ما تعلمناه عن الفن الإذاعي لا يتغير بتغير الظروف. فقواعد اللعبة الإعلامية ثابتة إلى حد كبير. وما أضافته وتضيفه التكنولوجيا المتسارعة إلى وسائل البث المرئي والمقروء والمسموع لا يمس جوهر اللعبة. فأي جهاز إعلامي يجاهد من أجل الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من البشر، والغرض واحد، هو تمرير فكرة أو عقيدة أو إعلان عن بضاعة أو عن خدمة أو أي شيء آخر. ومن أجل هذا الهدف يعمد المخطط الاستراتيجي في الجهاز إلى اعتماد وسائل وأدوات تساعده على تحقيق الهدف. وأول تلك الوسائل وأهمها ما نسميه (الجسور المساعدة)، وهي عناصر إغرائية توضع في الهيكل العام لاصطياد المتلقي وتحضيره لتلقي المادة المخبوءة وراء تلك الجسور. وتتنوع هذه الجسور وتتعدد باختلاف طبيعة الجهاز الإعلامي، وتبعا لمهارة قائد الجهاز الإعلامي كذلك. ففي الإذاعة المسموعة - مثلا- قد تكون تلك الجسور أغنيات أو معزوفات موسيقية تعجب أوسع الشرائح البشرية المستهدفة، ومن جميع الأعمار، أو قد تكون تمثيليات كوميدية أو ميلودرامية مشوقة، أو حوارات مثيرة مع شخصيات عامة يتشوق الناس إلى معرفة اهتماماتها أو آرائها أو خبايا حياتها العامة والخاصة.

ونفس الشيء نجده في محطات التلفزيون، مع ما توفره لها الصورة والألوان والإضاءة والفنون التشكيلية من وسائل تشويق وإغراء، بالإضافة إلى الفقرات المغرية الأخرى كالأغنية والرقصة والنكتة والقفشة التشكيلية وبرامج المسابقات والمناقشات المباشرة المنقولة على الهواء، والأبراج، والمطابخ، إلى غير ذلك، وهو كثير. والجريدة تعمد لنفس الوسائل الجاذبة لاهتمام القاريء، كالخبر الطريف النادر والصورة المثيرة والمعلومة المسلية لتحقق أوسع ما يمكن من انتشار بهدف إيصال رسالتها الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية أو العقائدية أو أي شيء آخر، حسب طبيعة أهداف مالكيها ومحرريها.

ولابد من مراعاة التوازن الدقيق بين تلك الجسور وبين المواد المطلوب تمريرها، فلا يطغى هذا على ذاك.

إن الذي دفعني إلى هذا الكلام هو ما تفعله إذاعة (سوا) الأمريكية من أمور غريبة غير مقبولة وفق مقاييس المهنة المتعارف عليها في الإعلام.

فلا قواعد عمل واضحة في تخطيط برامج هذه الإذاعة، ولا أهداف محددة ملموسة وبينة. وأقرب ما يمكن إطلاقه من صفات على ما يفعله القيمون عليها هو الطيش المطلق وانعدام الهوية. فهي لا تقدم سوى نوع واحد من الأغاني القصيرة الخفيفة غير الطربية، مع مواجيز أخبارية قصيرة جدا ومختصرة إلى أبعد الحدود.

فلو اعتبرنا الأغاني العربية والغربية التي تذيعها إذاعة سوا جسورا مساعدة فإن (أخبارها) لا تستحق أية جسور. فبعد رصد رقابي طويل ومحايد لتلك المواجيز الإخبارية لم نجد ما يدخلها في خانة الإذاعات الموجهة سياسيا، من نوع تلك التي تندرج، ضمن نظرية المؤامرة، فتخلط السم بالدسم. فليس في إذاعة سوا سم، وليس فيها دسم، كذلك. فأخبارها مبرأة من شبهة التوجيه الملغوم الهادف إلى إشاعة نوع معين من الأخبار الموجهة، وتوظيفه لخدمة أهداف سياسية معينة.

وبهذا لا تصبح سوا إذاعة خبرية. بالمقابل لا تجعلها الإغاني التي تذيعها إذاعة غنائية ترفيهية متخصصة. فهي لا تقدم ألوانا متنوعة من الغناء تستهدف إرضاء أذواق شرائح واسعة من المستمعين العرب، من مختلف المستويات العمرية والثقافية والبيئية والمناطقية. بل هي فقط تذيع قلة من الإغاني القصيرة، والكررة يوميا تقريبا، لمطربين ومطربات لا يتجاوز عددهم اًصابع اليد الواحدة. وهي لا تعلن عن أسماء مغنيها ولا كتاب كلماتها ولا ملحنيها. وهي بذلك تغبن حقوق مسمعيها وحقوق المطربين والشعراء والملحنين. كما أنها لا تقدم أية دراسات وبرامج وثائقية عن قضايا موسيقية أو غنائية، ولا تثير نقاشات حول مسائل غنائية أو موسيقية، ولا تستضيف شخصيات معروفة بعلاقتها الأكاديمية في الغناء أو الموسيقى. باختصار، هي إذاعة خالية من لون أو هوية، وخالية من أي هدف نافع في أي مجال.

وغير مفهوم ولا مبرر، مهنيا على الأقل، تكرارها أغاني القلة القليلة جدا من المطربات والمطربين الجدد، مرات عديدة في اليوم الواحد، ولأشهر عديدة.

وفي هذه القلة من الأغاني نجدها مصرة على إذاعة أغاني بلد واحد هو لبنان. وحتى لو اعتبرناها إذاعة غنائية لبنانية، أساسا، فهي لا تختار للمستمعين أغاني نجوم كبار من مطربين ومطربات، أمثال فيروز ووديع الصافي وصباح وعشرات غيرهم، من لبنان نفسه تربت على أغانيهم وموسيقاهم أجيال من العرب واللبنانيين. كما أن بعض أغاني الشباب اللبنانيين الجدد التي تصر إذاعة سوا على إذاعتها كل يوم جميلة، ليس في ذلك شك، ولكن تكرارها أكثر من المعقول والمقبول يجعل المستمعين الشباب يملون سماعها ويكرهون أصحابها.

أين أغاني مطربين ومطربات مهمين وناجحين لا يقلون أهمية عن المطربين اللبنانيين، من مصر والعراق والأردن وسوريا وتونس والمغرب والكويت وأبو ظبي والسعودية؟ ألا يستحقون بعضا من احترام منسق أغاني إذاعة أمريكا العربية؟

والأقرب إلى الظن أن الدافع الوحيد لتكرار أغاني محددة لبضعة أسماء محددة من المغنين والمغنيات هو الذوق الشخصي لمنسق الأغاني، أو بدافع الشللية أو الصداقة مع أصحاب تلك الأغاني، أو مع بعض مستمعيها. فلا يمكن تفسير بث أغنية واحدة لهيفاء وهبي أو أليسا أو نجوى كرم - مثلا- عدة المرات يوميا، وعلى مدى شهور عديدة، في الوقت الذي تفرض المهنة على من يجلس في مقعد قيادة الجهاز الإعلامي أن يجاهد كثيرا من أجل اعتماد أذواق الآخرين في عمله، وإبعاد ذوقه وثقافته ورأيه وعلاقاته الشخصية إلى أقصى الحدود الممكنة.

ملاحظة أخرى. لا أرى أن منسق الإغاني في إذاعة سوا مثقف موسيقيا ولا لغويا ولا مهنيا. فهو يختار أغاني فيها خلل لغوي أو موضوعي أو ذوقي أو أخلاقي، ويظل يلح بتكرارها على الآخرين. فليس معقولا أن تذيع إذاعة الكونغرس الأمريكي أغنية لنوال الزغبي تقول:

واللي يفكر يجرحك

باخلص منه، بقتله.

أو أغنية نجوى كرم:

إلك من قلبي ثلاث ارباعه

والربع الباقي ممنوع

طبعا مع ملاحظة أن منسق الأغاني في تلك الإذاعة معجب جدا بمغنين أصواتهم مريضة ومصابة بالحشرة أوالعجز أوبالعيوب الصوتية الأخرى، ولا حاجة لذكر الأسماء.

ولو كانت (سوا) إذاعة محلية في مدينة عربية ومحدودة الانتشار لما شغلت نفسي وأنفقت وقتي وشغلت إيلاف وقراءها بالكتابة عنها وعن مساوئها وأخطائها وعبثها بالذوق العربي العام. لكنها، وبفعل الضغوط الأمريكية التي أجبرت دولا عربية عديدة على السماح لها بإقامة مرسلات FM في أجوائها، أصبحت إذاعة عربية شاملة تبث في مدن عديدة من مدن العراق ولبنان والأردن والمغرب ودول الخليج، الأمر الذي جعل منها قضية عربية عامة، مهنيا على الأقل.

السؤال المشروع الذي يطرح نفسه، هل الكونغرس الأمريكي مدرك لخطورة ما يرتكبه نفر من الموظفين العرب، باسمه وتحت غطائه، من عبث وتخريب وحرق الأموال الطائلة دون جدوى ودون هدف معقول؟

وهل يعلم أن هذا النفر من الموظفين يفتقر إلى الخبرة الإذاعية، وإلى الأصول المهنية وقوانين الإعلام؟ أم إنه متقصد، عن سابق إصرار وتصميم، تسميمَ الذوق العربي العام وتسطيحَ الشباب وتلويثَ سمعة أمريكا.

د. آمال ابراهيم