...(لا أحد مجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرر أن يفعل في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع) أن ينطق بمنطقه وأن يخضع لقانونه.

لا فيلسوف ولا متكلم ولا شاعر أبدا على رأس الدولة، كلما وأينما حصل ذلك عمت الفوضى ونزل الخراب)...عبد الله العروي من كتابه الأخير (السنة والإصلاح).


ربما يصلح هذا المقتطف من كتاب المفكر والمؤرخ المغربي الكبير عبد الله العروي كمقدمة لرصد احتمالات صور المثقف العربي والبحث عميقا في ذلك الدور المتعالي للعديد من الأخيلة والأساطير والسرديات التي يحملها هذا المثقف في رأسه ويبحث لها عن مجتمعات متخيلة.

سيرة المثقفين العرب في الأزمنة الحديثة ربما كانت من أعقد العلاقات التي عكست معنى أن يكون الوعي مأزقا خاصا، وضربا من متاهة (بورخيس) العربية الشهيرة

لم تكن العلاقة الجدلية بين الوعي والواقع بهذا التعقيد، كما كانت في ذهن هذا المثقف، حين تمثل بامتياز خلال العقود الماضية ردود أفعال لم تكف حتى اليوم عن إعادة انتاج مجاز الوهم الذي ورطه في تلك العلاقة المعرفية الشاقة بين وعي الذات ورؤية العالم عبر قناع ظل باستمرار يمارس معه لعبة السراب.

ربما كانت هذه الحالة المعطوبة تحديدا، إحدى النماذج الحصرية لعلاقة تاريخية مركبة لم تمتلك القدرة حتى الآن على فك شفرتها حيال المعادلات المعرفية التي تحتاج إلى توصيف منضبط يعيد قراءة التخلف المزمن في هذا الجزء من العالم المسمى بالعالم العربي.

يكاد الجميع من المفكرين العرب يتفقون اليوم على بعض سمات مراحل القرن العشرين، ويعيدون قراءتها على ضوء الانفجار الكبير لعصر المعلومات والاتصالات الذي كشف كم كان العالم ضيقا ومحدودا في قواعد المعلومات المهمة، وما كان ينطوي عليه ذلك الاستثمار الخطير للمعلومات من قبل الأنظمة وإعادة نشرها عبر إعلام حصري ومبهر في توظيف طرائق التحكم بعقول الناس.

وعليه فبالإمكان اليوم أن نعرف كم كانت تلك البيئة (الليبرالية) التي أنتجت كتابات العصر (الليبرالي) في مصر حيث ظهر مثقفون كبار من أمثال طه حسين والعقاد وغيرهم؛ كم كانت بيئة ساذجة.

إن تلك البيئة لم تكن بيئة ليبرالية بحيثيات موضوعية، أي لم تكن الحال الليبرالية نتيجة لبنية تحتية في الواقع الموضوعي، ولا حتى إحدى صيروراته. بل كانت تلك الحالة بكل صراحة : مساحة مرصودة من قبل الاستعمار البريطاني لبناء هامش كاريكاتوري على صورته، يمكنه من ضبط حالة الوعي حيال مجتمعات متخلفة.

وبإمكاننا القول أن لعبة الوجه والقناع في وعي المثقفين في ذلك الزمان على خلفية الإنبهار الحقيقي والضروري بالعالم الحديث الذي مثلته أوربا الغربية، لم تزل بنفس الحيوية والعنفوان، وبصورة كانت وجهتها باستمرار عكسية في الاقتراب من ذلك السراب الذي طالما حسبناه قريبا في التماهي مع أوربا.

وحين نتأمل اليوم في كلام عبد الله العروي أعلاه، بعد أن خاض هذا المفكر الكبير مشوارا معرفيا رائدا مع الفكر وعبر مساهمات فكرية مرموقة في نقد الآيدلوجيا ومقاربة المفاهيم مقاربات أنطلوجية دقيقة،ما الذي يمكننا أن نستشفه من هذا الكلام ؟

إن أول ما يتبدى لنا هو مجموعة من التناقضات تشبه صور الحفلات التنكرية في مواقف أولئك المثقفين وأزيائهم الفكرية، لا سيما عندما وقع زلزال انهيار المعسكر الاشتراكي وسقوط الاتحاد السوفيتي. فجأة وجدنا شارات أخرى مختلفة للعناوين القديمة ؛ عناوين الحرب الباردة. هكذا وبدون مقدمات وجدنا انقلابات دراماتيكية وبحدود قصوى في الفكر والموقف دون أي قطيعة معرفية تبرر تلك التحولات، أو مراجعات شجاعة،أو حتى إرهاصات من كتابات سابقة لدى أولئك المثقفين ؟ !

إنها حالات أشبه بتقلب مزاج الشعراء ونرجسيتهم الحميدة، لكنها في حال وصف هؤلاء المثقفين والمفكرين أبعد ما تكون عن النرجسية الحميدة. بل هي في أحد سماتها ضرب من الخفة المجانية حيال استحقاقات الفكر، وأمانته، وحيال احترام وظيفة إنتاج المعنى في مناهج المعرفة.

وهكذا تتناسخ المواقف ضمن ثقافة دائرية مغلقة تعيد انتاج نفسها باستمرار بحيث يمكننا القول أن التناسخ هو سديم هذه الثقافة التي ينتجها المثقفون العرب فيما لا يزال فك شفرة الخروج من هذه الدائرة يبدو أمرا بعيد المنال.

ولقد لخص المفكر التونسي الراحل صالح بشير هذا السديم في مقولة عبرت عن معناه حين قال (نطل على تراثنا بفكر حداثي مجتزأ، وعلى الحداثة بمعرفة تراثية محدودة، أو غائبة في الغالب).

وفي هذا السديم تغيب حتى الحقائق المعرفية لقوانين الفكر، وتصبح الايدلوجيا وإدعاء المعرفة فضاء لكتابات مجانية وهوائية بالغة الخفة.

ونجد بعض أولئك المثقفين يطلقون أحكام قيمة أشبه بقرارات الإعدام مثل تلك المقولات التي كان يطلقها المرحوم (سلامة موسى) عن الشرق.

ثمة من يدعو إلى تجاوز الإسلام جملة وتفصيلا لأنه السبب المباشر في تخلفنا، كما يتحفنا الأستاذ (حميد زناز) بكتاباته في بعض مواقع الانترنت.

أو كما يبشرنا الكاتب (هاشم صالح) بتفكيك الإسلام وإعادته إلى متحف التاريخ الطبيعي للأديان، ومن ثم استئناف خط الحداثة الأوربي بحذافيره، دون أن تستثيره مثلا : الفوارق الواضحة في صورة حياة وعالم لم يعودا بتلك الشروط التاريخية التي أنتجت الحداثة في أوربا لأول مرة ؛ وما يتفرع عن ذلك من كمية وسائل القمع التي تملكها الدولة الحديثة مقارنة بوسائل قمع لويس التاسع عشر البدائية غداة انفجار الثورة الفرنسية (فلنضع في الاعتبار قمع صدام حسين الوحشي لانتفاضة الجنوب العراقي في العام 1991م) وقمع الملالي في طهران للاحتجاجات والمظاهرات الشعبية ضد تزوير انتخابات إيران. هذا بالإضافة إلى البلبلة الكبرى في مرجعيات الوعي والمعرفة وانفجارها في زمن (الملتيميديا) و(الإنفوميديا) وبرامج الفضائيات العربية والعالمية والانترنت، وما يفعله كل ذلك من تشويش وأدلجة وخلط إضطراب في ذهن المواطن العربي المسكين؟ فضلا عن مغريات كتاب ومفكري فلسفة ما بعد الحداثة التي تنسف مقولات العقل الموضوعي للتنوير، وتدعو إلى التعدد والاختلاف بعيدا عن المركزية الأوربية للمعرفة، لا سيما حين يستخدم بعض مفكرينا منتجات ما بعد الحداثة، كدلالة على هويات ما قبل الحداثة ؟!

وبالجملة نجد ضياع المعنى في واقع المثقفين العرب هو أكبر دلالة على بلبلة الواقع الثقافي وما تضخه كتاباتهم في ذلك البحر الهائج من الضياع ؛ وهو ضياع تغيب معه أدنى قوانين الفكر وحقائقه الموضوعية.

فكيف إذا أصبح هؤلاء أصحاب القرار في عالمنا العربي ؟ ألن يكون ذلك منذرا بالخراب كما يقول عبد الله العروي ؟

عبد الله العروي الذي قرر ذات يوم حقيقة معرفية في كتابه الرائد (الآيدلوجيا العربية المعاصرة) الذي ألفه في أواخر ستينات القرن الماضي ؛ في وقت كان المثقفون العرب غارقين في قاع الآيدلوجيا بكامل أزيائهم الفكرية.

حين قرر العروي في ذلك الكتاب أن الفتوحات الإسلامية هي بحق (معجزة بشرية) لم يكن يطلق حكم قيمة مجاني ؛ وإنما كان يتأمل في نتائج قوانين التاريخ البشري؛ هو الذي تمكن من أدوات التفسير المادي للتاريخ في ضوء نظرية المعرفة الماركسية

هاهو عبد الله العروي اليوم مرة أخرى يطلق مقولة مهمة توصل لها في كتابه الأخير كتاب : (السنة والإصلاح) الذي خرج فيه بأن الإسلام هو موضوعة العرب في التاريخ. فهل ستكون هذه المقولة مدعاة للسخرية منه ووصفه بالدروشة كما زعم أحدهم أم ستكون نبوءة متقدمة من نبوءات مفكر عرف بثقافته الموسوعية الرصينة ودراساته الجادة في التاريخانية وعلم الأفكار؟

محمد جميل أحمد

[email protected]