ماجدة داغر من بيروت: يبدو أن الصوت ما زال مغرياً للبوح بالقصائد عند صاحب quot;صوت بحجم الفمquot;، وquot;بين الوسادة والعنقquot; همس من نوع آخر صار يشبه الشاعر الثمانيني أكثر من ذي قبل، فأمسى quot;شيئاً يخصّ الروحquot; إنما بنضج وسلام وعشق إيقاعي لم يغيّر نبضه منذ quot;أكثر من قلب واحدquot; الديوان الأول. مذاك وحتى الأخير quot;ديوان الفرحquot;، امتطى صاحب quot;ليلى بلا عشّاقquot; حروفه الجامحة في فضاء ثقافي سجالي كرّسه شاعراً سوريّاً إشكاليّاً احترف التحوّلات وأمسك بذيل الريح والاتجاهات، فكان الشاعر الذي يُمنع من الكتابة في الصحافة السورية ثم يُكرّم، وكان أحد أبرز الشعراء المنبريين في الخمسينيات وصوت اليسار الصادح الذي يراه اليوم quot;وهماً اجتاح ملايين وتمكّن من خداعهم عبر صيغة بطركية فوقيةquot;. شوقي بغدادي تحرّر من هذا الوهم منذ زمن بعيد quot;من دون الاستخفاف بفكرة العدالة الاجتماعيةquot;.
الشعر ليس منقذاً، وحضوره الى انكفاء كبير، ويضيف: quot;بدأ الوباء في أوروبا واجتاح بلادنا. العالم معرض لأخطار غير مسبوقة والآن أصبحت جديّة. بعد مئة سنة الناس سوف يتكلمون لغة اخرى، والأفلام التي نشاهدها الآن كـ quot;أفاتارquot; هي مستوحاة من هذه الأخطار، نحن نقضي على كل شيء. هذه الأخطار لا ينقذها الشعر، الشعر انتهى دوره، الإنقاذ اليوم بيد العلماءquot;.
ما الجدوى من الشّعر إذاً؟ quot;هو كالموسيقى حاجة فنيّة صرف ومتعة للروح، خلوة مع الذات وسكينة وانسجام مع الإيقاعات، هذه هي المتعة المتبقيةquot;.
عن هذه quot;المتعة المتبقيّةquot; تحدّث الشاعر شوقي بغدادي إلى إيلاف:

-أين شوقي بغدادي اليوم بين الأسماء المكرّسة في العالم الشعري العربي؟
لأعترف انني مررت بفترة لم يكن يعترف بي خلالها إلا فئة معينة هي فئة الأحزاب اليسارية، وحين انهارت الأفكار اليسارية تراجعت شهرتي معها، وكان عليّ ان أناضل من جديد لكي أسترد سمعة تقوم على التقدير الفني فقط. مع العلم بأن شعري كان يتطور إلى الأفضل لأنني تحررت من اليسار الوهمي الذي سيطر علينا فترة من الزمن. وبدأت أشعر أنني أفكر وأعبّر بطريقة جديدة، لذلك كانت دووايني التي ظهرت منذ الستينيات إلى الآن من احسن إلى أحسن، حتى قال لي بعض النقاد انني على عكس الشعراء الذين يشيخون فتتراجع اعمالهم وكأن هناك شوقي بغدادي آخر. في البداية كان صوتي الداخلي محجوباً لأنني كنت متأثّراً بالأيديولوجيا، ولكن الشهرة طغت فصار الناس يحاسبونني على اساس انني أمثّل اتجاهاً معيناً وكأنني مندوبه الرسمي، وانا لست كذلك. لذلك ناضلت منذ السبعينات تقريباً، حين وجدت نفسي وحيداً بدأت أكتب وأنشر وأصرّ على الحضور الثقافي في كل مكان، وشيئاً فشيئاً وجدت إسمي يلمع ويسترد عافيته، وأكاد اقول انني في السنوات الأخيرة استعدت شهرةً أهم بكثير من السابق، وأنا اليوم معروف أكثر في العالم العربي لا بل في فرنسا وفي بعض البلاد الأوروبية وفي سوريا. أنا اليوم أجد نفسي في الطليعة، بعد سنوات كنا نركض وراء القطار والآن نركب في العربة الأولى.

-تقول أنا في الطليعة وكأن الشاعر نفسه هو الناقد، في حين عندما يُطرح هذا السؤال تكون الإجابة دوماً إسألوا النقّاد والقرّاء، لديك جرأة القول أنك في الطليعة، هل تؤمن إلى هذا الحدّ بما تقول وتكتب؟
أنا في الطليعة فنيّاً، وأنا أمثّل ما يسمّى الحل المعقول في الكتابة الشعرية، بمعنى الاستفادة من عناصر الحداثة أو التغيير في أساليب المجاز والتعبير وتغيير الإيقاعات المختلفة، والاحتكاك بالغرب وبالمدارس العالمية التي تتغير من حين إلى آخر كالبنيوية والتفكيكية وغيرهما، فأنا دوماً على هذا التواصل المستمر والواعي، ولكن لا أقطع ذاك الخيط السرّي مع التراث، فالتراث هو ذخيرة بشرية وليست قومية عمره أكثر من ألف سنة.

-إذا كنت تشتغل على القالب الشعري فكيف تحافظ على التراث؟
يجب أن يكون الشاعر مؤمناً من الداخل بأن في التراث أشياء جميلة كثيرة، مثلاً أنا أرى في الشعر الجاهلي نموذجاً رائعاً للعفوية الشعرية. اللغة التي تنبع من أعماق الشاعر مباشرة من دون ان يصطنع فيها أي مدرسة أدبية أو أيديولوجية أو أي شيء آخر. أعود دائماً الى الجاهلية وأتأثر بهؤلاء الشعراء الصعاليك. في الشعر الإسلامي تراجعت العفوية دخل تأثير البلاط وانتماء الشعراء الى السلاطين والملوك، ومع الثقافة الجديدة بدأ يظهر شخص مثل أبي تمام، فخلق أسلوباً جديداً في توظيف المجاز. البحتري بقي يمثل أكثر العلاقة بالتراث بمعنى الغنائية، إلى أن جاء المتنبي الذي قدّم حلاًّ لمشكلة الحداثة في ذلك الزمن ومشكلة التراث. عالج ما يسمّى العمق الفلسفي والثقافة الواسعة والإطلالة العالمية على الأمور، ولكنه بقي محافظاً على الحس البطولي الموجود دائماً عند العرب الذين يحبون البطل، ويغفرون له كل خطاياه طالما أثبت انه بطل، هذا الحس البطولي تراجع كثيراً عند الشعراء فصاروا يتباهون بالخوف كابن الرومي مثلاً. حين أفهم هذه التحولات جيداً أفهم ماذا يعني الإيقاع، ما هي البحور ولماذا لا توجد في اليونانية والفرنسية والصينية فأنا درست مسألة الإيقاع عند معظم الأمم، هذه خصوصية عند العرب. يجب أن نترك لأنفسنا حرية الاختيار أي ألا نعتقد بأن الغرب هو الأفضل دائماً، ولا أن الجاهلية هي الأفضل.

-فكرة المزاوجة بين القديم والجديد، إلى أي مدى تخدم الشعر المعاصر؟
مسألة الإيقاع عزيزة عليّ جداً وأعتقد بأن الموسيقى لا يمكن أن تُخلق في اللغة إلا من خلال الهندسة الصوتية، جُمل متساوية ومتقاربة ومتباعدة وضمن هندسة معينة ومعدودة، كما تخضع الإيقاعات لهندسة صوتية كاملة او رياضيات. وهي خلاصة لتموجات الانسان الذي يعيش الصحراء بكل مكوناتها، ولكن يجب ألا أخضع لها خضوع العبودية، أنا في شعري أستخدم العامية وأغيّر التفعيلة وأعتمد النبرة أحياناً، ولكن دائماً ضمن هندسة صوتية معينة.

-اين أنت من قصيدة النثر، وأين هي من هذه الهندسة؟
في البداية فوجئت بهذا المنحى واعتبرته انحرافاً ثقافياً تابعاً للغرب تماماً، فلولا بيان سوزان برنار عن قصيدة النثر لما تجرأوا في مجلة شعر أن يؤمنوا بهذا الاتجاه. ولكن بعد زمن يبدو ان الناس ملّوا وسعوا الى التغيير. التغيير من قوانين الحياة، وإذا بقي الشعر عمودياً وظلّ الفن جامداً على تقاليد ثابتة، فهو من دون شك سيصيب الناس بشيء من الملل. لكن ليس التغيير النابع من القاعدة، وهنا يجب التخاطب مع الناس. قصيدة النثر نوع من أنواع التغيير الذي فرض نفسه، وهي حصلت كالقضاء والقدر، وأنا أنادي بالحفاظ عليها ومساعدتها، مع التمييز بين من يجيد كتابتها وبين الصحافيين الذين يكتبون بلغة الصحافة. أنا اتمتع أحياناً ببعض قصائد النثر أكثر بكثير من القصائد العمودية. نشعر احياناً بالإيقاع الهندسي عند بعض شعراء قصيدة النثر فلا تتناثر، محاوِلة من خلال الموسيقى ان تجمع نفسها. ولكن ثمة نوعاً من الفوضى اليوم، فكثر ممن لديهم بعض الهيجانات النفسية يظنون بأنهم شعراء، وبدل ان يكتبوها في شكل مقالة تكتب مقطّعة على أساس أنها قصيدة.

- كيف يرى شوقي بغدادي ثقافة الجنس أو المعالجة الجريئة لبعض المواضيع الحسيّة والإباحية المطروحة بشكل واسع ومتقدم في السنوات الأخيرة، على مستوى الشّعر والرواية؟
التعامل مع الجنس ليس معيباً إلا إذا كان مصطنعاً، وإذا كان موظفاً لخدمة غير شعرية، كأن يكتب أحدهم لإرضاء نساء معينات أو لإرضاء دور نشر معينة، هذا تعامل معيب. لكن هناك من يستخدومنه من دون أي رغبة في الربح والخسارة فيصبح الجنس حينها تواصلاً مع الطبيعة أومع غابة في حالة سكون أو ثورة، ونتيجة صدى لأهواء حقيقية إنسانية، وإلا يكون غريزة من دون اي معنى. وهذا ينطبق على الرواية.

كيف تنظر إلى الترجمات، والشعرية منها خصوصاً، من خلال علاقتك باللغة الفرنسية، وهل صحيح ان الترجمة هي خيانة للنص؟

الشعر في الأصل هو تجربة لغوية إستثنائيّة، والشعر يعتمد على اللفظة المفردة وعلى التركيبة، كلها صياغة ذات خصوصية عربية. انا حاولت أن أترجم جاك بريفير إلى العربية فوجدت نفسي أمام مشكلة، هو يستخدم الفرنسية كأنه يتكلم بالعاميّة أي الفرنسية اليومية، فإلى أي لغة أترجم؟ إذا كانت الفصحى، أشعر كأنني اتكلم بالجاهلية وانا في باريس. حتى ترجمة الشعر شعريّاً كما فعل نقولا فيّاض مثلاً مع قصيدة البحيرة للامارتين، هي أصبحت كأنها قصيدة أخرى. الصياغة العربية تترك حالة نفسية مختلفة، حين يُترجم الشعر يفقد كثيراً من نكهته وروحه، ولكن كيف نقدّم الثقافة الغربية إلى العالم العربي؟ لا يوجد إلا الترجمة. إذاً لنتفق على أن الذين يطّلعون على الثقافة الغربية من خلال الترجمة يبقى اطّلاعهم ناقصاً.