قد لا أميل إلى كتابة quot;تعارضquot;(من باب التأويل) نصا يوقعه حبر حازم صاغيّة ـ الحبر الدافق في شريان quot;التعبير quot; العربي شب ه المسدود! لكني أجد نفسي هذا الصباح، منساقة ـ بحذر وتشبث شديدين بأواصر امتيازي اللغوي ـ إلى ان أقارب منابع هذا الرجل، المصطلحية والمفاهيمية، ساعيةً، بفضول وتهيّب، بينquot;صفاهquot; الذهني، ومحطّ quot;مروايquot;.

quot;العالم من ثقب ضيّقquot; عند صاغيّة هو quot;عوالمquot; اجتمعت لها أسباب السذاجات الغرائزية والترديات السلوكية والانعطافات المتهوّرة التي جاوزت الشارع العربي المغيّب عن مشهد التحولات العالمية الكبرى بفعل تراكم الاستبداد السياسي المنظّم، إلى نواصي quot;النخب العربيةquot; المعطَّلة (بفتح الطاء) والمعطِّلة (بكسرها)، في آن!

إنها النخب التي يفترض أنها المبضع الكاشف لفصول من العثرات العربية الرسمية في تاريخ الأداء السياسي، والدماغ المحرّض على دينامية الصحو والتجديد في مفاصل الجسم العربي الكامد؛ نجدها اليوم ما انفكّت تتشبث بعاطفة سياسية لقيطة، تنقلت بها من quot;انتصارها لهتلر ومحوره في الحرب العالمية الثانية، إلى الانضواء quot;السوفييتيquot; في ظروف الحرب الباردة الفائتة، وصولا إلى كيل التهم الجاهزة للحركات الاستقلالية والديمقراطية في أوروبا الوسطى والشرقية، بالعمالة للغرب، والتهوّدquot;. وما نراه اليوم من تردٍّ عربي على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية كافة، ليس سوى quot;ثمناquot; ترتب على تلك الغوايات السياسية المراهقة التي أنجبت طفلا بعين واحدة، وجد مرميا على باب أقرب جامع عربي إلى quot;مخدعquot; فعل الخطيئة الباهظ. يحضرني في هذا المقال مشهد من القرن الفائت، تجلت فيه بسطوع عقدة العربي تجاه quot;الخواجة الفحلquot; أيضا، وذلك حين التقى مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني في العام 1941 وزعيم ألمانيا النازية آدولف هتلر، وعرض الحسيني في حينها على زعيم الرايخ الثالث تكوين جيش عربي إسلامي من المتطوعين في الشمال الأفريقي وشرق المتوسط لمقاومة الحلفاء، فكان رد هتلر ما مفاده quot;إنني لا أخشى الشيوعية الدولية، ولا أخشى الإمبريالية الأميركية البريطانية الصهيونية، ولكن أخشى أكثر من ذلك كله هذا الإسلام السياسي الدوليquot;.

تلك السياسات اللقيطة التي مردها تورّم سايكوباتي في عقدة quot;الفحولةquot;، وتناوب تلك العقدة على النخب والزعامات العربية المتعاقبة ـ حيث منطلق ومصب القرار العربي الرسمي القاصر، والذي كان quot;صوت العربquot; من القاهرة، وعلى مد ّ عقود من الزمن، يغازل عمقه الشعبي على طريقة تبادل المنافع اللحظية بين كبش هائج ونعجة حلوب، ويستولد quot;الأضدادquot; التي quot;ستحميquot; الجسم القومي المتهالك على نفسه من اختراقات المتصهينين الجدد والقدامى في آن، ومن دأب quot;الغربquot;ـ العدو على تركيع ذاك الكبش الصنديد، وتفكيك رموز فحولته، بهدف تفتيت مكوّنات تلك الأمة الواحدة الموحدة والحرّة المحرِّرة!

لم تمارس النخب العربية وعيا نقديا نافذا في قراءتها لمعطيات المشهد العالمي سواء ما هبّ عليها من مبادرات الشرق ـ الحليف الافتراضي، أو اجتراحات الغرب ـ الضرّ المؤجل، بل كانت قعيدة كرسيها المتحرك بين غاية الحرية المقننة بمعطيات الأيديولوجيا الشحيحة وبين استبداد مشرعن يتداوله أساطينها على بلاطات السلطة الواهجة؛ فلا هي ساهمت ـ نتيجة ـ في تجريف quot;الراكدquot; من الذهنية العربية، ذاك المتجذّر في الغيبيات والحجب وهلوسات الأصولية، ولا هي جددت في الأرضية الثقافية التي تنطلق منها كحركة تنويرية لازمة وملزِمة للنفاذ من مأزق الظلامية العميم، ولم نرها طوّرت أدبيات خطابها لتدخل به عالم الإنتاج والتنافس المعرفيين، في القيمة والفعل، بعيدا عن لكنة الاستهلاك الشفاهي الإنشائي المكرور.

وفي غياب حركة من التأسيس النهضوي المعقلن والموصول، على مستويات المعرفة والاجتهاد والتنوير كافّة، باتت المرجعيات السلفية والتكايا الاستشارية هي المصدر المعتمد للفتاوى السياسية الجاهزة التي يركن إليها كبش السلطة في ترسيم زواريب الحكم وابتكار ممراته الضيقة، وغدت بؤرة لتفريخ المضادات الأممية ذات البعد القومي العنصري الأجوف، وتمكينا لثقافة quot;المنطوقquot; المحكيّ بعيدا عن quot;الإجرائيquot; الفاعل. وفي أبلغ وأحدث توصيف لهذه الحالة أسرد ما تشدّق به أحد الخبراء السياسيين في سوريا على شاشة واحدة من القنوات الفضائية العربية حين صرّح ما معناه quot;إن سوريا ترفض مقايضة رفات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين مقابل أي عرض، حتى لو كان هذا العرض هو هضبة الجولانquot;! إنه فكرمنطوق من مفرزات التكايا الاستشارية التي ما لبثت تهّيج تلك الحالة الغرائزية الطافحة مقابل ضمور في الوعي والرؤيا السياسيين للمرحلة بمعطياتها وتداعياتها كافة، ما يجعل ذاك المنظّر السياسي العتيد ينطق عن الهوى، وباسم دولة تقف، شعبا وأرضا، على مفترق دقيق ما بين جادتي الحرب والسلام.

فصل المقال: إن فوبيا استدراج مقومات الفحولة، والدوران العبثي في أفلاكها، quot;دون أن نصنع حنفية ماءquot; على حد تعبير صاغيّة، هو العامل المحفّز لتأييد سوريا quot;الرسميةquot; للموقف العسكري الروسي في جورجيا لمجرد أن الأخيرة ابتاعت سلاحا من اسرائيل العدوة! وفي المساحة الرمادية بين النفي والتأكيد لاتفاق، تناقلت وسائل الإعلام خبر إبرامه بين الدولتين، يرمي إلى بناء منظومة سلاح اسكندر الصاروخي على الأراضي السورية، ردا على الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا، في تلك المساحة الرمادية، تحديدا، نقف حائرين أمام محاولة الأسد الابن quot;المزايدةquot; على تركة الأسد الأب، في رفعه سقف quot;المراهناتquot; على الأوراق الإقليمية إلى مستوى quot;المقامرة الدوليةquot;، الأمر الذي قد يجعل سوريا أول من يدفع أثمان هذه القفزة إلى quot;ورائياتquot; الحرب الباردة، لاسيما إذا ما أسفرت الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة عن بقاء الجمهوريين في سدّة الحكم، واستمرارهم في تسيير شؤون البيت الأبيض بيد، وهزّ سريرالعالم، على طريقتهم، باليد الأخرى.

مرح البقاعي

*كاتبة وباحثة أكاديمية أميركية من أصل سوري
[email protected]