في خضم الجدل الكبير الذي يتصاعد أواره بين المفكرين الليبراليين اوالعلمانيين والدعاة الاسلامويين يبرز سؤال مهم لابد من طرحه لنكون مدركين لأبعاد هذا السجال وحدوده وهو إلى أي مدى يستطيع هؤلاء المفكرون بناءحوار يمكنه ان ينمي الحالة الثقافية او يحرك عجلة التطور في هذه المنطقة الحيوية من العالم؟ ثم هل يمكن لهذا الجدل ان يتخلى عن عادته السجالية التفاخرية ليتحول الى نقاش بناء لخدمة الواقع الحياتي للمجتمع؟ نقاش يتقبل فيه الخاسر خسارته بروح رياضية لينضم الى من فاز عليه ورحم اللهامرأ عرف قدر نفسه وفهم قدرته بوضوح لكننا في الواقع نواجه معضلة اشد بكثير من الجدل نفسه وقد تكون السبب الاساس لفشلنا.. هذه المعضلة تتمثل بتقديري في تعثر المفكرين الليبراليين / العلمانيين فيتبني خطاب واضح وصريح في مواجهة الاخر مع تقديري لبعض الخطابات الجريئة التي اخذت تسمع هنا وهناك رغم انها لا تشكل الا نسبة قليلة مقارنة مع تلك الخطابات المزروقة والممكيجة من الطرف الاخر او المهادنة و(المتبوشة) منالطرف نفسه وكأن الهدف ارهاق المتلقي او تحييره لكي لا يخرج من شرنقة الغموض التي تحمي الخطاب من لفحات اللوم او الرفض، الامر الذي يجعل منالحوار مجرد حالة مزيفة لا علاقة لها البتة بـ (الدافع الابستمولوجي) حتىان الحوارات المشهودة ومنها بشكل خاص الحوارات الاعلامية الفضائية لمتغادر ابدا الطابع الذاتي مما ولد نوعا من الاحتراف الحواري قبل ان يكون لهذا الحوار هدف موضوعي معين يقول الدكتور (نصر حامد ابو زيد) ان محمدعمارة مارس خلال لقاء تلفزيوني جمعه به (فعلين متناقضين) فهو كان يتحدث بايقاع ونبرة عالية عندما توجه اليه الكاميرا ويفعل العكس عند انتهاء ذلكاو خلال الفواصل الاعلامية حيث علل ابو زيد ذلك بان عمارة لم يكن يهدف منهكذا حوارات الوصول الى نتيجة موضوعية بقدر ما كان هدفه الانتصار علىخصمه والحصول على الشهرة ولعل هذا هو ديدن الكثير من المفكرين الاخرينولا نستثني بالطبع حتى اولئك الذين ينهجون نهجا علمانيا لانهم يمارسونالهوس ذاته ولو بشكل مغاير وخير دليل على ذلك التعاطي المزدوج لسدنة هياكل الوهم ـ كما يصف احد الكتاب الحداثيون ـ مع الحضارة الغربية فهم منجهة يعلنون رفضهم لها ويدعون الناس لمقاومتها على اساس انها رجس يجباجتنابه ومن جهة اخرى لا يتورعون عن الالتجاء اليها والعيش في كنفها بلوالاستفادة من خدماتها اذا تطلب الحال ذلك أي اننا كما يشير الاستاذ (علي حرب) quot; لسنا دوما ضحايا الاخر كما يفكر اصحاب المنطق الضدي والمواقف القصوى وانما نحن نتواطئ مع بعضنا البعض ضد انفسنا بقدر ما نحن ضحايا ثقافتنا العاجزة وتصنيفاتنا الارهابية واستراتجيتنا المفخخةquot; ولعلنا بموقفنا الازدواجي هذا نمارس أسوأ حالات النفاق واشدها تأثيرا لانه موجه ضد النفس ما يؤسس لحالة من الضبابية سوف تنعكس على مستقبل الوضع الشرقاوسطي بشكل عام لان البنى التي تؤسس الواقع لا تنطلق من محتوى جيد كما هوالحال مع بلدان العالم الاخرى انما يجري الامر على شاكلة لعبة النرد معفرق واحد انه في اللعبة قوانين وشروط لا تتوفر في الواقع الشرق اوسطي المنفلت والمتخبط ولذلك لا نجد تلك الارضية المناسبة لصنع المفكر الحقيقي وحتى مفكر من طراز (محمد باقر الصدر) لم يخرج عن نطاق مناجزة الغرب منخلال عرض عناصر القوة في التراث الاسلامي وهو اذ قدم لنا فكرا غنيا لميستطع ان ينهض بأي رؤى جديدة توازي ما قدمه الغرب وبالتالي نحن نخشى انيغدو الفكر مجرد حالة يراد بها تلطيف الاجواء المشتعلة في المنطقة بدل ان يكون عامل حسم لمشاكلها وحتى مفكر من طراز (حسن العلوي) لم يستطع ان يتخلص من وعي المواضعة او ضغط الظروف ليأتي كتابه (عمر والتشيع) تتويجا لهذا النهج حيث يقول quot;ان الموقف من الصحابة ومن عمر بالذات تتوقف عليه في عصر الاتصالات امور لم تكن محسوبة قبل هذه الثورة وسنواجه بتجريح الصحابةاشكالات اجتماعية حادة في مناخ يسمح بنشر احكام التكفير والترويج لها في الفضائياتquot; وكأن الهدف من كتابة مؤلفه ذاتي اولا وسياسي ثانيا وليس عن قناعة او ايمان مع اننا يجب ان نثني على هكذا توجه سوف يخدم بلاشك مطلب الناس في تحقيق السلام الذي ينشده الجميع ولعل المشكلة الكبرى اننا الى الان لم ندرك بعد اهمية ان يكون لنا رأي واضح من مسألة الحداثة وكيفية تعاطينا معها حيث بقي مشروعنا التحاوري قاصرا عن ادراك اهدافه المطلوبةلاننا في الواقع لا نملك فرصة لاظهار افكارنا بشكل علني بل نستعيض عن ذلك بـلعبة التضليل التي تخفي ما تخفيه من افكارنا وتعرض ما يزيد عن ذلك لياتي الحوار مجتزأ ومشوشا او بعيدا عن المصداقية واذكر في هذا الخصوص اضطراري لتغيير عنوان احد بحوثي نزولا عن رغبة الاستاذة المشرفة بعد ان وصمتني بالمخالف الامر الذي دفعني فيما بعد الى رد فرصة ثمينة للدراساتالعليا خشية من ان افقد حريتي الفكرية او احيد عن درب الحقيقة مع انني اعترف اننا تيجيننا مقصرون تجاه المنهج العلمي والحرية البحثية التي لاجدال على اهميتها بالنسبة لاي مشروع ثقافي او علمي.

ولعل ما يثير استغرابنا هذا الفشل الكبير في امتلاك ناصية الابداع معاننا قد مررنا بـ العديد من الثورات الابداعية حتى ان كتب التراث تدلناعلى ان الحرية لم تكن غائبة حتى في خضم الدعوة ذاتها مدركين تاريخانيةالنص القرآني وارتباطه بالوضع على الارض حتى اننا وجدنا ان كتب التاريخقد تعاطت مع بشرية شخوصها الى درجة كادت فيها ان تقوض تلك النظرة التينعرفها عنهم مع اننا ندرك ان الخطأ ليس في سلوكياتهم الواقعية آنذاك بلفي فهمنا السلبي لتلك السلوكيات ومحاولتنا تقويمها بطريقة من الطرق..

وهذا الامر له خطورته الكبيرة على مسار البناء الانساني لاننا لا نستطيعان نتجاوز الواقع المخفي بل نبقى نعيش دوامة التفاسير المتناقضة التييكفر بعضها البعض منساقين الى ذلك الوهم الذي صنعه دهاقنة الفكر التعبوي الغيبي الا افتراق بين الدين والدنيا ولا مناص ابدا لاخراج المجتمع منوصاية الدين على اساس ان الدين الاسلامي هو دين شمولي يتعاطى مع كل مناحيالحياة بدون استثناء والغريب ان هذه الرؤية المغالية لم تكن ابدا جزءا منقناعة المسلمين على الاقل الى عدة قرون بعد البعثة النبوية حتى اطلق علىالعصر العباسي عصر الانفتاح لان الحوار نشط فيه وازدهرت فيه العلوموالمعارف الفكرية حتى وصلت افضل حالاتها في الحضارة الاسلامية حيث لميتوقف ذلك الا بعد اقتحام السلاجقة الاتراك لبغداد واسقاطهم للحريةالفكرية والعلمية التي كانت سائدة آنذاك حتى اصبحت مدارس الوزير السلجوقي(نظام الملك) مدارس تتخصص بجانب واحد من جوانب الفقه الاسلامي حيث مارستقمع الحريات الفكرية والانسانية بدل ان تكون عاملة بناء اضافي للواقعالاسلامي بحكم انتشارها الواسع ولعل اخطر ما اسسته هذه الردة الثقافيةاخضاعها العقل للحجر الفقهي ضاربين عرض الحائط كل تحذيرات الفلاسفة من أيمحاولة لتغييب العقل لانها ستكون ذات تاثير خطير على حياة المجتمع مماجعل الفقهاء يقومون بتكفير الفلاسفة ووصم مؤلفاتهم بانها تتهافت لنيلمعارف غير مشروعة ! كما ابان عن ذلك (الغزالي) او القيام بحملة لطمسالفكر التحرري والقضاء على رموزه البارزين من امثال ابن رشد الذي تعرضللاضطهاد من قبل الموحدين في المغرب واحرقت كتبه الثمينة ولذلك ليس صحيحاما قيل من ان الحضارة الاسلامية انهارت بتأثير هجوم المغول على بغدادواحراقهم لكتبها الكثيرة وتدمير مؤسساتها العلمية انما جرى ذلك نتيجة الحجر الذي مارسه الفقهاء (من وعاظ السلاطين او غيرهم) والسلاطين على العقل وبالتالي التسبب بخسارة بغداد ذاتها. ان موقفنا من ظاهرة الديننةيجب ان يستوعب حقيقة ان ما يحصل في واقعنا الاجتماعي والثقافي لا يتطابقعلى الاطلاق مع المفهوم الصحيح للدين بل على العكس فهو يسيء اليه ويقحمهفي امور لا علاقة له بها لانه يدفع الى تحجير الحياة واضعاف زخمها اوتحويلها باتجاه يناقض منطقها ولعل الهدف الاساس مما يحصل هو ابقاءالمجتمع تحت هيمنة ووصاية سدنة المقدس الذين يمثلون خير داعم للاستبدادبما في ذلك وبشكل خاص الاستبداد السياسي لان هناك استفادة متبادلة بينهم،فهم متفقون على ان مصيرهم واحد ومصالحهم متشابكة وهم يسعون جاهدين لتأمين خضوع الناس لافكارهم الفاسدة المتهرئة مستغلين احترام الناس للدين لتحقيق اهدافهم البعيدة كل البعد عنه يقول الدكتور عبد الرزاق عيد (ان المشكلة مع مديري منافع المقدس انهم عندما ينافحون عن سدانتهم لهياكل الوهم فان مصالحهم واطماعهم الدنيوية تغشى بصيرتهم الى الحد الذي يعتقدون فيه ان أيملفوظ ينطلق من افواههم يكون مغلفا بسليفونات القداسة ومن ثم فانهم هم اكان سطحيا فان البطانة السحرية التي تغلفه تعطيه اهمية وقيمة ) ولذلك تجدهم متشبثون بانزال الدين الى مستوى الشعائر والطقوس البدائية التياخترعها الانسان في فجر وجوده لتحقيق حالة الاستقرار النفسي والذهنيواشعاره بالطمأنينة في عالمه القاسي حتى بدت (ثقافة الملاهي والمقاصف وهزالبطن على ايقاع الدربكة وقرع الطبول قريبة الشبه ـ كما يقول الدكتور عيدـ من ثقافة التكايا والزوايا وهز الجذوع على ترانيم الخطابة والبلاغة)ولعل ما يجري في بعض او اغلب جهات العالم الاسلامي خير تأكيد لذلك حيث تزدهر بعض الممارسات الشكلية التي لا علاقة لها بحقيقة الدين او بغايتهبل تقرب من ان تكون فعاليات شعبية لها جذور قديمة وقد تكون متصلة بموقف اجتهادي او تاريخي معين وبالتالي تؤدي هذه الممارسات الى ايذاء المجتمع واضعاف نموه وتطوره بما يشكل مشكلة انسانية كبيرة. ان انتشار مظاهرالضوضاء والصراخ والتعبئة النفسية والثقافية لهو في الواقع شيء خطير يتطلب موقفا دينيا وثقافيا واضحا من اجل ان نؤسس لواقع يتسم بالاعتدال والصدق ويحترم ابناء الجنس الانساني بدون استثناء ولذلك نحن بحاجة لصرخةفكرية مدوية تشبه صرخة (ديكارت) عندما وضع التفكير في مضاهاة الوجود (اناافكر اذن انا موجود) لان صرخة كهذه مشفوعة بعمل جدي ومخلص ستكون كفيلة بايقاظ الشعوب الشرق اوسطية من سباتها فوضعها في طريق الحياة التي ادارواظهرهم عنها طويلا.

باسم محمد حبيب