quot;ان الذات (أتان) المتحررة من الشر، والمتحررة من الشيخوخة، والمتحررة من الموت، والمتحررة من الجوع والظمأ، والتي تنشد الواقعي، والتي يواكب الحق أفكارها، ينبغي ان يسعى إليها من يرغب في الفهم، ومن يعثر على هذه الذات ويفهمها يظفر بكل العوالم والرغبات) (الأوبانيشاد)
( لا سبيل لرؤيته، أو الإحاطة به، لا نسل له، لا لون بلا عين ولا أذن. بلا أيد أو إقدام، يتخلل كل شيء، وهو كلي الوجود، انه الواحد الذي لا يبصر، الذي لا ينظر إليه الحكماء باعتباره مصدرا للموجوداتquot;
(الأوبانيشاد مون داكا)

فجأة بصر (ما تسو باشو (1) نبتة برية نبتت في شق لوح خشبي من سياج حديقة مهجورة فانشدها قصيدة (هايكو) هي الآن من درر هذا النظم الشعري. ولم يكن إبصاره هذا إلا معبرا لشعاع النور في لحضه افتتان النفس به. نور البراري هذا هو ذاته الذي وجد الفنان (أنيش كابور) نفسه منغمسا في محاولات كشف إسراره الطبيعية. في الشرق كان مولده (2) ومن اختلاط بذرة جنسين (3)، ومن الشرق حمل جينات ارثه إلى لندن (4) حينما كان يافعا. وباختلاط الزهرة البرية وتكنولوجيا الفن المعاصر امتلك حرفة التعبير الفني في أقصى مدياتها الأدائية والتعبيرية المعاصرة.
قبل ان نعاين منحوتات كابور علينا النظر إلى رسوماته. فالرسم النحتي وبكل الأحوال يشكل معبرا مهما لانجاز الفنان النحتي ومثلما هو واضح أيضا في رسوم نحاتين معاصرتين وحداثيين وكلاسيكيين والتي نستدل من خلال مساراتها الخطية على الملامح المهمة لانجازاتهم النحتية كما هو الحال مع المعماريين. ولا غرابة ان اختلط الانجاز النصبي النحتي بالمعماري، كما في أمثلة حديثة وقديمة. وان كانت رسوم (هنري مور) تحمل كل ملامح منحوتاتها، فإنها بقيت محافظة على أسلوبها التخطيطي الكفافي معظم الأحيان، بالوقت الذي صنع (جياكومتي) من تخطيطاته رسوما زيتية تحمل سمات العمل الزيتي ألتلويني ولا تنفصل في نفس الوقت عن هاجس التجسيم النحتي في منطقة الظل منه. (كابور) صنع رسوماته (الفنية وليست المعمارية الإيضاحية) بوحي من المصادر الفيزيائية لأعماله التجسيمية، وبالذات من ظلال النور والعتمة وانعكاسات شبحيه لبعض مخلوقاته العضوية وبؤره البصرية. وشكلت هذه الرسوم منطقة إبداع محايثة لا متنافذة ومعظم منجزه النحتي مع محافظتها على شروط أداء المادة الصبغية وحاضنها الورقي. ان كانت نبتة (الهايكو) البرية حركت الهام الشاعر. فان رسوم كابور تدخلنا في ديالوج إسرار الكون الخفية و ديالوج ظلالها الشبحية وفي العمق من مناطق إشعاعاتها الهلامية وكما هو الكون ظاهريا مادة هلامية قابلة للمسح الضوئي. كذلك هي معظم رسوم كابور صنعت من مادة صبغية أولية (بكمت) هي بعض من نثار هذا الكون وهي أيضا قابلة مثله للمسح الضوئي لإجلاء مخبوءاتها.
لم تكن تجارب منحوتاته الأولى على الصخر إلا بحثا عن الذي لا سبيل إلى رؤيته أو الإحاطة به. كانت ثقبا في المجهول الذي لا يزال يلاحق أحلامه في لحظات يقضه مثالية الشروط. حفرة الولادة الأولى لعناصر البيئة الخبيئة خلف ملايين التفاصيل التظليلية. لكنها وكمنحوتات ذهنية (5) حافظت على شروطها الأدائية الكفافية المكتفية بذاتها والتي لا يزال يتابع ويناور مناطقها بحثا عن مخارج أخرى أكثر ديناميكية ومناسبة لأمكنتها الفضائية جزء من معمار المدن المستقبلية. مستوحيا مصادره من غنى وتنوع المنطقة الإلهامية للبوح البيئي للعناصر الكثيفة لتربة الهند وعتمة ملونتها والتي لا تزال ترافق مخيلته حتى آخر عرض له في نهاية عام (2009)في (الرويال أكاديمي) بلندن. رغم كل تجاربه المتعددة في مجال المواد النحتية والبنائية والوسائط اللدائنية الأخرى. في حفرته الحمراء (في هذا العرض) وما يحيطها من تكوينات تربة شريطية حمراء هي جزء من ارثه الترابي الأول الذي لا يني يلح على ذاكرته ربما اعترافا أو اكتفاء بما لا يمكن نسيانه أو تجاوزه رغم انفصام المسافات الجغرافية. وان تكن تربته لونا فقد اكتشف ووظف اللون البيئي بحساسية عالية مادة أولية صنع منها معجزة أعماله الأخرى وتحول اللون وهو تربة (بكمنت) اشتغل عليها منذ عام (1980) إلى زهرة برية أو قبة محدبة أو مخروطا أو نبتة مجهولة المصادر ومعلومها، وكما يقول (انأ اللون أعمالي كمنحوتات)، وهي في كل ذلك تتشكل كوحدات عانية تحافظ على مقدرتها الإيحائية كذرات مفردة تتجاور أو تتقابل أو تتباعد لكنها تبقى تتخاطر وكائنات افتراضية عبر مساراتها أو تقاطعاتها.
السطح الصخري المسطح الذي ينفذ عليه أعماله يتشكل بدءا كفراغ قابل للأفتضاض. كما هو سطح رسوماته الملونة. وهو إذ يصنع عليه ثقبه أو حفرته المقعرة فإنما ليؤكد من خلالها ذبذبات انكسارات ظلالها (عمقا أو إشعاعا) على ما حولها وعلى محيطها. والكائن الافتراضي المقعر أو المحدب الذي يحاوره هو بعض من حلقات دوائر (الثانكا) البوذية مفرغة من تفاصيلها التشخيصية رغم كونها تمت أيضا لتأثيرات رسوم أل ( كاما سوترا ) الحسية الهندية. فالجنس وهو هيكل لهضبة مقعرة أو محدبة قابلة للمس ومكثفة في إيحاءاتها الايروتيكية التي لا تنفصل عن ايروتيكية الطبيعة في لحظة توالدها. وما بين جذب القعر وإشعاعات التحدب الطاردة أو الصاعدة يكمن السر الوجودي المنفتح على جذوة الحياة وعصبها المحرك في عمق التصادمات السرية والديناميكية لدواخل النفس. من كل ذلك تكتسب هذه المنحوتات الصخرية بعض من جماليات مظهرها وبعض من أسرار إيحاءاتها سواء كانت صوفية أو حسية.
من اللون مادة صنع تشكيلات منحوتاته الزهرية. ومن الفراغ وهو فضاءات مقننة صنع منحوتات أخرى. ولم تكن الكتلة (الفورم) عنده في أعمال لاحقة إلا فضاءا مضاعفا وجد حلولا له في الأشكال الكروية أو الكبسولية، و الكرة قطرة تدحرجت أو سقطت من علو فثبتها في لحضه ارتجاجها وأحال هندسة منحوتاته المعمارية إلى مصدرها العضوي البيئي ليفقدها غالبا ثقلها الفيزياوي. هذه الفورمات المتريالية التي لعب بتشكيلات أسطحها لا بجوهر شكلها استمدت سطوة إيقاع مشهديتها من فعل حركة انزياحات أو ثقوب أو شطب لبعض من محاور سطوحها وبتدخل من تقنية حرفية معملية جمع فيها الفنان مابين الفعل الفني كمصدر ألهامي والفعل التصميمي المعماري الذي هضم درسه فصنع منها أنصابا تغازل السماء والغيوم. أنصاب احتلت أمكنتها المدنية البيئية جزأ من عمارة معاصرة. وان هي لم تحمل كل مميزات العمارة التفكيكية إلا أنها تقاربها كما في نصبه (باب الغيوم) في ساحة (ميلنيون) في شيكاغو والذي يتجاور مشهديا ونصب المعمارية المعاصرة (زهاء حديد) المصمم لنفس البارك ( سرداق، آو متحف الفن الحديث (6) الكبسولي أو تصميمها الآخر (سولو باخ). وان كان الاختلاف في توظيف كلا النصبين وظيفيا. إلا أنهما متقاربين استيتيكيا في مظهريتهم. لكن يبقى نصب كابور محافظ على ثبات سكونيته وحراك تلاوين انعكاسات سطحه. بالوقت الذي تتحرر سطوح أعمال حديد من سكونيتها. وليس غريبا ان يكون هذا التجاور ما بين النصب النحتي لكابور وعمل المعمارية زهاء بما ان محركات موروثاتهم الشرقية هي أيضا متجاورة. فزهاء حديد حررت منطقة الأرابسك الشرقية من ضوابطها تفكيكا لوحدات أعلت من العلامة الدائرية أو المقوسة وحدات قياس معمارية جديدة. كما الشكل الدائري أو المحوري عند كابور. ولا غرابة في ان يستعين كابور بزملائه المعماريين المعروفين استشاريا في تنفيذ بعض إعماله ذات الممرات والأحجام الكبيرة.
لقد اوجد (لوكوربوزيه) مقياسا معياريا معماريا للإنسان الحديث واسكنه احيازا مستوية مناسبة. وهو مثل بقية نظراءه الذين عاصروه من المعماريين أسس للعمارة الحديثة الاجتماعية بمواصفات تكعيبية متقشفة. وعلى النقيض من ذلك انطلقت شياطين العمارة المعاصرة لتفكك وتعيد وتوسع المخيال المعماري ليتجاوز في اندفاعات خطوطه ومساحات فضاءاته وليشكل كائنات معمارية عضوية مقوسة ومدومة تشع نورا وتطلق سطوحها الطائرة في كل اتجاه بحثا عن هواء جديد. وبالتزامن مع هذه الابتكارات المعمارية، حرك كابور التربة والملونة الهندية إلى سهول مقعرة وهضاب مرتفعة وأطلقها في الفضاء أجساما كروية منورة. لقد قادت التكنولوجيا المعاصرة خطى المعمار، و قادت التكنولوجيا خطى كابور عبر دروب مخياله الذاتي ليحرر التراب من كثافته ويطلقه أجساما هوائية.
من الجسم المكور اشتق الشكل الكبسولي الذي حشره ضمن فضاءات متحفية هي أصلا غير مهيأة لأن تكون حاضنا طبيعيا أو مألوفا لهذه الهياكل المتعارضة وشكلية جدرانها المستوية ومساحتها. الهياكل الفولاذية الخام هذه بمظهرها التوربيني (إيحاءات خطوط فواصل مقاطعها الطولية المنحنية) وملونتها المؤكسدة تنحشر اقتحاما في حيز مكان عرضها لتفاجئ المشاهد كمائن تحافظ على أسرار دهشتها. وخير مثال على ذلك عرضه في متحف (كوكنهايم (7) نيويورك. بهيكله الفولاذي المخاتل لحيز المكان الذي اختاره بناءا على تصميم مسبق و بذكاء لكي لا يمنح المشاهد من زاوية معينة سوى بعض من مساحة هيكله كتحريض لتقصي ملامحه الكاملة التي تظهر على أوضح ما يكون من خلال تقصيها في فضاء مكاني آخر، لم يكن عرض الهيكل أمرا مرهونا بفضاء واحد وعلى المشاهد اكتشاف زواياه لتكتمل دهشته. وهو يرزح بثقل مكوناته المعدنية التي تقتحم فضاءاته حشوا طاردا للكثير من هواءها وغير بعيد عن إيحاءات من ميكانيكزم الفعل الجنسي ألحشوي نفسه، رغم كونه ملغوما بميتافيزيقيا معمارية تعلي من شأن مصادرها الخفية.
ما يكرره كابور هو ان ( يصنع جسما في الفراغ)، لكنه ليس فراغا فنتازيا مطلقا، بل هو ممغنط بادراك شبقي وبشكل خاص في أعماله المعوية (نسبة للأمعاء) بمجاريها ومنافذها ذات الفوهات (المجسات) التي تلامس حافات فضاءاتها ممرات للنور المخبوء. هياكل الشبق هذه لا تنفصل عن موحيات موروث الشبق الديني الهندي في نصوص (كاما سوترا)، لكنها منذورة للبشر و بالذات لفضاءاته المعمارية البيئية، لا للآلهة. وكممرات حسية صنعت من لدائن حمراء يتحكم بمسارات هياكلها ومسارات توربيناتها المجازية التي تخترق الفضاء وتتفتح مجساتها نوافذ تنغلق على أسرارها التي سرقت من الفضاء هوائه وأنواره وخبأتها بين دهاليزها وممراتها الأفعوانية ولتدع الحدس يواصل مسيره عبر مسالك ممراتها الملتوية والملتهبة بذبذبات فيزيقية، والحدس استشعارا لعبة الفنان القادم من فضاءات هي موطنه. و كابور يعي تماما شروط توظيف حدوسه الإبداعية في فضاءات البيئة المعاصرة، بأحادية مزاجية ألوانه الحسية الأثرية ووقع حجوم أعماله المكرسة لفضاءات تقتحمها بمهابة لتزيح الفضاءات النحتية والمعمارية القديمة و الحداثوية ولتؤسس لمسارات متوازية لثقافة المكان مابعد الحداثي. ممراته للضوء المخبوء والمتفجر هذه والتي يصل أطوال بعضها إلى (150) مترا ما هي إلا ممرات للوهم المستحضر عبر دروب الذهن والمقنن بشروط صنعة إخراجه. لكنه وهم يشيد سكنا افتراضيا للبصر موازيا لصروح سكننا وبنفس شروطه البنائية.
الهياكل التوربينية التي نفذها الفنان في السنوات المتأخرة وبعدة تنويعات ولعدة أمكنة عرض في (لندن، برلين، نيويورك، بلجيكا ايطاليا..)ولم يستثني الطبيعة. هي بعض من درس ثقب الصخر الأول الذي وجد نفسه مدوما وسط حفرته التي باتت منافذ دائرية. وان أصبحت الحفرة نقطة خضعها لفعل الضغط الجوي في عمله باب الغيوم. فإنها تماهت أيضا في مرآته للسماء (كما في مرآته لسنتر روكفلر في نيويورك8) و وانعكاسات متبادلة لأنصاب محيطها المعمارية وانعكاسات مياه النهر المجاور، لقد استطاع كابور في هذا العمل ان يلبي شروط المحيط المعماري ويحقق بؤرة استقطاب تكثف وتعلي من جمالياته. وللكثافة والمضاعفة درس آخر في عمله (9) الذي كونته عشرات المرايا المعينية المعدنية لتشكل صورة بانارومية موشورية وليحاور بها مرة أخرى وحدته النحتية الصورية المصغرة لا بعثرة بل جمعا مكثفا يتجاوز محيط إطارها الذي يتشضى بوهم وحدته. فان كان الثقب كائنا ملغزا يتسرب من بين أيدينا حتى القاع، فقد تحول في هذا العمل إلى طيف تتشضى بعض أطرافنا على سطحه نثارا متوهجا. وان كان الثقب أو التكور كائنا ثقيلا بكثافة كتلته للحد الذي حاول شطره بلوح مستوي في بعض منحوتاته، فان أعمال كابور المدورة والمكورة بتحدباتها ما هي إلا أجسادا افتراضية تبث أضوائها ملامسة نبض أحاسيسنا. وان كان الجنس نذرا كهنوتيا فان أعمال هذا الفنان تقاطرت من رحم معبدها هبات بشرية تسر النظر وتدغدغ الأحاسيس.

الدرس الأخير:
ان يتوسع الفنان في مبحثه فهذا أمر مرهون بمقدرته الإبداعية وحوافز مخيلته. لكن المقدرة الأدائية وحدها وتصورات المخيلة تبقى قاصرة بدون توفر الأداة التي هي في نفس الوقت تقنية وثقافية تواكب مكتشفات العصر الاستشعارية الثقافية والبيئية وتشير إلى متغيراتها المحتملة. وما تشير إليه منجزات التشكيل المعاصر هو غلبة العنصر الأدائي ضمن فهم كامل لشروط المكان البيئي والمدني ووضوح خطوطه العامة واختلاط المفاهيم ومصادرها اظافة لشيوع الأداة التكنولوجية وتطويعها لمناطق العمق الخفية من الذهن البشري. وكما في تجربة كابور تحولت الكائنات المصغرة والمهملة إلى كائنات عملاقة شكلت بؤر جذب سحرية لمحيط عرضها المكاني وأذهلت مشاهديها استقطابا لولوج منافذها السحرية.

هوامش:
1.. شاعر ياباني من القرن السابع عشر.
2.. بومباي.
3.. ولد في عام 1954من أب هندي وأم عراقية.
4.. سافر في عام 1972 إلى لندن لدراسة الفن والتصميم.
Mental sculpture..5
.Chanel Art Contemporary Container..6
Memory. Guggenheim..7
Sky Mirror..Rokefller Center، New York..8
Hexagon mirror dish..9