الثقافة في جميع مظاهرها تجسيد لطاقات الفعل البشري في كيفية التعبير عن الأفكار وألاحاسيس بشتى صورها وألوانها الإبداعية، وهذا التعبير لايكتمل مالم تتوفر له الحرية التي تعتبر المعادل الطبيعي للثقافة، ولا يمكن لأي تطور أن ينجز في المجال الاجتماعي دون أن يقترن بالجانب الثقافي. ويمثل الفن المسرحي الحقل الاشمل لمفهوم الثقافة لما ينطوي عليه من قدرة تعبيرية للإجابة عن الأسئلة التي تفرضها اللحظة الراهنة بفعل تميز بنيته التي تتشكل من بنى تركيبية متشابكة لنصوص متعددة تنتظم علاماتها المتنوعة ضمن علاقات متبادلة لتنتج خطابها الخاص والمنفتح لقراءات تعيد إنتاج المعنى وتحقق أثره لدى المتلقي الذي يعد الطرف الأخر في إنتاج العمل الثقافي. هذا الخطاب الذي ارتبط منذ بداياته بمفهوم الحرية والاختيار الديمقراطي للأفكار التي يتناولها والوسائل التي يجسد من خلالها الرؤى الفكرية والصور الجمالية، فمنذ عهد بيركليس الذهبي في أثينا ومرورا بمختلف المراحل الثقافية ظل العامل الثقافي مقترنا بفضاء الحرية لانجاز أطروحاته وتمثل إبداعه بوصفه فنا يعتمد على ذات المبدع من ناحية وعلى الجمهور الذي يخاطبه من ناحية أخرى.


فالثقافة والفنون تنمو في الوسط الذي تمارس فيه وفي ضوء نوعية العلاقة التي تنشأ بينها وبين السلطة والايدولوجيا الحاكمة للمكان حيث تلعب الاعتبارات السياسية والدينية والأخلاقية دورها في تحديد مستوى الفضاء الذي يمكن إن يتحرك خلاله المبدع والفنان ودرجة التوازن بين السياسي والخطاب الثقافي المطلوب.


والإشكالية القائمة بين السلطة والثقافة برزت بوضوح حينما أراد المثقف الانفصال عن تبعية النظام السياسي إبان مرحلة ظهور الطبقة البورجوازية الصاعدة في أوربا والتي سيكون لها شأن كبير في القرن الثامن عشر. وحصل ذلك فعلا في فرنسا مطلع القرن التاسع عشر حيث استطاع الفنان والمبدع التحرر من أية ضغوط يمكن أن تمارسها السلطة تجاهه وصار العمل الثقافي يقيم في ضوء الاختيار الإيديولوجي للمبدع وموقعه ضمن دائرة الصراع الدائر في المجتمع.


وإذا أردنا التوقف عند أوجه العلاقة بين الثقافي والسياسي فلا بد من الإشارة إلى مسألة مهمة تجمع بين هذين المفهومين
فالسياسة مجالا اشمل للتفكير في العناصر المؤسسة للمجتمع مثل الدولة، السلطة، القانون، الهوية، الاختلاف، التنوع، وهذه بدورها تصبح مادة أساسية عبر الممارسة اليومية في تكويناتها المعقدة والمتشابكة المرتبطة دائما بالتوترات القائمة بين الأفراد والمؤسسات، وبمعنى أخر إنها مجموعة الأفكار أو الفلسفة التي تشكل نظرية الحكم التي يتم في ضؤها تنظيم علاقات الأفراد والمجموعات في المجتمع وفق قوانين وقيم معينة تحكم توزيع السلطة والمال وتحديد الأدوار ومناطق التحرك للأفراد والجماعات
أما الثقافي فهو المجال التعبيري للإبداع بما يتضمنه من رؤى وأفكار وتصورات واقعية وخيالية تجسد عبر أشكال ووسائل مبتكرة يقترحها المبدع لجمهوره، وتظل العلاقة بين المجالين في سجال ولطالما كانت الغلبة للسياسي الذي فرض سطوته عبر قرارات المؤسسة الرسمية وقيودها التي حجمت من دور الثقافي وجعلته أداة من أدواتها لترويج أفكارها وأهدافها.


ولكن بعض الممارسات الثقافية لم تنسجم مع هذا التحديد لاسيما الخطاب المسرحي والمرئي عموما حيث يبدو مختلفا بعض الشيء ذلك بفعل طبيعة مكونات هذا الفن النوعية والتركيبية وطريقة انجازه وعلاقته مع الخيال والمتخيل وعدم التزامه بالمباشر والاني وهكذا ينفلت من أسار العلاقة التبعية متحررا عبر فضاءات يصعب فيها احتواءه وتحييده فهو لايستجيب لمتطلبات الحالة الإيديولوجية ولا إلى محاولات التطبيع مع السائد. ولهذا فهو غالبا ما يكون في علاقة ملتبسة ومتباعدة مع السلطةونتيجة هذا التقاطع نشأت حالة من الريبة والشك بين الجانبين الأمر الذي دفع بالسلطة إلى فرض المزيد من القيود الرقابية على هذا الفن المشاكس لرغباتها وأهدافها.


وأمام هذه الحواجز والمحرمات التي تضعها الممارسة السياسية المتسلطة لايكون أمام المثقف إلا أن يلجأ إلى سبل المراوغة بالتجريد والتركيز على الإيحاء وليس الشعار والاجتهاد لتمرير الأفكار والدلالات عبر استخدام الرموز والتخفي والاستبدال لتجاوز الخطوط الحمراء وتبليغ الرسالة التي يريد، ومع هذا وفي كل الأحوال تبقى العلاقة غير طبيعية بين الفنان المثقف والسياسي إن فرض السياسي سطوته على الثقافي ونتيجة ذلك تخسر العملية الإبداعية ابرز عناصرها وأحيانا تفقد أهم شروط وجودها فتتحول إلى مجرد خطاب تابع يسعى لملاحقة الثقافة الرسمية وتسويق سياساتها.


وبسبب سوء الفهم القائم بين السياسي والثقافي،كم من الأعمال الإبداعية غابت عن الحضور ومنعت من العرض ففقدنا تلك المساهمات والانجازات الفاعلة فكرا وجمالا والتي من شأنها اغناء المجتمع المدني الذي ينبغي أن يستند إلى ثقافة حقوق الإنسان والدفاع عن حرية الفكر وتوجيه النقد البناء والجهر بالمسكوت عنه والطرح الجريء في إعلان الخلل الذي يعتور الممارسة السياسية حينما تتناقض مع حاجات الواقع وتبتعد عن روح العصر.


من هنا يكون لزاما على المثقف أن يقوم بأكثر من دور فإلى جانب دوره الرئيسي كمبدع وصائغ للقيم الفكرية الجمالية عليه أن يلعب دوره التنويري بما يجسد القيم والمبادئ الإنسانية ويحرص على تحمل مسؤوليته بشجاعة وإرادة وان يقول كلمته بصراحة ووضوح متناولا القضايا المرتبطة بهموم الشارع الذي ينتمي إليه وهو بهذا يواجه السياسي بل يشاركه الفعل إن لم يتجاوزه في المعالجة والفاعلية والتأثير.


فالعلاقة بين الثقافي والسياسي إذن تتداخل وتشتبك ضمن حركية وتفاعل لمواجهة الواقع المتوتر والمعقد بإشكاليات عدة تحتاج البحث عن أفضل الحلول. ولكن من يضمن انسجام الثقافي والسياسي في اتجاه مشترك يدفع بهذه السيرورة الجدلية نحو مزيد من التجاذب والتفاعل والتبادل مع معطيات الراهن المتغير ؟


وسط هذا الفهم والممارسة التي ينبغي أن تسود وأمام ماهو حاصل اليوم كيف نرى موقعالثقافة العراقية في بنية المجتمع ؟ وما هو مستقبلها في ظل الظروف الحالية ؟


إن الأسئلة المطروحة تثير العديد من الإشكاليات التي باتت بحاجة ماسة إلى ضرورة التوقف عندها والبحث في عمق مرجعياتها بعيدا عن حدود المسلمات الجاهزة والإجابات العمومية والاقتراحات الإصلاحية المؤقتة التي لازمت حياة المواطن العراقي الذي تعرض لأبشع أنواع التسلط والاستبداد والطغيان في ظل أنظمة مستبدة جعلت الثقافة العراقية تؤول إلى التهميش والتشويه مما أدى إلى تدني الوعي وانحطاط الفكر وغياب الهوية وضعف الانتماء والمواطنة.


إن الإنسان العراقي لما يزل يخوض صراعا مريرا من اجل استكمال مطامحه في التغيير الحقيقي وتجاوز مخلفات السنين التي غيبته عن حركة الصراع الاجتماعي والثقافي الذي يجعله ضمن السيرورة التاريخية والحضارية التي تعيشها الشعوب المعاصرة التي وعت مشاكل وأزمات واقعها وانفتحت على مسارات التسامح والتفاعل والبناء والتطور.


وفي اللقاء الأخير الذي تم بين دولة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ومجموعة من المثقفين العراقيين أشار بوضوح إلى جوهر العلاقة بين المثقف والسياسي وكيف تظل الثقافة مرتبطة بوجدان الشعب جيلا بعد جيل في حين تتغير الحكومات وتستبدل الوجوه، فالثقافة سواء أكانت ثقافة مرتبطة بالمقدس أو الدنيوي هي واحدة لان كلاهما يكمل البعض ويعبرعن الحقيقة بطريقة ما، أما الثقافة التي تنحو للانغلاق والتطرف فهي ثقافة زائلة لامحالة لانها تسد منافذ التثاقف والتنوير.


وأشار المالكي إلى قضية مهمة وأساسية في مفهوم الثقافة ونموها في أحضان الحرية فقال إن الحرية ربيع الثقافة وحين يتراجع دور رجل الأمن يتقدم دور المثقف، ولكن ينبغي أن تفهم الحرية على أساس الالتزام الفكري والأخلاقي والإنساني وان تتجه نحو التأصيل والتجديد معا ولا تذهب نحو التسطيح والهامشية والتسيب والانعزال، فالثقافة الحقيقية هي التي تجسد وجودها في ارض الواقع والتي تستلهم مضامين الحياة والمستقبل وتدعو إلى التسامح وتعمير القلوب.


ودعى المالكي إلى ضرورة أن يقول الفنان -المثقف كلمته التي يحاكم بها ظواهر المجتمع ويشخص فيها مواقع الخلل والتجاوزات والخروقات باحثا عن الحلول الناجعة لهذه المشاكل إنها ثقافة المواجهة مع الحقائق والاحتكاك مع الواقع، تلك التي تعايش الهموم وتبشر بالأفضل لاثقافة تضيع الوقت وملى الفراغ
إن بناء الإنسان المثقف الذي يعطي ليس امرأ يسيرا، وتتفاخر الشعوب بمثقفيها ولذلك لابد من احتضان الطاقات المثقفة،لاسيما تلك التي هاجرت بسبب الظروف المختلفة لابد من العمل على إعادة هؤلاء إلى أحضان الوطن، فالمثقف في بلدان المهجر يعاني أيضا من ضغوط المهجر.


وفي ختام كلمته دعى إلى ضرورة تشكيل المجلس الأعلى للثقافة واقترح جائزة الدولة للثقافة والفنون والآداب.
كنت قبل أيام من هذا اللقاء قد كتبت مقالا عن أزمة الثقافة العراقية إلى أين ؟ وقد نشر في موقع ألواح بابلية، وحين شاهدت اللقاء شعرت وكأنه قد جاء إجابة على تساؤلاتي وبصراحة تملكني شعور غامر بالفرح وانأ استمع لأول مرة لمسئول عراقي رفيع يتحدث بهذا المستوى العالي من الإحساس والوعي بدور الثقافة والمثقف ويدعو إلى عدم الانسجام بين الثقافي والسياسي بل يحرص على الاختلاف والتنوع والحوار الحضاري من اجل خلق حالة نقدية ايجابية لمشاكل الواقع والوقوف عندها.


إن كلمة المالكي قد شخصت إشكاليات الواقع الثقافي بوضوح و أضاءت الطريق وفتحت الأفاق واسعة أمام المثقف العراقي داخل الوطن وخارجه ليعيد ترتيب أوراقه من جديد وفق رؤى تشيد بالثقافة الوطنية الجادة تلك التي تستند في طروحاتها إلى نظرة شمولية وإبداعية متكاملة قوامها الإنسان مضمونا والحياة الأجمل مستقبلا، كل مانتمناه أن تجد هذه الطروحات النظرية الرائعة طريقها نحو فاعلية التطبيق والتسابق مع الوقت لتعويض مافقدناه طوال السنين المنصرمة والمحاولة للحاق بركب العصر ومسيرة التجديد المستمر

د. حسين الأنصاري
أكاديمي وناقد عراقي
السويد