أقترن التاريخ في الاذهان منذ القدم بالماضي وحده.وهو مفهوم لم يعد يؤخذ به في الحاضر من قبل كتاب التاريخ واصحاب المدونات التاريخية الموسوعية.لان التاريخ يعد اليوم ضمن الحركة الدائرية للكرة الارضية،هذه الحركة التي تتولد عنها الكثير من التغيرات الدائمة في السياسة والاقتصاد، الععصب المحرك لحياة الشعوب. ان الحركة التاريخية مرتبطة بالدورة الكونية منذ بداية الخلق ومستمرة حتى نهايته.وهذه الحركة هي الماضي والحاضر والمستقبل،لذا فحركة التاريخ حركة دائرية مستمرة لا تعني الماضي فحسب بل تعني الحياة كلها دون أستثناء.

ان تقسيم الزمن الى المراحل الثلاث،الماضي والحاضر والمستقبل التي ذكرت لهو تقسيم نسبي يختص بالانسان فقط دون الاشياء الاخرى.لكننا لو طبقناه على الزمن فلم نجد اية فواصل تفصل بين ما نسميه الماضي والحاضر والمستقبل.فالظاهرة متداخلة مع الاجيال التي عاصرت الفترة الزمنية وليست مع الاجيال التي لم تعاصرها بعد،وسيبقى المستقبل خافياً وراء أستار الغيب للذين سيعاصروه دون الاخرين. لان الاحداث ستبفى في جريانها لاتتوقف حتى يرث الله الارض ومن عليها. فحركة التاريخ مثلما تسرع احداثها احياً فهي تبطىء احيانا اخرى،كما يحدث للماء عندما يمر بجنادل صخرية فتضطرب مياهه وتتضارب،ثم يعاود الماء مساره الهادىء الرتيب اذا تخطى الشلال والمنحدر والجندل.،فيعود بقوته الاولى.

الدراسات التاريخية اليوم لا تفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل، فالمنهج واحد لا يعترف بالتجزئة،وبالحدود الزمنية،اذ لا شيء ينقضي الى غير رجعة،ولا ينتهي بأ نتهاء زمانه،فلا زلنا ونحن كبار السن نحمل طفولتنا معنا،وكذلك الانسانية،فتجارب الماضي لا زالت حية في كياننا.
ان المؤرخين يدرسون الماضي على انه تجارب الامم الباقية لا التجارب الزائلة،فكل كائن حي هو عضو في أسرة الاحياء التي بدأت مع بدء الخليقة.

ان دراسة الحاضر عند المؤرخين اليوم هي صورة الماضي التي وصل اليها المجتمع ndash;اي مجتمع-في سيره مع الزمان.. من هنا اعتبرت السياسة للامم والشعوب هي سياسة الماضي التي بها كونت علاقاتها مع بعضها البعض،وهي مجموعة النشاطات التي قدمتها الامم عبر مسيرة الزمن سواءً كانت سياسية او اقتصادية او زراعية او غيرها. لذا اعتبرت مراكز التخطيط للدول اليوم هي عبارة عن سجلات لتاريخ المستقبل المنظور للشعوب..

هذه الدراسات وما تفرع منها والتي تزعمتها الجامعات الاوربية والامريكية هي التي دعت الى التخصص الدقيق في مجالات المعرفة الانسانية المختلفة لبناء الخارطة العامة لدراسة العلوم، رغم كونها كل لا يتجزء.فكتابات المؤرخين في نشأت الدول وسقوطها ترسم لنا صورة حقيقية لما جرى في الماضي وكأننا نعيشه في الحاضر،فكأن ما يكتب عن الماضي نحن بحاجة ماسة لمعرفتة لصياغة الحاضر وان أنقضت عليه مئات السنين،هذه التوجه العلمي في منهجية التخصص هي التي دعت بعض المؤرخين ان يعتقدوا ان كل التاريخ تاريخ معاصر.
وفعلا ان ما كتبه المؤرخ الكبير شبنكلر وغيره من معاصريه هو التاريخ للماضي بصيغة الحاضر،لكون ان ما كتبوا فيه من احداث ومشاكل انسانية عامة قد اهتمت بكل البشر حتى في الحاضر،مما دعانا الى ان نعيش الحاضر مثلما عاش السابقون حلقات الماضي بكليتها،اي ان حياة الشعوب في الماضي اصبحت تهم كل انسان في كل عصر.

ولا نفتصر الدراسة على المؤرخين الاوربيين وانما اخذ هذا المسار مؤرخينا من قبل ايضاً،امثا ل المؤرخ محمد بن اسحاق المطلبي ومحمد بن عمر الواقدي في القرنين الثاني والثالث الهجريين حينما كتبوا السيرة النبوية العطرة واعمال الرسول،فمن خلال قراءتك لما كتبوا تجد ان سيرة الرسول(ص) واعماله حية تجري بين ايدينا. وحية في كياننا نعيشها في كل يوم.هذه الدراسة هي التي جعلت مكانة السيرة واعمال الرسول (ص)مقدسة بنظر المسلمين وغيرهم،لما اتصفت تلك السيرة بالاستقامة والعدالة في تنفيذ حقوق الناس، وكمتطلبات للمجتمع.فالنظرة المقدسة للرسول جاءت متطابقة لواقع معاش في الماضي يجسده الحاضر.

هذا التوجه المنهجي في الدراسات التاريخية المعاصرة هي التي تفسر لنا مدى الاهتمام بمشاهدة الاثار التاريخية والمتاحف الحربية لاحساسنا بوحدة العمل الانساني ووعينا النفسي بوحدة الحضارة الانسانية. وتجعلنا ايضاً نحسُ احساسا انسانيا اخر،فالاوطان تحتاج لمن يترك بصماته فيها،لا الانسان الذي يستنزفها دون مشاركة حياتية فيها.فالاول يبقى موجودا على مدار الزمن،والثاني مفقودا وكأنه لم يولد ويعيش فيها،والفرق بين الاثنين كبير. ان مشاركتنا بجهودهم وافكارهم في التجربة الانسانية المتصلة مع الايام هي وجودنا الذي لا يمحى من الذاكرة،وهذه هي الوطنية، لا مجرد ناس نسعى لقوت اليوم.ان الذين يعيشون ليومهم من البشر دون الالتفات للزمن هم جماعة اوفئة لا تعيش التاريخ وانما تعيش اليوم،فحياتهم ايام متكرره بلا تاريخ،ويموتون ولا ذكرلهم قي تاريخ البشرية،فهم يتشابهون مع الحيوان والشجر ينتهي تاريخهم بأنتهاء يومهم الذي مضى.

ان من يزور المتاحف المصرية ومتاحف اللوفر الفرنسية وحدائق بابل المعلقة وسور الصين العظيم يشعر وكانه عاش التجربة الانسانية الماضية بنفسه ويواصلها اليوم بجهده،من هنا فأن الاهتمام بدراسة التاريخ تعتبر مظهراً من مظاهر حيوية الانسان ووعيه ومكانته ووظيفته الانسانية ودليل حي على مشاركته الانسانية بجهدها الذي خلفته للبشرية.

هذا المنهج التاريخي الرائع يجب ان يدخل مناهجنا العلمية والانسانية ليتربى الطالب عليها في علاقته مع الماضي، فتجربة انسانية الرائدة لها احترامها وقدسيتها الحياتية دون ان نجعله يشعر بالقداسة المظهرية دون ايمان بالبشرية جمعاء.من هنا ان التراث عندنا مقدس دون معرفة تلك القدسية بشموليتها الانسانية،حتى بدأنا نفرق بين ما عندنا وبين ما عند الشعوب الاخرى. وهذا ما نلمسه حقا عند الشعوب الاخرى التي ورثت تراثاً ضخما دون ان تشعر اجيالها بالتقديس مثلما اشعرتها بتجارب الشعوب الحية للانسانية جمعاء،فازالت من نفوس مواطنيها الحقد والبغضاء والنفرة من تراث الاخرين،وهذا هو المنهج الصحيح.
هذا التوجه القاصر في المنهجية لدراسة التاريخ عندنا نحن العرب والمسلمين يدل على قصور في ادراك معنى التاريخ ومعنى العلم كله، لأن الاخبار ليست مجرد كلام مدون في الكتب،بل هي تجارب،والتجارب تبقى حية بثمراتها دون ان يكون شاهداً عليها بالضرورة.من هذا المنطلق جعل المؤرخون يصفون اية امة مضت دون ان تخلف أثراً حضاريا تعتبر بالفعل وكأنها امة ماعاشت لزمانها ابداً كما في المغول حين اجتاحوا العالم ودمروه وجعلوه بلا حضارة تكتب،ولكن حين أعتنق المغول الاسلام تحولت همجيتهم الى حضارة في ايران والهند والعراق،فالحضارة هنا لم يبنيها المغول وأنما بناها الاسلام المغولي،وهذا هو الجزء الوحيد الباقي الذي وجد في تاريخهم على حد قول المؤرخ الكبير المرحوم حسين مؤنس.

د.عبد الجبار العبيدي

استاذ اكاديمي
الولايات المتحدة الامريكية
[email protected]