عبد الجبار العتابي من بغداد:
كنت اعرف..
ان هذه النار وحدها
ولا صلة لهذا الحريق بـ (روما)
لا صلة لهذا الظلام بأحد
ترى..
كيف عثرت على الليل لاول مرة؟
واين انكسرت؟
- الاخطاء رمال تتحرك
ولا اعرف اين!
هكذا.. يبتديء الشاعر جمال جاسم امين مجموعته الشعرية التي تحمل عنوان (الاخطاء رمال متحركة) الصادرة مؤخرا عن رابطة البديل الثقافي في محافظة ميسان، والمزين غلافها بلوحة للفنان جواد سليم، والتي تضم بين غلافيها (53) قصيدة من الشعر الحديث، انه يبدأها بالحديث عن مأساة، يمسك بزمامها لغم الظلال التي يغطيها بها، وسرعان ما يعترف انه يعرف اسرارها، لكنه لم يبج بها، وان كان يقول انه لايعرف مكانها، مكان ما حدث له وهو لجة الحريق، الذي كان ومن خلاله تكونت الرمال المتحركة، انه يتحرك على الرغم من انه يجد ان لا يرى سوى الاخطاء تتحرك مثل رمال متوحشة، هذه المجموعة كتب لها مفتتحا مؤثرا حمل عنوان (ذكرى قصب) قال فيه:
نحن القرويين العزل
عندما لانجد فسحة للرعاة
ننظر الى الناي..
على انه ذكرى قصب
انها صورة تمثل (عتبة) المجموعة، ولنا ان نتخيل الوجع المتصاعد دخانه، حين تضج النفس بأوجاعها ولا تجد سوى تتعامل مع القصب على انه قصب، وليس كما هو في حقيقته المصنوعة بين يدن رعاة الغنم الذين لا عزاء لهم الا بالناي وانينه، انه يغمس روحه في غياب اخر لايعرف منه سوى مادة اولية لا تؤدي واجبا.
في المجموعة رسم الشاعر اوجاعه وحكايات نفسه وتأملاته، ينظر للاشياء في نفسه ومن حوله ويحاكيها بايجاز ويلبسها لبوسا كما تشتهي نفسه وما يفور في ذاته، ففي ذات القصيدة التي حملت عنوان المجموعة ووضعها على اول الطريق الى قصائده، كان يقف فعلا كـأنما هو يحسب ما مضى ويشعر ان الاخطاء التي ارتكبها هي رمال متحركة ابتلعت امنياته وطموحاته واغنياته التي كان يلوح بها لسنوات عمره، ليس هنالك من وجع حين يكون المرء قابلا للابتلاع ويعلم بذلك، انه يقول:
وفي السنوات التي كانت تمر..
وانا واقف مثل حارس حدود
لم اتعلم من المهربين الكبار.. كيف اهرب حياتي
وها أنذا الان
كلما هزني ظمأ في صحراء
تذكرت انها اخطائي /
هذه الرمال التي تتحرك!
، وفي قصائده الاخرى.. يقف الشاعر امام العديد من الاشياء فيرسم لها لوحات معبرة، يحاول الانسلال فيها الى اللحم الحي لها، من خلال الوصول الى نقطة مظلمة يجعلها تتحرك لتصبح مساجتها واسعة وتملأ صدره، فهو يشير الى الحرب ويستذكر العمر في لحظة كأنه لا يريد ان يجد نفسها فيها:
كأسا..
تعصر العمر على قرص خوذة
يبزغ الليل دامسا
ويذبل الصوت في النداء: ايها الحرس
وتتوالى حكاياته التي يدفع اللغة فيها الى تكوين جمل يدعها تقتص من نفسه التي حين ترفع رايات تذكرها تسقط في العتب والغضب الواضحين رغم سلاسة تكوين اللحظة الشعرية:
على شرفة..
للطفولة
لا تصلح سوى مشجب للتجاعيد
اغرز دبوسا للذكرى
وسأذكر غفلتنا
ففي قصيدته (سياج الصعاليك) يقول:
(المدينة..
في الليل تصغر اكثر
والواقفون على سياج القلعة
يضبطون مواقيتهم على ساعة الخمر)
ومع كل قصيدة نجده يتدرج في قول اوجاع والتحدث عن حقيقة كانت موجعة، من خلال سرد وقائع ينثر روائحها فقط عبر لغة سلسة ويترك لنا النظر والا كتشاف لعوالمها.
ولانه يعرف ان ثمة رمال تتحرك على
طول سنواته السابقة وعبر قصائده، كأنه يعود الى ما نشر من شعر له في مجموعتين سابقتين، تحمل الاولى عنوان (سعادات سيئة الصيت) والثانية (لا احد بالنتظار احد) فهو يقاسي، وما يقاسيه في هذه المجموعة امتداد للسابقتين بل انه معاناته تبلورت اكثر ومنحها صفاتها، لذلك تجد في قصائدة كلمات قاتمة مؤثرة او لنقل سلبية: (بعد صبيحة من الموت / كانت المعابر عرجاء / والجسور انفرطت احشاؤها / مثل شجرة قاسية / بينما المارة يتسلقون اغصانها الباردة / بمهارة قرد،) وتجد هذه الكلمات واضحة على صدور القصائد كأنها تحملها كالاوسمة: (غبار المسافات /ذاكرة تتعرى / شجر اعزل / حفيف من الاكاذيب / لائحة للخسارت / المرايا عمياء/ زهو خاسر/ خيبة الزهور/ جنون لا ينضب...) وهكذا في كل قصائده، وهي تأتي محملة بالتعبير عن سرد نفسي لاتسعه الورقة، تراه يبدأ غاضبا ويتعالى غضبه وفي النهاية يرمي (الحسرة) التي تضطرم في قلبه فتشعر انه استراح لكن ان تأملت ستجده جاثيا وما زال في صدره الكثير من الحسرات، وسأتوقف امام قصيدته (بطء) التي يقول فيها:
لقد سئمت هذه العربة:
المحطات البعيدة لاتهادن
والخيول..
لا تسبق غباره
ثمة كسل لاينشط بالكلمات
الكلمات وحدها لا تسد مجرى الخطايا
الكلمات..
هي الخطايا
كل ضوء ndash;هنا- خادع..
حتى المصابيح/
المصابيح..
كذبة الظلام المشتعلة ابدا