منذ إعلان خسارة فاروق حسني وزير الثقافة المصرية وفوز وزيرة الخارجية البلغارية السابقة ايرينا جيورجييفا بوكوفا بمنصب مدير اليونيسكو، تقيم الصحافة المصرية ويقيم التليفزيون المصري ما يشبه حفلة quot;زارquot; لطرد الشياطين التي تلبست وزير ثقافتهم، شياطين quot;المؤامرةquot;، وquot;الصهاينةquot;، quot;صراع الحضاراتquot;، quot;الأمريكانquot;، وأخيرا quot;شياطين الاتحاد الأوروبيquot;، فـ quot;وجه المخطوف من الصدمةquot;، وحالته المزرية التي ظهر بها عقب عودته، وأحلامه التي لم يحققها للثقافة المصرية طوال 22 عاما، quot;خضتquot; كتابنا وإعلاميينا على الوزير، ورأوا أن اللوبي الصهيوني الأمريكي الأوروبي حتما quot;سلط عليه شيطانا أو جنيا تلبسهquot;، ولابد من إخراجه ورجمه.
قرعت الطبول، وضربت الدفوف، وانتهكت الأوراق والأقوال، وتمايلت الأقلام يمينا ويسرة من هول المصيبة حتى سكرت ولم تدر ما تقول.
ووسط الحلقة ـ حلقة الزار ـ صاحبنا الملبوس، يرقص على إيقاع الطبلة والدف بلا وجهة، ويهلوس بكلام quot;لا حول ولا قوةquot;، لقد شل السقوط تفكيره فتوهم أنه لا يزال لديه أوراق يلعب بها، لقد خسر الداخل ـ دعك من مثقفي البيزنس الذين يستنفعون بوجوده والذين يتحلقون حوله ـ كما خسر الخارج بعد أن تأكد أن ولاءه للغرب لم يأت بما أراد.
22 عاما لم يشتغل فيها حسني إلا بتكسر عظم الثقافة المصرية، اعترض من اعترض دون فائدة، ونببه من نبه بلا طائل، وحذره من حذر بلا جدوى، ولى منافقيه ومحاسيبه ولصوصه من ذوي الولاء المناصب، ورفع سيف المنح والمنع في وجه كل من تسول له نفسه التجرؤ على انتقاده من الكتاب والمثقفين والمبدعين، وأصبح شغل الإعلام المصري الشاعل هو الكشف عن السرقات التي تتم في وزارته والمسئولين الذين يتم إحالتهم للنيابة ثم للسجن، لكن الإعلام سرعان ما ينسى.
وسط كل هذا الضجيج والضوضاء لم يخرج من يسأل حسني عما قدمه للثقافة المصرية؟ لم يسأله أحد عن أقواله التي صرح بها وأهان فيها المثقفين المصريين؟ لم يسأله أحد أين المسرح؟ أين السينما؟ أين المواهب التي احتضنتها وزارته؟ أين ثقافة وزارته من الشعب المصري الذي لم تعد له علاقة بالكتاب ولا مؤلفه ولا مكان وجوده، لم تعد له علاقة بقاعات الفن التشكيلي وفنانيها، ولا بتاريخهم الأثري ولا مواقعه وهلم جرا؟ المكتبات العامة خاوية على عروشها، المؤتمرات التي تقام هنا وهناك مجرد ديكورات quot;فك وتركيبquot;، أضف إلي هذا كارثة الحواجز الأمنية التي تطوق الفعاليات الثقافية، إن محكى القلعة الذي أقيم خلال شهر رمضان كان على الزائر حتى لو كان ضيفا مشاركا في فعالية أن يمر بثلاثة أو أربعة حواجز أمنية تفتيشية، ولا أحد ينسى معرض القاهرة الدولى للكتاب الذي يصبح أشبه بسكنة عسكرية.
لقد خرج الإعلام المصري خلال الأيام الماضية ليدافع عن فاروق حسني، دون أن يدافع عن الثقافة المصرية ويطالب بحقها في وزير يحقق لها مكانتها الثقافية التي كانت وستظل بفضل مثقفيها الحقيقيين الذين يعملون في الظل الثقافة القائدة، خرجت تنوح بكلام لم يعد له معنى حقيقي لأنه غير حقيقي بالفعل، كلام عن صراع الحضارات والأديان، ونظرية المؤامرة، وما شابه.
لم ينح أحد على مصر التي أهينت بسقوط حسني وفشله، لم ينح أحد على مصر محمد على وإبراهيم باشا وسعد زغلول وعبد الناصر، ومحمد عبده والعقاد وطه حسين، والشيخ المراغي وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ونجيب محفوظ والبرادعي وزويل، لم ينح أحد على مصر الحضارة الإنسانية الأولى في تاريخ البشرية والتي لم يعمل حسني لصالحها يوما منذ تولى الوزارة، ولكن ناحوا على فاروق حسني quot;ابن النظام المدللquot;.

محمد الحمامصي / القاهرة