كما يلتقي الأحباء بعد غياب، وددت ان اكلمك بعد مضي عام على رؤيتك الاخيرة في روما، لا ان ارثيك الان، لا ان اتفجع على هذا الفراق المفاجيء الاليم، وان بكيت على صدر صديقنا الشاعر صلاح الحمداني حد المرارة عند سماعي خبر مقتلك، فقد كنت تعلم بان الوطن مرصودة حريته، يغدو فيه الشجعان مثلك الاكثر تجاسرا على الفعل، في فوهة النار والاغتيالات، وانت الحالم بهناء عيش، والمناضل لاجل مثلنا الجميلة، فهم يقتلون كي تبقى احلامنا مثل نزهة في منطقة ممنوعة علينا اسمها العراق. كنت اكثر من يعلم ان المرء يظل اسير احلامه مادام تواقا الى الحرية، وكنت اكثرنا سعيا اليها في ميادينها الحقيقية.
لم تدافع عن حريتك الذاتية، بل عن معركتك الكبرى التي كانت من اجل حرياتنا جميعا، فان يصل أي منا الى الحرية يعني، احيانا كثيرة، ان يصل الى الموت، ذلك ان الحرية ليست نقطة وصول، ليست نقطة مجيء، هي نقطة لقاء، وكل الاحرار مثلك ذهبوا الى الحرية ليروها وجازفوا، ذلك ان الحرية لاتصل الينا كفنجان قهوة في احد بارات روما القديمة التي احببتها، انها الغريبة والبعيدة التي عليك ان تبين شكلها وقسماتها والوانها وتعابيرها وخفاياها. وانت حين ذهبت الى الحرية، عبر رفض رغد العيش في بلجيكا، كنت تعلم انك ذاهب الى الموت. كنت تصنع الحرية بين اصابعك وافكارك وشغفك بها، وكنت تعرف ان صناعة الحرية في الوطن الذي احببته حتى العشق هي صناعة تقترب من الموت. وشهادتك هي ايضا واحدة من صناعة الحرية.
طيلة العام الماضي، حين التقيتك بروما بعد عودتك من رؤية ابنك quot; الياسquot; في بروكسيل، انظر الى صورتك التي اعطيتني اياها وقلت بانك لم تعط لاحد من قبل صورة شخصية، فوضعتها في محفظتي لازورك كل يوم وانظر بعيونك لالتقي بالحرية، فقد عودتني ان انظر اليها من النوافذ المغلقة والقضبان لاردد مع نفسي قولك وان تقطع عتابي لك بالذهاب الى بغداد بان الحرية quot; تصنع، ونراها، ونلمسها، ونتحسسها، ونشمها، فهي كالخبزquot; فهل عرف قتلتك الاوغاد بان استشهادك جعلنا نتلمس بقوة حتى الفيض تلك الحرية التي ناضلت وضحيت لاجلها؟ كنت كبيرا ياكامل شياع في ساحة الحرية، وفي معاركها الكبرى، وكنت انت حين رأيتك في بغداد، ونحن نزور سوية اصحابنا في صحيفة المدى وقهوة حسن عجمي والمطاعم الشعبية في شارع السعدون، متعاليا على الجراح في دعواتك الانسانية الراقية الى دفن الاحقاد، والى التوحد بالوطن، وفي تصمميك الثابت على الاستمرار في تذوق طعم الحرية، لانك كنت تقولquot; الحرية فعل انتماء حقيقي كامل الوعي بالمسؤولية الى وطن حقيقي، وطن استبيح زمنا طويلا، وحان وقت العمل للوصول اليهاquot;.
لقد شققت دربك الى الحرية موشحا بنورها، كأنك كوكب يحمل نفسه على غيمة لينظر الى هذه الارض التي هي لنا، وبها اقدارنا، وبها الجحيم والنعيم وما يليهما، ولنا بيت من النجوم والهواجس، ولنا الفرح وكآبة الموت ايضا، وركام التاريخ، والم الجغرافيا، ولنا صلف عناد البقاء، ولنا الشعر واللون والخيال وانت كنت حقا ذلك الكوكب الجميل، فقد حجبك عنا غياب الشمس بكاتمات الصوت، فجاءت الصاعقة التي كنا ننتظرها بموتك.
اتذكرك ونحن نشرب قهوة الصباح في احد بارات روما وانت تقول ليquot; ماذا لنا غير كرامة الحرية، ونحن نخاطب البحر او غيوم العراق الحبيب،. نعم انا اخاف الموت الا اني مجند لقضية شعبquot;.
ستظل يا كامل العزيز بيننا لامحالة والى الابد. عائدا بيننا كلما توهجت انفسنا عشقا الى الساحات والشوارع والمنازل والافكار التي احببت وناضلت من اجلها
لقد كتبت لك الشهادة كي تصبح خالدا، خارج حكم هذا الزمن الاغبر، عائدا الينا كلما تهيجت انفسنا الى رؤية الوطن الذي تصيبه اسلحة الاوغاد المتفجرة على غفلة، فثمة من ماتوا ورحلوا، وثمة من سيموتون بعد، ولا احد يعرف كيفية ايقاف هذه الالة الجهنمية التي تحمل حقدها الفاشي، الذي يحصد كل شيء. كنت تحي فينا الحياة، وتحي فينا صراخاتنا واحتجاجاتنا على القاتل، وكنا نخشى عليك وانت في العراق الذي بات نهرا يهدر بالدم. وما تبقى ياكامل الحبيب هو الكلمات التي نكتبها في توديع الراحلين، وننتظر الكلمات الجديدة كي نودع من يرحل غدا. لقد جف كل شيء، والمأساة تتكرر حين تتساقط الجثث وتمتنع اللغة والافكار. ويظل كرهنا للفاشيست الذين اغتالوك هو من يعلمنا الانتظار وسط هذه الخيبة التي تزداد حدة فجر كل يوم، وتتفتح على احتمالات الموت في كل لحظة.

موسى الخميسي
روما