يؤصل هيجل رؤيته الفلسفية وفقاً لنقطة جوهرية إستثنائية ألا وهي إن الفكر هو جوهر أولي مطلق كامل سابق بالضرورة وبالموضوعية لكل تمظهر أنطولوجي آخر، بل يكاد أن يعتقد إن كل تمظهر وجودي آخر هو إحدى تجليات الفكر، أو تحديداً هو الفكرذاته في تلك التجلية، وهذا هو مبدأ الوجود الشامل لديه. المبدأ الذي لا يمثل فقط جوهر الماهية لديه إنما هو (هو في ذاته ) أو على الأقل ( هو من أجل ذاته ) ولايغدو ( هو من أجل الآخر ) إلا في مرحلة الأغتراب، مرحلة فلسفة الطبيعة. فهيجل يؤله الفكر ويغدق عليه بمعطيات من كل حدب وصوب ليمنحه دفقاً لامثيل له في تاريخ الفلسفة وليضفي عليه خاصيات من الموضوعي، كما لو إن الفكر، وهذه فرضية غير صحيحة من وجهة نظر هيجل، ينبعث من الطبيعة في تناقضاتها، في تعارضاتها، في صيرورتها، في ميكانيزمها، في ظاهراتها، في إنفعالاتها، في قوانينها. أي كيلا يموت الفكر في بروده، في جموده، في عقره، في عدمه، في لاوجوده، في جفافه، وهو المبدأ الأول والأخير في فلسفة هيجل، يؤكد هذا الأخير إنه يتطور، ينتقل، يتحول، ويصير صيرورة من مقولة دنيا إلى مقولة عليا، لإنه هو الوجود، الوجود الممتلىء المفترض، الوجود الهيجلي، الوجود الذي هو علة تمظهره، ولذلك سأسميه، إحتراماً لإرادة هيجل، بالفكر الأنطولوجي الذي يتمايز عن الفكر الفلسفي المجرد، فيثاغورث، إفلاطون، أرسطو، كانط، وعن التفكير السوسيولوجي التأملي، سقراط، جان جاك روسو، موتزو، باشلار. وهذا التمايز يبلغ حد التغاير التام لإنه لايختلف في الشكل والمضمون، إنما يستتب في مستوى الكنه والكينونة، بل تحديداً في مستوى الماهية والمفهوم. إلا إن هذا الفكر الأنطولوجي، الذي من المستساغ تسميته في المرحلة الأولى، مرحلة المنطق، بالعقل الكلي، الفكرة المطلقة، الوعي الكامل، يصير ( ينتقل ) في غياهب صميم المكان دون أي تحول حقيقي، حسباً لمنطوق الجدل الديالكتيكي، في حيثية الماهية، وخاصة قي حيثية المفهوم، لإن هيحل الذي يؤله الفكر، يؤله المفهوم لنفس الضرورة، لنفس الجدل. وهنا، ولكي يتم التطابق والتناغي ما بين الماهية والمفهوم من جهة، وآلية الحركة في النقلة من جهة أخرى لتنبعث الديمومة في الفكر الأنطولوجي، يضطر هيجل أن يهجر المنطق الجامد الصوري الأرسطوي، أي هو هو، مبدأ الهوية، ومبدأ الثالث المرفوع حيث لاوسط ولانقلة، ويستعيض عنه بمنطق يأتلف من الحركة، التناقض، التعارض، الصيرورة. وهكذا يصوغ هيجل مسوغاً منطقياً ليس فقط للحركة النقلية في الفكر الأنطولوجي، إنما يؤصل مفهوم مقولة دورة الكمال التاريخي بمراحلها الثلاثة أستطراداً مع معتقد سيدنا المسيح عليه السلام، وهذه المراحل الثلاثة لدى هيجل هي مرحلة المنطق، مرحلة فلسفة الطبيعة، مرحلة فلسفة الروح. والمنطق الهيجلي، كمرحلة، يتمتع بخاصيات أربكت كبار الفلاسفة، ماركس، أنجلس، دوينشر، بوليتزر، لوكاتش، لإنها لاتنفذ إلى الأشياء أو الفكر الخالص، كما أعتقد هؤلاء السادة، إنما تنفذ إلى الماهية حصراً وتحديداً، وتمنحها و المفهوم أبعادهما الأنطولوجية الحقيقية، وهذا هو المعنى الفعلي للصيرورة لدى هيجل. وكذلك أخطأ علماء السوفييت عندما إعتقدوا إن المنطق يلحق مفهوم الأشباء، لكنه في الصميم، وإن تسنى لنا التعبير، يلحق المفهوم دون الأشياء، لإن هذه الأخيرة تقتفي أثر المفهوم، كما تقتفي الطبيعة أثر الفكر، فالأشياء والطبيعة لاتستحوذ على ذاتها أصلاً دون المفهوم والفكر. ومايؤكد، من جانب آخر، هذه الرؤية الهيجيلية، هو إن مفهوم الضد لدى هيجل في مقولته الأساسية ( الإطروحة، ضد الإطروحة، الطباق ) لايعني النقيض كما يعتقد مجمل المفكرين، لإنه لايتضمن الإلغاء والنفي، بقدر ما يتضمن الصيرورة، أو بالأدق الحركة في الصيرورة، لذلك فإن الضد الهيجلي ليس له علة منطقية محددة أو سبب أستنباطي أو أستنتاج رياضي، إنما يبرزه هيجل وفقاً للضرورة العقلية، وكأن هذه الأخيرة هي جوهر المعادلة ( الإطروحة، ضد الإطروحة، الطباق )، أي إن التناقض الهيجلي هو ضرورة عقلية. أما فيما يخص مرحلة فلسفة الطبيعة، فإن الفكرة المطلقة بعد أن وعت ذاتها، وهي قد فعلت، غايرت بنيتها وتدنست، وأنمسخت إلى الطبيعة لتتجشم عناء مرحلة معذبة مؤلمة تماثل مرحلة الخطيئة في المعتقد المسيحي، وتحاكي مرحلة ما قبل القيامة في المعتقد الإسلامي، حيث في النهاية، تلك النهاية التي على الأرجح لن تأتي، تغاير الفكرة المطلقة طبيعتها مرة أخرى لتستعيد بنيتها الأولية لكن في صورة أرقى نسميها وفقاً لذهنية هيجل بالروح المطلقة، لتتواظب ولتستديم هذه الأخيرة على خط حسابي مستقيم جاف بليد تافه إلى أن يولد هيجل جديد لينبئنا بما ستؤول إليه الأمور. وإلى أن يولد هيجل جديد، لامناص أن نعترض على هذا التصور الهيجلي. الإعتراض الأول : يؤمن هيجل بوحدة الفكر والوجود، وينتقد بشدة فرضية شيلينغ في فلسفة الوحدة، ويستعيض عنها بتصور فحواه إن الأصل في الفلسفة هو مبدأ الوحدة والتمايز، لإنهما ضدان ديالكتيكيان، فلا وحدة دون تمايز كما لاتمايز دون وحدة. والوحدة، حسب هيجل نفسه وحسب منطق تفكيرنا، تتضمن على الأقل، على عنصرين يتمايزان، إن لم يتضادان، أو يتناقضان، وإذا تم التمايز ما بين الفكر والوجود في الوحدة الهيجلية، والتمايزهنا ليس مضموناً حسابياً كما سيتوهم البعض، إنما هو تمايز في الماهية والمفهوم، فكيف نصنف الفكر؟ هل هو اللاوجود كنقيض للوجود في هذه الوحدة؟ أم هو إثبات آخر كمعارض له؟ وفي الحالين نستنبط أستنباطاً مزعجاً مربكاً لهيجل هو إن الفكر يمتلك بنية مغايرة لبنية الوجود، وهذا مردود وخلف و مستحيل حسب منطق هيجل نفسه في طرحه مفهوم الفكر. الإعتراض الثاني : والوحدة كمفهوم هيجلي تحتوي بالضرورة على عنصرين، هما هنا الفكر والوجود، اللذان من المستحيل التطابق المطلق ما بينهما، وإلا لغدوا عنصراً واحداً، والعنصر الواحد لايؤلف وحدة. كما يستحيل أن يكون أحدهما متضمناً في الآخر، فالجزء لايشكل وحدة مع الكل، أي لابد أن يتجاوز كل واحد منهما الآخر في ( شيء ) معين ما، أي لامناص أن يتجاوز الفكر الوجود في شيء ما، وأن يتجاوز الوجود الفكر في شيء آخر ما. في الحال الأولى نحصل على فكر دون الوجود، وفي الثانية نحصل على وجود دون فكر، والحالان لاترضيان هيجل ولا أسس فريضيته. الإعتراض الثالث : رغم إن هيجل يطرح وحدة الفكر والوجود، هو لايفارق فيما بنهما، ويستكمل رؤيته في إطروحته الوجود في ذاته ولأجل ذاته، والوجود من أجل الآخر، معتقداً إن الأول يحايث المرحلة الأولى ( مرحلة المنطق ) والمرحلة الثالثة ( مرحلة فلسفة الروح )، والثاني، أي الوجود من أجل الآخر، يحايث المرحلة الثانية ( مرحلة فلسفة الطبيعة ). هذا التوافق البياني ما بين الفكر والوجود ليس له سبب آخر سوى إن الفكر، في الحقيقة، لا يغاير بنيته إنما وجوده، لذا يبدو وكأنه يقوده، وكأن الثاني مشتق من الأول، وحيث الأول يكون الثاني، لكن هذا يتعارض و مفهوم الوحدة، التي من أهم شروطها، شيء من التمايز، شيء من التماثل، شيء من الإستقلالية، شيء من تبعية النتيجة أو النتائج لكليهما، وكل هذه الشروط يصادرها منطوق الفكر لدى هيجل، ويقمعها. الإعتراض الرابع : إذا الفكر هو الوجود في ذاته أو من أجل ذاته في المرحلة الأولى والثالثة، ويغدو وجوداً من أجل الآخر في المرحلة الثانية، ألا يعني هذا إنه يفقد هويته لصالح هوية هذا الآخر الذي هو فعلاً آخروي بالنسبة للفكر، وله وجود مستقل عن وجود هذا الأخير، وإلا لما كان آخروي لكان هوي. الإعتراض الخامس : يؤكد هيجل منتقداً فيخته، إنه يستحبل إستخراج الطبيعة من الوعي، كما يستحيل إستخراج الوعي من الطبيعة. لكنه بالمقابل يزعم إن الفكرة المطلقة آنما وعت ذاتها غايرت بنيتها إلى الطبيعة التي لايمكن إلا أن تكون، حسب تعبيرات هيجل نفسه، عاطلة تافهة هامدة. فكيف يمكن لهذه المادة المائته أن تعيد الصيرورة إلى الفكرة المطلقة في المرحلة الثالثة، وتصيرها روحاً مطلقة!!. الإعتراض السادس : يعترض هيجل على كانط مفهومه، الشيء في ذاته، ويؤكد إن الجوهر مثل المظهر يخضع للتجربة، ولاشيء يستحيل على عملية المعرفة الجسورة. فهو، بعد أن يقر بالتمايز ما بين الجوهر والمظهر، لاينفي مفهوم الشيء في ذاته إلا في مفارقة واحدة مع كانط وهي إن الجوهر لايستعصى ( بضم الياء ) على البلوغ إليه معرفياً. من المحقق إن تصور كانط منقوض مدحوض، لكن تصور هيجل لايصمد للنقد أيضاً، ولاسيما إنه يؤله مقولة المفهوم التي تضفي على الشيء فحواه، هنا ليقل لنا هيجل ما هو الجوهر وما هو المظهر فيها!! وحتى في الشيء الذي يقتفي محتوى المفهوم، ما هو الجوهر وما هو المظهر!! في الحقيقة، لايوجد جوهر ومظهر للشيء، إن كنا صادقين مع مبادىء الديالكتيك، فالشيء هو كل ما يظهر ولا يستبطن أمراً، وهو ليس قادراً، أصلاً، على الإستبطان، لذا طرحنا مفهوم وحدة المختبر الذي يحاكيه هنا مفهوم جديد نسميه ( في الشيء )، فالكل يتمظهر كما يتفاعل، كما يخضع لقساوة ضرورة قوانين الطبيعة، ومعرفتنا به تلكم إشكالية إخرى، إشكالية المادة المدركة الواعية وأدوات المعرفة، ولايجوز الخلط ما بين الأثنين. الإعتراض السابع : يعتقد هيجل إن الرب المسيحي هو الذي خلق وفطر الكون، والرب المسيحي ليس إلا الفكر المطلق الذي غاير وجوده إلى الطبيعة في المرحلة الثانية، فهل الرب المسيحي خلق الكون أم إنه غاير وجوده إلى الطبيعة، أي أضحى هو الطبيعة، وفي الحقيقة أمسى هو الطبيعة، وهذا هو مفهوم وحدة الوجود، البانتئيزم الهيجلي. الإعتراض الثامن : في المرحلة الثالثة يرتقي الفكر إلى أرقى درجاته، وهو الروح المطلقة مع السعادة الأبدية، هو الخلاص الأزلي حسب التعبير المسيحي، هو الجنة والنار حسب التعبير الإسلامي، هو الشيوعية حسب التعبير الماركسي، أليس هذا هو الموت الأبدي، أليس هذا هو الإنسجام والوئام والتناغي التام في المفهوم، أليس هذا هو اللاتناقض المطلق، أفلا يتهافت مفهوم هيجل عن الصيرورة، عن الجدل اليالكتيكي، عن الوحدة والتمايز!

هيبت بافي حلبجة

[email protected]