرواية الشاب برهان عبدالله "آخر الملائكة" الحالم يعود منمنفاه ألمانيا المتطورة المتحضرة بعد 46 سنة إلى كركوك، لكنها بقيت على حالها بل أسوء. وهذه هي نبؤة الروائي العراقي الحكيم فاضل العزاوي المتحرق على بلده، فهل يتعض العراقيون من هذا الدرس؟ 

هل قرأ السياسيون اليوم هذه الرواية وغيرها كي يطلعوا على واقعهم المرير؟ أم أنهذا الأمر "ميؤوس منه" وأن المواطنين "غسلوا أياديهم" منهم لأنهم أصبحوا سياسيين بالصدفة كما هو الحال في "آخر الملائكة"، حتى رجل الدين الشيخ ملا زين القادري يصبح سارقا لأموال "مزار" ديني لرجل زنجي لا علاقة له بالدين بل قُتل في المظاهرات وأصبح ولياً من الأولياء الصالحين تتصارع القوى والأحزاب عليه! طبعاً لأن القضية صار فيها فلوس!

إن أي قراءة بسيطة لرواية "آخر الملائكة" ستفضي بنتيجة يدركها أبسط الناس علماًوثقافةً، أن كركوك "مو مال واحد" بل للجميع وأنها فعلا عراق مصغر، وهو أيضا للجميع، كفى إقصاء وتخوين وعداءات وصراعات فلم يعد الناس قادرين على التحمل وقد يكون القادم أقسى وأخطر لا مجال لوصفه إن لم يكف "السياسيون" عن اللعب بالنار وتسميم الأجواء.

كركوك ليست لأحد، بل للجميع، كُردية وتُركمانية وعربية، عراقية بامتياز، ولاؤها للعراقيين المتنوريين الديمقراطيين المدنيين بكل أطيافهم وإنتماءاتهم، خيرها ورخاؤها من إستقراره وتعليم الأجيال الجديدة وتنويرهم. أما بعض السياسيين الحاليين الذين يذكرونا بشخصيات الرواية أمثال عباس نايلون وبائع الأغنام خضر موسى ورجال الدين و"عقداء" الجيش فهؤلاء يجب إعادة تأهيلهم بدورات دراسية خاصة "فهم المجتمع ثقافياً" لكي يدركوا أنهم لايمكنهم ان يبنوا العراق حسب أهوائِهموأمزجتهم بل يجب التفكير بشفافية عن الآخرين من كل المِلل والنِحل وأن يحبوهم ويتعاطفوا معهم ويدافعوا عن مصالحهم حسب مبدأ "أحب لأخيك كما تحب لنفسك"، قولاً وفعلاً!

أما الكاتب العراقي فاضل العزاوي، أطال الله عمره، فيجب أن يُكَرّمَه العراقيون في حياته، على الأقل بأن يقرأوا روايته أولاً، وأن يسموا شارعا في مدينة كركوك بإسمه، وأن يدعوه البرلمان العراقي لأن يتحدث لهم عن إنطباعاته وروايته "آخر الملائكة.

هل يمكن أن يحصل هذا؟ بالطبع غير ممكن بدون تنوير السياسيين أولا ثم الناس كلهم ليتخلوا عن الخرافات كما يصورها فاضل العزاوي في روايته، التي تجعلنا رغم الإحباط نحلم بمستقبل جميل لأن الإنسان بطبيعته متفائل، "تفائلوا بالخير تجدوه"، لكن ليس قبل أن "نُرغِمَ" كلَّ "طِرِن" أو طامة كبرى صار سياسيا بالصدفة بأن يقرأها علّه يتثقف ويدرك مسؤوليته لأنه أصبح يتحكم بمصائر العراقيين، فقد ندرأبذلك أخطر الضرر!

بالتأكيد إن بعض هؤلاء السياسيين من "الفطاحلة والجهابذة" حتى وإن قرأوا رواية "آخر الملائكة" ليس بالضرورة أنهم سيفهونها أو سيتثقفون بها، أو يؤمنون بها لأن عقولهم متحجرة مع الأسف الشديد ولا صلة لهم لا بالديمقراطية وتعدد الآراء ولا بحضارات وادي الرافدين التي يتشدقون بها ليلا نهاراً ولا هم يحزنون، لكن مع ذلك دعونا نحلم، فالأحلام والحمدلله لاتزال مجانية حتى يومنا هذا، من يدري قد يأتي يوم ندفع فيه تكاليفها!