محمد عريقات: ذهبت بتشجيع من أصدقائي الشعراء لحضور أمسية شعرية في المركز الثقافي الملكي بعمان لمجموعة من الشعراء العرب، من بينهم quot;عايشة البصري، زكريا محمد، نوري الجراحquot; وفي طريقنا إلى هناك انحرفنا بنيتنا إلى دارة الفنون عندما عرفنا أن الشاعر مريد البرغوثي يلقي قصائده هناك، وللأسف وصلنا في الهزيع الأخير من الأمسية حيث كان البرغوثي يقرأ بقصيدته الأخيرة التي أهداها لمحمود درويش، وكان صوته يأتينا من خلال سماعات وضعن في زوايا الساحات لاكتظاظ حجرات المبني بالحضور.
التقيت في بهو الدارة بالعديد من الأصدقاء، وتحدثنا معًا عن المستوى الرفيع الذي قدمه الشاعر باقتضاب، فقد كان سيلُ الفتيات الذي يمر من قربنا بغزارة يغير مسار حديثنا، بعد ذلك نهضنا أنا وأصدقائي أحمد يهوى وإسلام سمحان ومحمد دحيات مسرعين في سيارة الأخير إلى وجهتنا الأولى، وبصدق كان زكريا محمد غايتي من بينهم فقد كنت متشوِّقًا لسماع قصائده.
وعلى خلاف ما حصل معنا في أمسية البرغوثي، فقد وصلنا مع النغمات الأولى لعازفة البيانو الرائعة، كان المكان جميلا بإضافاته ومؤثراته الأخاذة، وكانت العتمة تغمر المكان ماعدا بقعة الضوء تلك التي خصصت للشعراء، وكان بمقدوري الاستمرار بقبلة مطولة على أنغام البيانو لو كانت صديقتي التي لم تحضر في جواري، قرأ الشعراء واحدا تلوَ الآخر شيًا لا يشبههم، لا يشبه الشعرَ بتاتًا، بل كانت عبارة عن خيالات مستوحاة من منظورهم الذاتي، وجمل متواترة متفرعة تتجمع من كلِّ حدبٍ وصوب، قرؤوا نصوصًا قد تكون خواطر جميلة إنما ليست قصائد، ماذا دهى الشعراء؟ ماذا دهى الشعر؟.
رغم ذلك إلا أن زكريا محمد كانَ أفضلهم نصًا وإلقاءً، إنما المأخذُ عليه ndash;فيما قرأ- وعلى الآخرين هو تلاشي الفواصل وتماهي أدوات الشعر والخاطرة والنص الأدبي واختلاط الملامح في بعضها حيث شكلت مزيجًا مبهمًا حد الانغلاق على رؤى وتوجهات صاحبه، بعيًدا عن مفهوم اللاغرضية الذي هو الآن من أهم وأجمل مقومات القصيدة الحديثة، إضافة إلى أن مغالات نوري الجراح بالإلقاء رفعت الغث إلى مكانة السمين وكذلك أودت بالسمين إلى مصاف الغث، لدرجة أنك تتوقع منهُ الشيء قبل أن يفعله، كابتعادهِ عن المنصة واتكائهِ على حافة البيانو وجلوسهِ على الدرجات دونَ أيِّ ضرورةٍ لذلك.
نحن بأمس الحاجة، خاصة في هذه الفترة، لقصيدة نثرٍ حقيقيةٍ إبداعية، تتمتعُ بنموٍ وتطورٍ طبيعي للأشكالِ الشعرية المتعارفِ عليها، نحاجج بها حراس الأشكال، وعسس الأوزان والقوافي الذين يجددون حربهم عليها، ويسترسلون في مفردات القدح والذم والتشويه لعناصرها وللأغراض التي جاءت لأجلها، ومنهم من يغالي فيقول بأن قصيدة النثر صاحبة مشروع خارجي لهدم التراث وتوجيه الضربة إلى صلبه ألا وهو الشعر quot;ديوان العربquot; ولسان حالهم، وفي الجهة المقابلة هنالك من يمارس قصيدة النثر وينظر لها بتطرف يكاد يقلب السحر على الساحر، وأعني بهذا الانقلاب الذي يجعلها مرفوضة مسبقا هو طرحها كبديل عن قصيدة التفعيلة، وهذا شيء غير مقبول أخلاقيا وعرفانيا فلكلٍ منهما مساحتها وطقسها المختلف، ولكلٍ منهما ضرورته وشرعيته، فقصيدة النثر حققت نجاحا عظيما جراء نماذج أبدعها شعراء مهمين كعباس بيضون وأمجد ناصر وبسام حجار وآخرون، ولا أنكر أنها فتحت الباب على مصراعيه أمام شعراء عطاش لهذا المبرر الذي هبط عليهم من السماء ليدرجوا نصوصهم ضمن ما يسمى بقصيدة النثر.
تثبت لنا قصيدة التفعيلة من خلال نماذج طرحت ضمنها بأنها قصيدة الآن والغد وبعد الغد، كذلك قصيدة النثر التي تتطور بتطور الشاعر ومحيطه، يعود ذلك الى مقدرة الشاعر على تطويع إنائه الذي يُلجِئ إليه أحاسيسه ودفقاته الشعورية، فقصيدة النثر تطور طبيعي للشكل والإيقاع الشعري والموضوعات، وأنا أقول ذلك لأن الشعراء الذين ذكرتهم وأحترمهم هم شعراء مهمين مطروحينَ بقوةٍ في المشهد الشعريّ الراهن، بنتاجهم وتميزهم، لكن لماذا النزول عن الذروة؟ ولذلك أصرخ: أنقذونا مما ليس شعًرا، عاموديًا كانَ تفعيلةٍ أم نثر، أنقذونا مما ليس شعر.
شاعر أردني
[email protected]