عبد العزيز جدير من المغرب: نظم بهولندا، مؤخرا، مهرجان كانت وراءه دار نشر (neuiwamsterdam) أطلقت عليه (crossing border)، quot;ما وراء الحدودquot; ودعت إليه كتابا من جنسيات مختلفة بمناسبة ترجمة أعمالهم إلى اللغة الهولندية ونشرها للاحتفاء بهؤلاء الكتاب وتقديم أعمالهم بحضورهم وتنشيط لقاءات مباشرة مع الجمهور ثم توقيع كتبهم والحديث عن تجاربهم. الكتاب المدعوون جاؤوا من دول مختلفة: انجلترا، ألمانيا، ايطاليا والمغرب...
ومهرجان quot;ما وراء الحدودquot; ولد قبل سبع عشرة سنة وتحول إلى موعد رئيس يميز الحياة الثقافية لمدينة quot;لاهايquot; الهولندية. يقام خلال الأسبوع الثالث من شهر نونبر، سنويا. يجمع بين الأسماء الراسخة، في مجالي الأدب والموسيقى، والشباب للقاء الجمهور والحوار معه. وقد كان من بين ضيوف هذه الطبعة من المهرجان لهذه السنة محمد المرابط. الراوية والمبدع الشعبي. والمناسبة صدور كتابه التخييلي، الواقع ما بين السيرة الذاتية والرواية، والمعنون بالنكهة الفلسفية اللاأدرية: quot;مَا نَعْرَفْquot; (لست أدري) بعبارة المهجري إليا أبي ماضي. وقد سجله المرابط، كالعادة، على صفحات أشرطة ثم نقله إلى quot;اللغة الفرنسيةquot; بمعية سيمون بيير هاملان لينقله مغربي آخر مقيم بالديار الهولندية إلى اللغة الهولاندية. كأن الكتاب كُتبت عليه الهجرة كما كُتبت على صاحبه ومترجمه الهجرة من فضاء إلى آخر. الجمهور الذي عانق المرابط خلال اللقاءات التي شارك فيها نصفه من المغرب من منطقة الريف الجبلية المغربية. والريف، في المغرب، يعني منطقة جبلية تقع شمال البلد وهي التي أنجبت الثوري ذائع الصيت مبدع حرب العصابات عبد الكريم الخطابي. والنصف الآخر من الجمهور هولندي. وللجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين المغاربة إلى هولندا جريدة وقناة تلفزية quot;أمازيغ تي فيquot;. ومنهم كتاب باللغة الهولندية حظوا بنيل جوائز. وقد كتب عزيز عينان، مقدمة لكتاب المرابط المترجم وأخرى لهاملان تعيد الأفكار ذاتها التي وردت بمقدمة quot;قصص من طنجةquot; المقدم من قبل على صفحات quot;إيلافquot; والذي وضحت مقدمته طريقة اشتغال الطرفين على الكتاب.
ويرى هاملان، بنوع من الأسف، أن quot;الناس لا يستطيعون معرفة كيف نعمل. نشتغل. يعتقدون أن المرابط يتحدث جيدا الفرنسية أو الاسبانية. فهو يسرد المضمون بالعربية ثم يترجمه إلى الفرنسية. لكن المهم هو النسخة العربية الأصلية لأنها شاعرية حقا. [وهاملان لا يعرف اللغة العربية] أما اللغة الفرنسية فلا يستطيع المرابط أن يكون فيها شاعريا لأنه لا يعرفها.quot; ومن جميل الصدف أن عثر، المرابط، خلال المهرجان على ناشر لترجمة نص quot;ما نعرفquot; إلى اللغة الروسية. والمترجم الذي سيتكفل بنقل النص/الرواية إلى الروسية، مغربي يقطن في روسيا، درس الطب وتزوج ثم استقر هناك للعمل. فمن يستطيع أن ينكر فضائل المهجر؟ خلال اللقاءات التي جمعت المرابط بالجمهور، قدم الكاتب المغربي/الهولندي عزيز عينان للهولنديين المرابط مركزا على أهميته في المجال الفني في طنجة، باعتباره quot;فنانا تشكيلياquot;، ثم عرج على عمله وتعاونه مع بول بولز ثم تحدث عن كتابه الجديد. المرابط، ينتمي أصلا إلى منطقة الريف، لذلك أحبه الجمهور المغربي المشكل من منطقة الريف. وقد استدعي، بتلك الصفة، للمهرجان يوضح هاملان. وعندما عرف الجمهور أنه لا يتحدث اللغة الريفية خاب كثير من أمله. فقد ولد جد المرابط بهذه المنطقة، وغادرها في ظروف صعبة نحو طنجة.
قد يبدو نص المرابط الجديد، يستعيد بعض تفاصيل حياته التي روى أجزاء منها في رواياته السابقة منها quot;الليمونquot;، quot;حب ببضع شعيرتquot;... يبدأ هذا النص من مغادرة quot;المرابطquot;/السارد لبيت والده وعمره ست عشرة سنة. اتخذ له مسكنا بالمدينة القديمة، بالسقاية. يسكن محلا في ملك يهودي يملك مطعما ويعيش معه. وذات يوم، حدث سوء تفاهم مع شرطي اسباني، وكانت طنجة تحت الاحتلال، اعتدى على شيخ من الجبل لسبب معين. ضرب الشرطي العجوز فتدخل quot;المرابطquot;/السارد مدافعا عن ابن بلده وتطور الأمر فضرب المرابط الشرطي، وقد كسرت يده فاعتقد المراهق أنه مات. كانت طنجة تعيش، يومها (1952)، موجة من العواطف الوطنية بين المطالبين بالاستقلال وحكومة طنجة. كان هناك موتى، محلات كسر واجهاتها... بعد معركة المواطنين المطالبين بالحرية وبعد مواجهة المراهق لرجل الأمن شرعت الشرطة تبحث عن المرابط. كان له صديق يشتغل مع الشرطة الأجنبية، أخبره بالأمر وقال له: quot;ارحل. اهرب يمكن أن يعتقلوكquot; وأخبره بما حدث ليد رجل السلطة. وهكذا، لجأ المراهق إلى منطقة تقع خارج المدينة، قرب كاب سبارطيل حيث أقام بكهف طيلة سنة.
ويتوالى السرد لوصف نمط عيش المراهق هناك. فيتدخل سحر السرد لينقله من واقعية تعنى بالحدث اليومي وبساطته إلى واقعية يضمخها السحر والغرابة حيث يحشر المرابط قارءه، كالعادة بين مطرقة الواقع وسندان اللامتوقع واللاممكن ويتركه نهب تساؤلات من قبيل quot;هل هذه الأحداث وقعت بالفعل؟ كيف حدث ذلك؟quot; وقد يعود القارئ للإلقاء نظرة متفحصة على الكتاب والعنوان وجنس النص. حين ينعزل المراهق بالكهف تلفه الوحدة، يلتقي بشيخ يسمى محند (كذلك ينطق معظم سكان منطقة الريف اسم محمد). والغريب؟ في النص أن القارئ يجد نفسه أمام ثلاث شخصيات، ثلاثة شيوخ يحملون الاسم نفسه محند. واحد قوي البنية، يشرب الحليب، والثاني ينقل الصخر من مكانه عبر حبال، ومحند الثالث يمكن أن يقسم الجبل قسمين. الخارق والفانتاستيك والسحري زاد كتابة المرابط والنص. في هذا المكان البعيد عن البشر، الموحش... تحدث وقائع كثيرة. خاصة مع الطبيعة. الطبيعة متوحشة. لم يحمل المراهق معه أكلا وليس هناك من يمده به. فيظهر، فجأة، محند الرجل الذي يشرب الحليب فيعنى بالمراهق. سيقول له quot;المرابط، سأساعدك لأنني أعرفك جيداquot;. ويبدو أن الأمر يتعلق بمحند، جد المرابط في الواقع. من دون أن يتعرف عليه الحفيد! فالنص يحيل على ما عرفناه من قبل من كون جد المرابط هو من علمه الصيد وحكاية القصص. وهذا الشيخ سيحكي للمرابط تفاصيل قصة quot;حرب الريفquot;، التي عرف بعض فصولها جنديا. وتشمل وقائع عن استعمال الإسبان للغازات السامة ضد سكان الريف من المدنيين لما قهرهم عبد الكريم الخطابي. فنلمس عودة نحو الواقع، التاريخ، بعد غوص في يم الفانتاستيك.. وهذه التفاصيل الخاصة بالغازات السامة لا يعرفها المرابط، مما يجعل من محند هذا جد المرابط. ثم ينتقل إلى سرد قصة المحندين الباقيين. وعبر هؤلاء الشيوخ الثلاثة يحكي المرابط قصة ذلك الهرب من البداية حتى النهاية.
ثم تنط الرواية/السيرة نحو محيط آخر. واحد من المحندات يريد أن يمنح المرابط عملا ليخرجه من عزلته ومخاطر المحيط. وهو ما يمنح السارد فرصة العودة إلى مدينة طنجة مرة ثانية. في ظروف خاصة، ومع شخوص واقعية من أبناء الجاليات الأجنبية التي تحكم المدينة بأشكال مختلفة. تتم الإشارة إلى مواطن أمريكي يشتري بيتا كبيرا بمنطقة الجبل الكبير. قد يكون الثري فوربيس... ثم ينتقل مشعل السرد جهة أمريكيةٍ، معروفة بالمدينة، تبني فيلا بالمدينة، منطقة الجبل الكبير، وتقيم حفلات لأصدقائها الأمريكيين. تنادي هذه السيدة على المرابط لتنظيم البيت وتنظيم الحفلات. لكن، وحتى لا يظل السرد يسير في سهولة ويسر حتى ينيم القارئ، يفضل المرابط وضع وسادة من جلد القنفذ تحت رأسه، بتعبير جان كوكتو، ليشتعل انتباهه. يلج السرد متاهة أخرى تقطر سحرا. هذه السيدة، تحب المرابط... وتلجأ إلى قتلته. يسقط، وهو بكاب سبارطيل، من على صخرة خمسين مترا بين أعماق البحر. يموت، طبعا... أم تراه قاب قوسين أو أدنى من الموت. لكن، وهنا يعود المرابط إلى ينابيع أسطورته الخاصة حيث يؤكد باستمرار أن حيتانا هي ملهمته حكاياته. ولا أحد يمكن أن يثنيه عن رأيه هذا، في الواقع. وكم رأيتُ أعين صحافيين غربيين وأجانب تتسع تعجبا، حيرة، شكا... حين يفاجئهم المرابط بهذا الجواب لحظة يسألونه عن مصادر إلهامه! وهكذا، تنجده سمكة، بل جماعة... من نوع الحيتان، تحمله إلى قاع البحر قائلة: quot;أنت صياد، ورجل طيب. لمعاملتك الحسنة للسمك سنعالجك.quot; هكذا ينتمي إلى عائلة السمك/الحيتان أو فصيلته. تعنى سمكة بتغذيته من ثديها حليبا. وتجلب له أخرى أوراق شجر ليطعم نفسه. وهكذا، من جديد، يصبح المرابط طفلا تطعمه الأسماك حليبا وثمار أشجار... يكبر، يصبح قويا، ويقول إنه ابن سمكة والشجرة هي الوالد. من يستطيع أن يكذب منطق السرد، تفاصيل قصة المرابط المحبوكة، طفولة السرد وسحر شعبيته.
ما زال النص لم يسلم روح الإثارة. يكبر المرابط، يصبح قوي البنية، يشد الرحال إلى اسبانيا... يلتقي امرأة حزينة لأنها فقدت ابنها. ابنها مات بسبب مصارعة الثيران. فتك به ثور. هذه السيدة، ظلت تبكي... حتى أغرقت العالم في محيط دموعها. وما الذي يجب أن يحدث حتى يسترجع العالم عافيته، وجوده. ينادي الناس على محند، وينادي هذا على المرابط.. فالماء تعاظم والعالم مهدد بفناء آخر، تطهير آخر، على شاكلة ما حدث زمن سيدنا نوح؟ ما الذي يمكن أن يقوم به المرابط كي يستعيد الكون صورته الأولى؟ يفكر المرابط، قد لا يوقف الظلم إلا القضاء على أسبابه. لا بد من قتل الثور. يتكفل المرابط بالمهمة. ينجزها. تتوقف المرأة عن البكاء. يتراجع الماء. يبتعد عن العالم، ويبتعد معه احتمال طوفان آخر. تقول واحدة من الأساطير التي تشير إلى ولادة طنجة: بعد الطوفان، أرسل سيدنا نوح طائرا للبحث عن اليابسة، فعاد وعلى قائمتيه آثار طين. فقيل الطين جاء. طينجة... ثم أصبحت طنجة. لعل تاريخ الإبداع يعيد نفسه. لعل المرابط السابح في ملكوت القص الشعبي يستعيد فصولا من الإبداع الشعبي القابع في أحضان التاريخ والأسطورة. لعل لحظات من الخلق تسكن تفاصيل الإبداع. لعل طنجة ملتقى البحرين تستبعد الفناء لتحتفي بالوجود ولذاذاته.
لن يقبل منظور الإبداع الشعبي نهاية عادية لنص من صلبه. لا بد أن يحتفي بالبطولة. والبطولة، كادت أن تكون عربية. وهكذا، فقد أنقد المرابط العالم من فناء حقيقي. يصل الخبر إلى طنجة. تسمع به حكومتها. لا شك أننا ما نزال في عهد الاستعمار. يمتص الخيرات وقد يعترف بالبطولات! تقرر حكومة طنجة العفو عن المرابط، السماح له بالعودة إلى المدينة. لا سجن ولا محاكمة.
قدم الكتاب مرتين من لدن المترجم والناشر. تحدث المرابط عن الكتاب ثم قرأ كاتبان مغربيان مقطعين من الكتاب. فهل بالصدفة اختارا نفس المقطع من الكتاب؟ لقد اختارا المقطع الخاص بخطاب عبد الكريم الخطابي. الملاحظ أن المرابط غير معروف في وسط المغاربة بهولندا، كما أن نصوصه (دزينة) التي جاوز عمر بعضها الأربعة عقود ونيف لم يترجم منها إلا نص واحد إلى اللغة الهولندية وهو quot;الحب ببضع شعيراتquot;(ترجم قبل ثلاثين سنة)، بالرغم من أنها ترجمت إلى خمس عشرة لغة. لعل الغرابة سيدة الموقف. طلب من المرابط الحديث باللغة الريفية فما استطاع. فقد سمعها من جده فقط. ولم يكن المغاربة من الحضور يتحدثون العربية بل الريفية والهولاندية. إذا، لا بد من لغة أخرى للتواصل... فكيف يطلب الهولنديون أنفسهم، من المرابط، الحديث بالريفية؟ لعل أوربا نسيتت منذ عهد بعيد قواعد لعبة الديمقراطية والمساواة... حين تعمد إلى تشجيع الأقليات والرغبة في قتل الشعور بالمواطنة، خارج حدودها... وتحرص على تلقينها لمواطنيها... لعل السحر ينقلب على الساحر...
Azioued1maktoob.com