تاريخ دولة البعث في العراق لم يكتب بعد بشكل وثائقي و علمي ممنهج ليكون الإرشيف الحقيقي للذاكرة الوطنية العراقية التي تهالكت للأسف من جراء تسارع الأحداث و غموض الملفات و طمس الوقائع، وعدم وجود ما هو مؤكد، وما حدث من أحداث تاريخية و ( كارثية ) في العراق خلال نصف القرن المنصرم هو حالة إستثنائية في دول العالم الثالث، فلم تشهد أي دولة أو كيان أحداثا مشابهة في سوداويتها و مآسيها و تفرعاتها شبيها بالحالة العراقية؟

لقد مرت جميع دول العالم و شعوبه بأزمات و إنكسارات و نجاحات و إخفاقات و هزائم، ولكنها خرجت جميعا من تلكم الأحداث وهي تمتلك رصيدا تاريخيا و معرفيا أغنى الذاكرة الوطنية بأشياء و تجارب كثيرة و عديدة و شكلت نتائجها منطلقا للبناء المستقبلي و لتجاوز تلك الإشكاليات، ففي أقصى العالم الغربي و حيث المغرب مثلا فقد حدثت خلال نصف القرن الماضي أحداث تاريخية و سياسية جسام تراوحت بين القمع و الإنفتاح ثم المصالحة مع الذات في سياقات حفظت ذاكرة الوطن و الشعب من التلف و الضياع، فبقدر ما عانى النظام هناك من إشكاليات الصراع و التحدي مع المعارضة، بقدر ما خرج قويا و مستقرا و هو ينهي تلك الملفات و يدير ملفات الصراع بمسؤولية و تجرد، لم يبق ملف مغربي و لو كان خاص و سري لم يطرح على طاولة البحث و التقصي و الإعلام المفتوح، و لم يتردد النظام عن تسليط الأضواء على التجاوزات التي إرتكبها و عن الخوض في أدق تفاصيل ما حدث من مؤامرات و إنقلابات و مصائب أضحت اليوم في ذاكرة التاريخ، وهي حالة تصالحية مع الذات و التاريخ تثير الإعجاب و التأمل، في مصر التي هي قلب العالم العربي تمت مناقشة كل تفاصيل الهزيمة العسكرية و الصراعات الشخصية و كل الملفات بدون أدنى حساسية، فعرف الرأي العام حقيقة نظام 23 يوليو و صراعاته، كما عرف العالم بسياسات الرئيس الراحل أنور السادات و بكل دقائق و تفاصيل عملية التحول السياسي و الإقتصادي الكبرى هناك، ففي النهاية من حق الشعوب أن تعلم و تعرف كيف كانت تدار أمورها و يتلاعب بمصائرها و ذلك من أضعف الإيمان!،

أما في العراق و حيث الساحة العربية الأسخن، و حيث البلد الذي لم تتوقف شلالات الدماء فيه منذ الرابع عشر من تموز 1958 عن الفوران، فإن الذاكرة التاريخية و حقائق ما حصل من أحداث يبدو أنها قد سرقت أيضا ضمن أشياء كثيرة تمت سرقتها من هناك، فقد سرق الماضي، كما سرق الحاضر!! كما يحاولون اليوم إختلاس و سرقة المستقبل! في ظل أبشع وضع لأسوأ دولة فاشلة في تاريخ العالم الحديث!، فالعراق الذي دخل إعتبارا من صيف عام 1979 تحت سلطة دكتاتورية فردية عشائرية مستبدة على النمط الستاليني الجامد و المرعب مخلوطة بصورة النظام النازي المتطرف قوميا الذي يشك بالآخرين و يراقب حتى نسمات الهواء، لم يقدر لتاريخ تلك المرحلة أن يوثق أبدا!! وهي مرحلة قريبة للغاية عاشها جيلنا بكل تفاصيلها المرعبة و ما زلنا ندفع حتى اليوم ثمن إستحقاقاتها، و ما زال العراق بأسره يعاني من نتائج و تداعيات تلك المرحلة، و العجيب أن الشخص الذي يملك كل الأسرار و المفاتيح و المغاليق و الملفات السرية و الذي قدر له أن يعبث بالشرق الأوسط بشكل غير مسبوق و أن يجعل العالم العربي يعيش من جديد في عصر القفتنة الكبرى ن و أن يدفع الدول الكواسر لإعادة إحتلال العراق من جديد قد ذهب بصمت و تمت تصفيته دون أن يعرف الشعب العراقي مباشرة منه أي شيء؟ حتى إعترافاته التاريخية لفترة حكمه الطويلة و المرهقة لم يتسنى للشعب أبدا أن يعرف أسرارها أو زواياها المعتمة و لو من خلال حتى بعض القياديين من النظام السابق؟ فالجميع وقعوا في القبضة الأمريكية المحكمة!! و الجميع في حالة صمت تاريخي مرعب!! و الجميع تلاشوا و ذهبوا مع الريح كالعهن المنفوش!!،

لا أحد يتحدث أبدا عن تلك المرحلة و لا عن حقيقة التصفيات و المؤامرات التي حدثت و الدماء التي سفكت! إذ يبدو أن عموم الشعب و خصوصا فئاته العمرية الشابة أضحت أشبه بالإمرأة البلهاء لا تعرف ما يدور حولها و أنشغلت بمصائب الحاضر عن متابعة مصائب الماضي التي أسست لما يحدث حاليا؟.

تاريخ العراق و مكتب التحقيق الفيدرالي!!

لعل قمة المهزلة و الإحتقار للعقل التاريخي و الوطني العراقي هو إن إعدام الدكتاتور العراقي السابق صدام حسين قد تم بطريقة تهريجية و غبية تفتقر للسيناريو الحضاري و كانت النهاية همجية بكل معنى الكلمة متشابهة وهمجية النظام خلال فترة صعوده و تألقه!!

فسقوط نظام صدام حسين للحقيقة و التاريخ لم يكن نتيجة لإرادة عراقية و لم ينفذ بأيدي عراقية! و لم يعتقل بأيدي العراقيين!! كما أن أن العراقيين بصرف النظر عن أية إعتبارات أخرى لم يكن لهم أي دور في إعتقاله و سجنه ثم إرساله لمنصة الإعدام الشهيرة!! كل شيء قد تم وفقا للإرادة و الإخراج الهوليوودي الأميركي! و لم يفعل العراقيون شيئا سوى توقيع رئيس حكومتهم ( نوري المالكي ) بقلمه على قرار الإعدام الذي هو رغبة أمريكية خالصة!! فهو كان محتجزا عندهم منذ أواخر عام 2003 و حتى نهاية عام 2006 و حتى لولم يوقع المالكي أو إنسان آخر فصدام كان سيعدم و بسرعة لضمان السكوت و إسدال الستار و تغطية الملفات و الرش بالتراب على التاريخ في واحدة من أكثر الأعمال و الممارسات إحتقارا للعقل العراقي و للإرادة العراقية و للمستقبل العراقي أيضا.. صدام حسين كان ظاهرة سلطوية عجيبة و غريبة، و كان ديكتاتور مرعب إستطاع أن يطوي العراق تحت إبطه و أن يحقق شعبية في العالم العربي تفوقت على شعبية الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، صدام كان إله الحرب و الدمار ليس في العراق فقط بل في عموم المنطقة و تمكن أن يصرع حزبه حزب البعث و أن يصادره و أن يجعله مجرد فخذ من فخوذ العشيرة الذهبية الحاكمة لمماليك ( العوجة ) و ضواحيها!

بعد أن جندل الجنرالات و أطاح برؤوس الرفاق وهو يبكي عليهم و يذرف دموع التماسيح و عض جميع الأيادي التي إنتشلته من القعر لتنصبه كسلطان السلاطين في العراق، وهو الذي بشعاراته القومية الزاعقة دمر الأمن القومي العربي وهزم النظام السياسي العربي و كسح العالم العربي و جعل السلاح العربي يشهر في أعقد فتنة قومية منذ أيام معارك الجمل وصفين قبل خمسة عشر قرنا من الزمان؟ صدام كان مشروعا غنيا للبحث لجيوش من علماء النفس و التاريخ و العقل و الصحة العامة! و لكن لم يجرؤ أو يسمح لأي عراقي كان أن يجري عليه أي فحص؟ بل كان من حصة الأمريكان وحدهم فقط لا غير؟ حبل الشنق الغليظ وحده كان من إختصاص العراقيين فقط؟ و كسر عظام الرقبة كان هو مسؤولية العراقيين فقط؟ أما ما عدا ذلك فلا شيء مسموح و لم يسمح لأحد من العراقيين الإقتراب منه! رغم أن إعدامه بتلك الطريقة المستعجلة قد شكل خسارة فظيعة لملفات التاريخ العراقي القريب الغامضة و التي لم تتفضل أي جهة بعد بفك رموزها و شفراتها!

حتى رؤية صدام للأمور و لبعض أحداث أيام حكمه قد جائتنا من خلال تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي!! و هي التي تنشر في الصحافة الدولية اليوم وتتسم بالسذاجة المفرطة و بالغباء في تناول الأحداث و بالجهل الفظيع في معرفة حقيقة ما حصل أو كيف حصل؟ أي أن تفريغ ذاكرة صدام قد جاء من خلال الراشح الأمريكي و ليس من خلال التحقيقات العراقية الخاصة التي وحدها كانت تستطيع تفسير و ذكر العديد من الأمور و الكوارث التي مرت بالعراق، وبقدر ماكان الحرص الأمريكي واضحا على إظهار تفاهة و سطحية عقل صدام حسين و تصرفاته السياسية و العسكرية الساذجة و الخرقاء، بقدر ما كان الخبث واضحا في التغطية على العديد من الأمور و الملفات العراقية المرعبة التي لم تعرف حقائقها أبدا في ظل الإصرار الأمريكي الواضح على طمس الملفات وإشغال الناس بأحاديث الإرهاب و ب( مخابيل ) القاعدة و الجماعات الأصولية الأخرى أو بسوالف الجماعات الدينية المتخلفة التي إنتشرت في العراق لتبشر بالخرافات و تزرع الأساطير!...

ثمة حلقات فراغ سوداء لم يعرفها الشعب العراقي بعد و أهمها : كيف تسنى لهذا السطحي و الساذج صدام حسين أن يهزم الجميع و يصادر العراق بأسره؟ كيف تخلص من الرئيس السابق أحمد حسن البكر؟ ما حقيقة مؤامرة الرفاق في عام 1979 و التي إنفرد بعدها صدام بالسلطة؟ ماهي أسرار الحرب مع إيران؟ و ما هي الظروف و الأسباب الحقيقية لغزو الكويت و كيف إندفع صدام لمقاتلة دول العالم بعد عامين من نهاية الحرب مع إيران فقط؟

وهنالك الكثير الكثير من الأسرار السلطوية لم يتسن لأي مؤرخ عراقي أولجنة تحقيقية عراقية خاصة التيقن منهها و مناقشتها مع صدام وحيث أخذت المباحث الفيدرالية الأمريكية المسؤولية على عهدتها في إحتقار غريب و عجيب للشعب العراقي و كأن جرائم صدام قد حدثت في لاس فيغاس أو هيوستن أو زاشنطن دي.سي و ليس في بغداد أو البصرة أو كردستان أو المحمرة أو الكويت؟

و الغريب أن العديد من الحكام الفرديين كان لهم بعض الندماء من الكتاب و الفلاسفة فجمال عبد الناصر مثلا وضع إرشيف منشية البكري و الرئاسة و كل الأمور و الملفات تحت تصرف صديقه الصحفي المعروف ( محمد حسنين هيكل ) الذي ظل يمضغ بها منذ ما يقارب الأربعين عاما حتى اليوم! و كان هيكل هو الذاكرة الحية لعبد الناصر؟ أما صدام فلم يترك أحدا بجانبه سوى المتخلف ( عبد حمود )! و بعض البلهاء من أهل الشوارب الكثة من عشيرته وأقربائه و كانوا أول الهاربين!! أما عبد حمود فهو أيضا تحا الوصاية ألأمريكية و يخضع لتحقيقات المباحث الفيدرالية!!... ترى أي سجل تاريخي رث تركه الأمريكان للعراقيين!!.. ذلك هو السؤال الحائر... و من يهن يسهل الهوان عليه..!.

داود البصري

[email protected]