بني الدين على الليالي أكثر من الأيام لأن الزمن لا يمكن أن يحدد بالنهار فالناظر إلى الشمس ليس بإستطاعته أن يستدل على أن الشهر في أوله أو في وسطه أو آخره ولكن الليل يحدد لنا الزمن فالقمر هو المقياس في ذلك فعندما يكون هلالاً فهذا يعني أننا في أول الشهر وإن كان بدراً فنحن في منتصفه وهكذا، لذلك فإن المقاييس الدينية تحسب جميع مناسباتها بدءاً من دخول الليل، فقد تقام صلاة التراويح في الليلة الأولى من شهر رمضان ويتوقف عنها في الليلة الأولى من العيد لأن رؤية الهلال تكون هي الدليل لدخول المناسبات الدينية لذلك نقول ليلة القدر أو ليلة العيد ولا يستعمل اليوم في هذه المناسبات إلا في يوم عرفة فلا يقال ليلة عرفة وإنما يوم عرفة.

إذاً المواقيت الدينية تحدد من الليل ولو أنها حددت على مواقيت الشمس والتقويم الميلادي لجاء رمضان بنفس الموعد من كل عام وبهذا يكون لصالح مجموعة من الناس دون أخرى فالذي يصوم في الشتاء ليس كالذي يصوم في الصيف فالثاني يتحمل من الأعباء ما لا يتحمله الأول وهذا من الظلم الذي ينزه عنه الخالق [جل شأنه] فعلى ما نحن عليه فإن رمضان يأتي مرة في الصيف ومرة في الشتاء وهكذا، وذلك لأن السنة الهجرية تقوم على حساب الهلال وهذا يجري في جميع المناسبات الدينية وسبب ذلك يعود إلى أن السنة الهجرية تنقص أحد عشر يوماً عن السنة الميلادية وبهذا يكون الفرق سنة كاملة لكل ثلاث وثلاثين سنة.

ولذلك خص تعالى ذكر الليل في قوله: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) البقرة 51. وفي الآية عدة مباحث:

المبحث الأول: الفرق بين الليل والنهار في القرآن الكريم، الليل يعني الظلام أما النهار فقد يعني الضياء، والظلام هو الأصل الذي منه يصدر الضياء لذلك يقدم الليل على النهار لقدم الظلام ونلمس هذا المعنى جلياً عندما يخبرنا القرآن الكريم عن خلق السماء في قوله تعالى: (رفع سمكها فسواها *** وأغطش ليلها وأخرج ضحاها) النازعات 28-29.

أي أن الله تعالى أغطش ليلها بالظلام ثم إستخرج منه الضوء الذي وصفه بالضحا وهذا يدل على أن الليل يتضمن دورة اليوم بكاملها من ظلام وضياء وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً....... الآية) الأعراف 54.

وهذا البيان يظهر في قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً) آل عمران 41. وقوله: (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً) مريم 10.وهذا يدل على أن الليالي قد تضمنت الأيام ودل عليها بقوله: [سوياً] لذلك عندما يتكلم أحدنا عن مكونات الزمن يتناثر الكلام منه دون النظر إلى إستخدام المترادفات والنظائر أو المتناقضات ولا أحد يسأل عن الكلام هل هو في مكانه المناسب أم لا سواء كان في الشعر أو النثر فقد نذكر الأيام بدل الليالي والسنون بدل الأعوام وهلم جراً إلا أن هذا الفرق عندما يكون في القرآن الكريم فقد يثير دهشة المتلقي ومن بين الأسئلة التي تحتاج إلى تسليط الضوء هو لماذا فرق تعالى بين العام والسنة ولأجل أن نزيل هذا الإبهام نقول: إن كلاً من السنة والعام يسمى [حول] وقد فرقوا بين الحول السيء والحول الحسن فأطلقوا على الحول السيء إسم [السنة] وعلى الحول الحسن إسم [العام] وهذا الفرق لم يأتي عبثاً بل أن اللسان العربي وضع كل كلمة في مكانها المناسب لذلك نجد الفرق واضحاً في قوله تعالى: (قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون) يوسف 47. ثم قال تعالى بعد ذلك: (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون) يوسف 48. وأخيراً قال تعالى: (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) يوسف 49.

وقد ظهر الفرق في الآيات آنفة الذكر بين السنة وما فيها من الشدة وبين العام الذي أشار فيه إلى الرخاء وهذا الفرق يجري في جميع القرآن كما قال تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) البقرة 259. والتفريق بين السنة والعام ظاهر هنا حيث أشار تعالى إلى فترة موته بقوله [مائة عام] لإنعدام الزمن لديه ومروره عليه دون شعور منه لذلك أجاب حين السؤال عن المدة التي مرت عليه بأنها يوماً أو بعض يوم، ولما أراد الله أن يلفت إنتباهه إلى عدم تغيير الطعام والشراب قال: [وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه] أي لم تغيره السنون رغم الأهوال والشدائد الزمنية التي مرت إلا أن الطعام على حاله لم يتغير ليثبت له أن هذه آية عظيمة من آيات الله تعالى.

فإن قيل: هل أننا في البرزخ لا نشعر بالزمن كصاحب الحمار الذي مر على القرية؟ أقول: الجهة منفكة تماماً كما يحصل في مباراة الكرة في ثوانيها الأخيرة فإنها تمر سريعة على الخاسر وبطيئة على الرابح فتأمل ذلك.

فإن قيل: ماذا عن قوله: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) لقمان 14. أقول: قال تعالى [في عامين] رغم الشدة التي تعانيها الأم في هذه الفترة ليرغبها في يسر العمل الذي تقوم به والذي يكون مصحوباً بلذة عظيمة للأم وللطفل وفي ذلك ترغيب بالرضاعة الطبيعية التي أصبحت اليوم شيئاً من الماضي، وقد نجد الفرق واضحاً في قوله: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) الأحقاف 15. فلم يقل هنا [في عامين] لمناسبة ذكر الكره المبدل عن الوهن فتأمل.

المبحث الثاني: في بعض القراءات [وإذ وعدنا] بدون ألف ومن ذهب إلى هذا حجته أن المواعدة لابد أن تكون بين المتكافئين لأن المفاعلة لا يمكن أن تكون بين الله تعالى وبين ممكن الوجود كقوله تعالى: (وعدكم وعد الحق) إبراهيم 22. وقوله: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) الأنفال7. وكذلك قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات....... الآية) النور55.

ومن تمسك بهذا الرأي قال أن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله تعالى لموسى وليس فيه وعد من موسى فوجب حمله على الواحد لظاهر النص لأن الفعل مضاف إليه تعالى وحده، والصحيح أن من ذهب إلى هذا الرأي حجته باطلة لأن المفاعلة تحصل بين الأطراف غير المتكافئة ألا ترى أن الطبيب يقول عالجت المريض علماً أن المريض لا دخل له بعمل الطبيب، وكذلك قول الإسكافي طارقت النعل، لأن القبول بالأمر وعدم الإمتناع يحدث المفاعلة بين الطرفين فكانت المواعدة من الله بمنزلة الوعد الذي لا يتخلف ومن موسى بمنزلة القبول والإستجابة فجرت مجرى المواعدة.

المبحث الثالث: الأربعون ليلة في قول أكثر المفسرين هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة لذلك فرق بينها تعالى في قوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) الأعراف 142. وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وبعد سؤال قومه أن ينزل عليهم كتاب من عند الله، فخرج في سبعين رجلاً من خيار قومه كما قال تعالى: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا) الأعراف 155. وهذه الفترة التي خرج فيها موسى هي نفسها الفترة التي إتخذوا فيها العجل بتضليل من السامري. ولذلك ذمهم الله تعالى لإتخاذهم العجل معبوداً من دون الله، أما صناعة العجل ونحته فلا يمكن أن يذم عليها الإنسان ولا يمكن أن يكون هذا العمل دليلاً على تحريم النحت والتماثيل لأن الجهة منفكة فتأمل.

عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]