في الوقت الذي يروق للبعض العراقي أن يتحدث عن quot;طردquot; أمريكا quot;المحتلةquot; للعراق من العراق، بquot;الصراميquot;، نقلت وكالات عالمية، أنباءً quot;عاجلةquot;، على لسان رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي، عن توصل بغداد وواشنطن إلى اتفاقٍ، لquot;إنهاء أي وجود عسكري أجنبي في العراق بحلول نهاية عام 2011quot;.
لا شك أن قرار quot;الرحيلquot; أو quot;الترحيلquot; أو quot;الإنسحابquot; أو quot;التدفيشquot; وسوى ذلك من مسميات، هو قرار يخص العراق والعراقيين بالدرجة الأساس، ولهم الحق الأول والأخير في الفصل، والأخذ والرد فيها، قبل أيٍّ آخر، وأية عاصمةٍ أخرى، تابعة أو متبوعة، فquot;أهل بغداد أدرى بشعابهاquot;.
في الضفة الأخرى من quot;الرحيل العسكريquot;، الأمريكيون يعرفون حق المعرفة، قبل سواهم، أنّ بغداد وأخواتها العراقيات الأخريات، لا يمكن لها أن تتحول، إلى quot;ثكنةquot; عسكرية أمريكية، أبدية، في المفهوم التقليدي، لquot;الإحتلالquot;، لا سيما وأنّ الوجود العسكري الأمريكي، يعتمد على قرارٍ لمجلس الأمن، سينتهي صلاحيته بحلول نهاية العام.
إذن، لا الأمريكيون يريدون البقاء quot;الكلاسيكيquot;، في هكذا بغدادٍ، غير محسومة نتائجها، إلى ما لا نهاية، ولا بغداد، تريد لأمريكا، هكذا بقاءٍ مكشوفٍ quot;مزعجٍquot;، لا يروق لها، ولquot;ثقافةquot; مساجدها وحسينياتها، وقياماتها وقعوداتها.

بغداد قبل واشنطن، تعلم أن أمريكا سترتكب خروجها quot;التقليديquot; من العراق، لا لتخرج بالفعل من العراق، وإنما لتبقى فيها. في الجوار العراقي، مثلاً، سيكون لأمريكا أكثر من بوابة، تطل منها على بغداد وتدخل إليها ثم تخرج منها، متى اقتضت حاجة البيت الأبيض إلى ذلك.
فالخروج الأمريكي المنتظر من العراق عبر الباب، سوف يلحقه بكل تأكيد quot;دخولquot; أو ربما quot;دخولاتquot; كثيرة قادمة، عبر نوافذ العراق وquot;طاقاتهاquot;.

والحال، فأنّ أمريكا باقيةٌ في العراق وداخلةٌ فيها، حتى لو خرجت، أو quot;طُرِدتquot; بحسب ثقافة quot;المقاومة المفخخةquot;.

أياً كانت مواصفات quot;الخروج الأمريكيquot;، عسكرياً، من العراق، فإنّ كلام quot;عراق المعارضةquot; وquot;عراق الموالاةquot;، عن ضرورة quot;استقلالquot; كل العراق، وquot;رحيلquot; واشنطن(ومعها كل أخواتها المسلحات الأجنبيات) عن بغداد، هو كلام لا جدال كثير عليه، أو يكاد يكون كلاماً متفقاً عليه، عراقياً، من الناحية الشكلية، شمالاً ووسطاً وجنوباً.
ولكن الكلام الغريب، المتوتر والمأزوم، راهناً، جداً، والمختلف عليه جداً، والذي خرج في الآونة الأخيرة، من طور الجدال إلى quot;المناوشة الكلاميةquot;، على مستوى مفردة الرحيل ذاتها(الرحيل الضروري، الرحيل الإجباري، الرحيل اللازم، الرحيل الذي لا مفر منه، الذي انقلب إلى ترحيل)، والذي بدأ يطفو مجدداً، على سطح العراق وخطاباته السياسية المتناطحة المتعاركة، هو الكلام الخطير جداً عن quot;ضرورة ترحيل العراق عن العراقquot; أو quot;طرد العراق من العراقquot;.

الظاهر هو أن quot;نارquot; كركوك المتناطح عليها، والتي كان من المفترض أن يتفق كل العراقيين عليها، عراقاً إنموذجاً للكل من العراق إلى العراق، قد امتد إلى مناطق أخرى من العراق المتنازع عليه، والذي يُخشى أن تتطور إلى مناطق quot;متحارب ومتقاتَل عليهاquot;.
ففي الوقت الذي لايزال يطالب فيه الأكراد، كقوة سياسية عراقية أساسية، تتنازع على كركوك، بquot;إحقاق حقوقهم المغتصبة في كركوهم المرحلّةquot;، في زمان عراق الديكتاتور، ويدعون إلى quot;تطبيعquot; الأوضاع، وبالتالي quot;ضرورة ترحيلquot; العرب الوافدين إلى كركوك، وإعادتهم إلى مناطق سكناهم الأولى، مقابل تعويضات، بدأنا نسمع ونقرأ ونشاهد في الآونة الأخيرة، أخباراً تتحدث عن عمليات quot;طردquot; أو quot;ترحيلquot; معكوسة، لquot;هوليرquot; وquot;قواتهاquot;، تحت إمرة بغداد، من بعض العراق المتنازع عليه، كما جرى مؤخراً في قرة تبة، عندما quot;أمهل الجيش العراقي الأحزاب الكردستانية 72 ساعة لإخلاء مقراتها فيهاquot;.

ما جرى في قرة تبة، من quot;حرب بيانات وتصريحات واستنكاراتquot; بين عراق هولير وعراق بغداد، لا يمكن اعتباره مجرد quot;حادث عابرquot;، أو quot;خطأ تكنيكيquot;، ارتكبه العراق ضد العراق، وإنما هو quot;ناقوس خطرٍquot;، يُنذر بأن العراق القادم(عراق ما بعد المفخخات) هو الأصعب، وأنّ العراق لا يزال يمشي على كف أكثر من عفريت.

بعض التصريحات قالت بالعراقي المشرمح أنّ هذه هي quot;أول الحربquot; اللامعلنة بين العراقَين.
ففي تصريحٍ شديد اللهجة له لصحيفة ئاسو الكردية، قال مصطفى وادي مسؤول منطقة قرتبة للحزب الديمقراطي الكردستاني، حرفياً: quot;قدمت قوات الجيش العراقي منذ البداية إلى المناطق ذات الأغلبية السكانية الكردية في ديالى من أجل الحرب، وقيامنا نحن الكرد بتلك الحرب اليوم سيكون أفضل من قيامنا بها غداًquot;.
العميد ناظم كركوكي قائد اللواء (34) في كرميان، أشار من جهته إلى quot;أن قدوم الجيش العراقي إلى المنطقة لم تكن له صلة بالمسألة الأمنية، بل كانت وراءها غايات سياسيةquot;.
ذات quot;الغايات السياسيةquot; التي لا صلة لها بquot;المسألة الأمنيةquot;، امتدت قبل أيام إلى خانقين ذات الغالبية الكردية، quot;المتناطح عليهاquot;، كغيرها من المناطق الواقعة تحت رحمة المادة 140 من الدستور العراقي الدائم.

هولير ترفض quot;امتدادquot; بغداد وانتشار قواتها المسلحة في المناطق الواقعة تحت سيطرة بيشمركتها، والتي هي موضع نزاع، لا سيما تلك التي تعيش حالة هدوء واستقرار أمنيين، بالقول أن quot;قوات البيشمركة هي جزء اساسي من الجيش العراقي، كان لها دوراً كبيراً في محاربة الإرهاب واستتباب الأمن ليس في كردستان فحسب، وإنما في سائر أرجاء العراق، لذا ليس هناك من مبرر لإستبدالها بقوات بديلة من ذات الجيش، بحجة توفير الأمن، في مناطق هي هادئة أصلاًquot;.
الإنتشار quot;الثانيquot;(بعد قرة تبة) لقوات عراق بغداد في المناطق المشمولة بالمادة 140، أثار في الثامن والعشرين من أغسطس الجاري، غضب غالبية أهالي خانقين، عبرت عنه في مظاهرةٍ حاشدة، أمام مركز القائمقامية، بمشاركة مختلف مكوناتها.
الشخصية العربية المعروفة الشيخ محمود الصميدعي، الذي سمى ما حصل في خانقين من تدخلات للجيش العراقي، بquot;الذي أُريد له أن يحصلquot;، قال في المذكرة المقدمة إلى الحكومة الإتحادية ورئيس وزرائها: quot;نحن لسنا ضد الجيش العراقي، ولكننا نرفض دخول قواته العسكرية بالمطلق إلى خانقين، لأننا لسنا بحاجة إليها. كما نحذر من الإساءة للمقرات الكردستانية في المنطقة، لأنها حفظت السلام والأمن في المنطقة، يوم لم تكن الحكومة الإتحادية موجودة فيها. عليه نرفض وضع نقاط تفتيش في المنطقة للإستفزاز والتفريق بين الناسquot;.

الحاصل، أن القطعات العسكرية التابعة للجيش العراقي قررت الإنسحاب تحت ضغط المظاهرة، ربما لأن القائمين على أوامرها، أحسوا بخطورة الوضع، ولعلهم أدركوا أنّ quot;خانقينquot; سوف لن تمرّ عليهم وعلى العراق، بشقيه، كمرور quot;قرة تبةquot; قبل أيام.

مهما كانت نيات ونوايا هذا الإنسحاب الظاهرة منها والباطنة، ولكنه لن يكون quot;انسحاباً أخيراً ونهائياًquot; على أية حال، فالدخول أو quot;الدخولاتquot; القادمة لعراق بغداد إلى quot;العراق المتنازع عليهquot;، ربما تكون أصعب وأخطر، لأن أس المشكلة وأساسها في quot;عراق المادة 140quot; باقٍ.
هروب عراق بغداد وتنصله من تنفيذ المادة 140 كما نصّ عليه الدستور العراقي الدائم، وتنصله منه، وتمسك عراق هولير بquot;كل حقوقها فيها، وإلا فلاquot;، خلق في الآونة الأخيرة نوعاً من اللاثقة واللاأمان بين الحكومتين المركزية والإقليمية.

فالمتابع لتصريحات المسؤولين الكبار في كلٍّ من بغداد وهولير، في الآونة الأخيرة(خصوصاً بعد تصويت البرلمان العراقي في 22.07.08 على قانون انتخاب مجالس المحافظات، سرياً) سيلحظ أن بعضاً كبيراً من quot;البغداديين العرب الرسميينquot; بدأوا يعلون أصواتهم على ما يسمونه بquot;الغرور الكرديquot; وquot;خروج هولير عن جلدها العراقيquot;، الذي بات يتطلب(حسب منطق هذا البعض العراقي العربي) خلق عاجل لquot;لاquot; جدية، حاسمة، وضرورية، لمواجهة quot;المد الكرديquot; وquot;أطماع هوليرquot; في العراق، بدون هكذا quot;لاquot;(حسب أصحاب هذا العراق الأنتي كردي)، التي من شأنها أن quot;تقصقصquot; من أجنحة هولير وسياساتها، سيخسر هؤلاء الكثير من عراقهم لصالح هولير.
في المقابل، وعلى ذات المستوى من ذات الأزمة(أزمة الثقة)، يعبر الهوليريون الرسميون، عن خشيتهم من أن يكرر التاريخ اللاصديق كردياً، نفسه. فهم يتحدثون تارةً عن quot;المؤمرات الجارةquot;، وعن أمريكا التي دارت إليهم ظهرها في السابق أكثر من مرة، كما فعلت في اتفاقية الجزائر عام 1975، تارةً أخرى.
في آخر مقال له نُشر في إيلاف(كي لاتنتكس مسيرة بناء الدولة العراقية، 25.08.08)، عبر القيادي في الإتحاد الوطني آزاد جندياني، عن هذه المخاوف بقوله: quot;يجب أن يبتعد الجميع من اثارة مشاكل وممارسات تشم منها رائحة المؤامرة، خاصة ان الكرد ضحية المؤامرات منذ معاهدة لوزان والى يومنا هذا، ويجب ان نعترف نحن الكرد بأن درجة حساسيتنا من المؤامرات عالية جداَ حيث إن اي اجتماع لمسؤول عراقي غير كردي ما مع مسؤول مماثل في دولة جارة تثير القلق في الشارع الكردستاني ويصرخون بوجه القيادة الكردستانية ويقولون ها هي رائحة المؤامرة قد تفوح، وإن كان القادة الكرد يتفهمون الأمر بشكل مغاير تماماَ للشارع، وهناك مثل كردي كثير التداول يقول: إن الذي لدغته الحية يخاف من صوت الحبلquot;.
من هنا بدأنا نسمع في الآونة الأخيرة، تصريحات كردية تعبر عن quot;مخاوف حقيقيةquot;، يشكو فيها المسؤولين الكرد، من محاولات غير معلنة، في عراق بغداد، ينوي مدبروها إلى قلب الطاولة، سياسياً، على هولير وأكرادها.

وفي آخر حوارٍ له(الشرق الأوسط، 28.08.08)، قال رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، بالفم الملآن، وبلهجةٍ فيها أكثر من امتعاض وأكثر من يأسٍ من quot;الشراكة الكردية العربيةquot;، في العراق الجديد: quot;هذه حكومة إئتلافية ونحن شركاء بها، لكن أداء هذه الحكومة غريب. نحن شركاء لكن ليس لنا دور في الحكومة، ولسنا شركاء في المسائل الأمنية والإقتصادية والعسكرية ولا نعلم شيئ عن هذه المؤسسات(...) نحن شركاء لكن في الممارسة العملية، انا اشك بذلك. (...) مع الاسف الشديد يبدو اننا ما زلنا تحت تأثير النظام الشمولي، وان من يتسلم السلطة يتصور انه صاحب الامر والنهي وان من حقه اتخاذ القرارات دون الرجوع الى الآخرين، وينسى التحالفات وينسى الالتزامات وينسى الدستورquot;.
البارزاني في حديثه للشرق الأوسط كان واضحاً، حين تحدث عن quot;استفرادquot; بغداد بالقرار، معبراً عن قلقه حيال مستقبل العراق، فيما لو استمر البعض وأصرّ على بعض آليات الحكم، التي يُشتم منها رائحة النظام السابق وبغداد السابقة. فتحدث عن أصابع quot;مؤمرات إقليميةquot; في مجلس النواب العراقي(قانون انتخابات المحافظات مثالاً)، وعن quot;حملة عربية ضد الأكراد، غير معروفة أصولها وجذورها وآلياتهاquot;.

quot;خوفquot; هولير من أن تقلّم بغداد أظافرها(بعد تقليمها لأظافر داخلها الإرهابي)، لتقويض ما حصدته من العراق، للآن، لم يعد quot;خوفاًquot; مقتصراً على السياسيين فحسب، وأنما بات quot;خوفاًquot; يشعر به ويعبر عنه الكثير من كتاب الرأي والمقالات، من الأكراد وسواهم.
الكاتب الزميل شيرزاد شيخاني، عبّر في مقالين سابقين له(إضعاف الدور الكردي في العراق amp; إعصار قرة تبة)، نُشرا في إيلاف، عن هذا الخوف بقوله: quot; أنّ بعضاً من الأطراف السياسية العراقية تسعى نحو إضعاف الدور الكردي خصوصاً في المناطق المتنازع عليها، والمعروفة بتعددية مكوناتها، وأعتقد أن إضعاف الدور العسكري والأمني لقوات البيشمركة في تلك المناطق، تهدف الى إضعاف الدور السياسي المتعاظم للقيادة الكردية في مركز القرار السياسي بالعراق، والعودة بهذا الدور الى المربع الأولquot;.

إذن، العراق القادم، كما تقول quot;التراشقاتquot; الكردية العربية التي ازدادت وتيرتها في الآونة الأخيرة(تحدثت إيلاف اليوم 31.08.08 عن quot;تراشق كردي شيعي)، والمناوشات المتكررة(لا سيما الأخيرتين اللتين وصلتا في قرة تبة وخانقين، إلى مستوى تدخل العسكر) بين كلٍّ من بغداد وهولير، سيكون عراقاً صعباً، فيما لو أصرّ كلّ من العراقَين: العراق الكردي والعراق العربي، على quot;كلّ حقه الغير منقوص، والذي لا يتجزأquot;، أو على quot;كامل عراقهquot; في العراق المتنازع عليه، تيمناً بشعار العرب الفاشل بإمتياز، الذي عُلّقَ عليه فلسطين، منذ أكثر من ستة عقودٍ من الزمان؛ شعار quot;قضيتنا هي قضية وجود أو لاوجودquot;، الذي أدى للآن إلى خسارة الفلسطينيين لأكثر من نصف فلسطينهم المشروعة، حسب قرار التقسيم الذي أقره الأمم المتحدة عام 1947.
على العراقَين، الكردي والعربي، أن يستفيدوا من quot;النكسات والنكبات والضياعات والسقوطاتquot; العربية في quot;فلسطين الشعارquot;؛ على كلٍّ منهما إضافة إلى كل العراقات الأخرى المتنازعة، أن يخسروا بعضاً من كركوك، بدلاً من أن يخسر الكل كل العراق.

إنّ بقاء ملف عراق المادة 140(عراق كركوك بخاصة)، هكذا مفتوحاً على اللاحل، والتسويف والتأجيل والمماطلة، وبالتالي متأرجحاً بين quot;عراق حانا وماناquot;، وquot;عراق الأخ الكبير والأخ الصغيرquot; وبين quot;عراقٍ يجب أن يكونquot;، وquot;عراقٍ يُراد له ويُتمنى أن يكونquot;، سيجعل من كل العراق، ضداً لكل العراق؛ وكل العراق ديكتاتوراً على كل العراق؛ وكل العراق مطارِداً أو مطارَداً، طارداً أو مطروداً في ومن كل العراق.


هوشنك بروكا

[email protected]