احمد حسين: اسطورة المكان والرحيل... ملحمة الحب المكبل بالتقاليد... المكان الذي اسس تقاليده وحفره في وجه بغداد ثم رحلة الهجرة من الريف العراقي الجنوبي الى بغداد وتكون تجمعات سكانية وتحولها الى مدينة ساهمت بشكل فعال في صنع تاريخ بغداد..الثورة اسم المدينة التي وزعت الاراضي فيها على الفقراء النازحين في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم..ثم صار الاسم الرسمي لها مدينة صدام ثم بعد التغيير في 2003 مدينة الصدر..واضح ان عناوين التغيير تتجلى بهذا المكان وتسمياته.. شخوصه الذين صنعوا تاريخ الازقة الضيقة فيه واحلامهم وتاريخهم كل ذلك هو الثيمة الاساسية لرواية عبد الله صخي (خلف السدة)... الهامشيون... المنسيون هم اشخاص التقطتهم ذاكرة الكاتب بمهارة وحنكة صياد ماهر انتظر طويلا ليخرج الى النور عمله الروائي الاول بعد ان عاش غربة طويلة عن المكا ن نفسه...المكان الذي ظل حاضرا بمشغل الذاكرة الابداعية طوال اكثر من 30 حوالي سنة هذه الشخوص والحكايات عن المدينة تحولت بعين الشخصية الرئيسة (علي) الى التقاطات بتقنية سردية متاثرة الى حد بعيد بوظيفة الكاتب وهي الصحافة بل انك ترى بالرواية فصولا صغيرة اشبه بالتحقيقات الصحفية كتبت بعين خبيرة متمتعة بما ترى في مخزن الذاكرة ومحسنة لاستخدامه في المشغل الابداعي...اذن المكان هوالبطل في هذه الرواية والشخوص ادوات مكملة لبطولة المكان او بطولة الرحيل...مهاجرون جنوبيون حملوا امتعتهم القليلة ومتاعهم البسيط واحلامهم الى بغداد المكان الامل..بغداد الحلم بالمدنية..بغداد التي طالما بناها مهاجرون وخربها غزاة ليبنيها مهاجرون تارة اخرىو يؤلفون عمودها الفقري وطعمها المميز عن كل المدن القديمة..
الرحلة في الرواية ليست الرحلة في الواقع اضفى عليها الكاتب اسطورة الذاكرة والوهم الخلاق وظف في ذلك الموروث الشعبي العراقي واعتمده من العبارات الاولى للرواية في خطة واضحة لجعله بنية مولدة للصور المتلاحقة لواقع اقرب للخيال من فرط قسوته... الشعبي بكل خرافاته الضرورية لحياة الشخوص..امرأة يوقظها زوجها ليلا لانه رأى السيد الذي قاد الرحلة واوصلهم للمكان...السيد هو الغائب الحاضر في كل فصل من فصول الرواية ظله موجود ومعادله الواقعي موجود بوضوح...الرجل يرى السيد بالمنام فتستلم زوجته اشارة ولادة الصبي علي وهو الذي يتحول الى الشخصية البطل بلا بطولة... بطل عادي..يحب الجارة بدرية فيما بعد..تقرأ الرواية وتحس انها تخصك شخصيا تدون حياة ابيك او حياتك... او حياة صديق لك..الشخوص تعرفهم وتتألم وتفهم خوفهم واحلامهم وتاريخهم رغم الاشارات القليلة الواردة في سرد الرواية عن تاريخ كل منهم... شيفرة خاصة تجمعك معهم شيفرة المواويل الحزينه والطبول غير المفهمومة والطيبة الجنوبية التي تقاوم الرغبة بالنسيان..نسيان الفقر والطين والبقر والارض..نسيان مفردات الريف..السيد جار الله جاء ليؤسس ويذهب الى الغياب وهو المعادل لشخصية الزعيم الذي اسس المدينة في مابعد وذهب للغياب بعد مدة قصيرة ليتحول الى اسطورة وهي الطريقة التي يعالج بها الشخوص الجدث السيد جار الله انبعثت منه رائحة طيبة حين مات وتحول قبره الى مزار لم تغيبه الجرافات الحديثة ولم تنل منه الحرائق القوية التي اجتاحت المدينة.والزعيم الذي وزع الاراضي يقتل وتغيب جثته لتظهر صورته في القمر تارة وعلى المقتنيات الثمينه للفقراء وفي الحكايات الشعبية بانه مازال حيا حتى الان وقد رأه احدهم يقوم بجولاته التفقدية حتى بعد موته بسنوات...
ان استخدام المكان والخصائص المحلية الملتصقة به جاء هنا ساحرا وجديدا كل الجدة جعل العمل يباري اعمال عالمية اعتمدت المكان واسطرته كثيمة اساسية لها..رواية لتاريخ المدينة مدينة اشكالية تأسست بقرار عاطفي من رجل حالم وقريب من البسطاء بحسه وروحه وربما بانتمائه الديني الذي كان مؤثرا في ودجوده الواقعي ووجوده في العمل الروائي..
لا ادعي دراسة الرواية نقديا هنا بل اسجل قراءة انطباعية لاني اعتقد انك لتقرأ رواية اي رواية وتريد الكتابة عنها تحتاج الى اوراق ووقت هو اطول من وقت واوراق الرواية ذاتها.وبانطباعية اقول ان هذه الرواية تجبرك على اكمالها ومتابعتها وشأنها في ذلك شأن اي عمل كبير ومهم يفجر برأسك اسئلة كبيرة اجتماعية ودينية وتاريخية ويدعوك الى تفحص تاريخ امكنة الطفولة ينقلك الى تاريخ تاسيس مكان ضاج بالمفاجأت من كل نوع..وتاريخ ابطال...سياسيين..شقاوات...فنانيين ابرياء مجرمين تقرأ اول السطور واخرها وتدرك انها رواية ربما تكون من الروايات القليلة التي ستفتح عالما حديدا لابداع عراقي مهم..وربما لم يكن مغاليا ومجاملا احد الادباء حين قال اننا على اعتاب اكتشاف ماركيز عراقي جديد وواقعية سحرية عراقية جديدة.
رواية خلف السدة تعري وتكشف النسيان..النسيان التي اسهمت به ظروف سياسية واجتماعية كثيرة مرت بها المدينة..المكان الاهم في تاريخ بغداد..رواية تبشر بكاتب روائي مهم جدا ربما سيتحفنا باعمال مهمة لاحقة..خاصة بعد زيارته للعراق بعد فراق طويل وربما استقراره هناك..!!
يقول ميلان كونديرا ان الرواية هي مبدع اوربا واكتشافاتها تنمي لاوربا المكان وان اختلفت اللغات
وتعددت.. والعراق اليوم بحاجة للرواية المهمة لكي تستشرف صورته القادمة وتصنع الرءوية لمستقبله فهل يكون عبد الله صخي الروائي الرائي هذا مايوحي به عمله الاول الذي اتمنى ان يقرأه كتاب السيناريو العراقيون جيدا علهم يجدون فيه فلما عراقيا يدون لمرحلة تاريخية مهمة ولمكان مهم...
المعروف بأن الفن العراقي الروائي شكله المستقر الابعد الحرب العالمية الثانية وجاء تناول موضوعة الريف في العراق واحلام وتطلعات الجنوبيين باشارات في اعمال متفرقة عراقية متفرقة
رواية (الدكتور ابراهيم ) ذي النون ايوب عام 1939
في سبيل الزواج لمحمود السيد 1921
في الفرات الاوسط لمحمد حسن النمري عام 1931
علي الشبيبي 1936 في رواية رنة الكاس
ثم يحيى عباس في الثالوث عام 1953
عبد الله حلمي ابراهيم في فتاة الريف عام 1957
هذه الروايات العراقية تناولت موضوعة الريف وجعلتها محور للحدث والسرد وبالتاكيد ان هناك الكثير من الاعمال الروائية اللاحقة على يد روائيينا الكبار..الامر الذي يحتاج الى دراسة منفصلة لكننا نلمس من هذا التتبع بان عصر الرواية العراقية قادم وان الامل كبير بوجود مبدعين روائيين عراقيين استطاعوا حصد جوائز مهمة في مسابقات اقليمية وعالمية سيكون عبد الله صخي اسما بارزا فيها...فهل يكون صخي ماركيز العراق الجديد...هذا ما نتمناه على الاقل!!!
رواية خلف السدة _ رواية للكاتب عبد الله صخي صدرت عن دار المدى نهاية عام 2008
منذ نهاية الخمسينات الماضية وعلى مدى ربع قرن حملت الموجات المتواليية الالاف المهاجرين من الجنوب الى ضواحي بغداد..