عبدالله كرمون من باريس: لا يتأتى قِدم هذه الحديقة من شكل من أشكال البلى، بل من كونها متوغلة في الزمن، ومن انتمائها إلى عهدٍ لم يعد الإمساك به ممكنا. اللهم بواسطة شراك الذاكرة المضنية التي قاست كثيرا من الفقدان. واضح أن الكلام هنا مجازي أكثر، وإن وجدت في الواقع حديقة حقيقية، تحوّل وجودها نفسه إلى دال لا مفر منه لوضع اسم على ملحمة الحياة التي عاشها الكاتب الكوري هاونغ سوك يونغ، وترك نتفا دامية منها كي يقاسمها فيما بينهم أبطال روايته quot;الحديقة القديمةquot;، والتي استوحى منها المخرج المعروف سونغ سو إيم فلما رائعا. كما أعادت دار ِزيلما طبع ترجمتها الفرنسية هذه الأيام، بالموازاة مع إصدار جديد للكاتب حول أسطورة أسيوية، انطلق منها كي يثير تجارة الرقيق الأبيض والدعارة في بلدان أسيا كلها.
أردت أن أتطرق إلى هذه الرواية انطلاقا من معاني نعت ومنعوت العنوان، وتداعياتها الممكنة من خلال النص، سواء كانت ملفوظة أو مستترة. وتلك طريقة خاصة وملتوية للحديث عن حوالي الستمائة صفحة من الحجم الكبير والخط الدقيق التي تتكون منها رواية هاونغ سوك يونغ، الذي يحب أيضا الإسهاب حتى في لقاءاته. لأن هذا المقال لا يسع وحده للإحاطة بكل تفاصيل نصه الضخم.
لم تظهر هذه الجملة الاسمية إلا في الصفحة 544 من الرواية، وقد جاءت من بعد نسبتها إلى quot;نحنquot;؛ أي حديقتنا. جاء فيها على لسان، بل تحت وقع قلم هان يونهي، مخاطبةً أُوو هيوني ما يلي: quot;لابد أنكَ الآن قد تقدمت، أنت أيضا، في العمر. القيم التي دافعنا عنها قد ذهبت أدراج الرياح، لكنها ما تزال تتلألأ بين غبار هذا العالم. ومادمنا نحيا، فسوف نعيد الكَرّة مرات ومرات. ماذا وجدتَ في تلك العتمة وتلك الوحدة المحاطتين بالأسوار؟ ألم يحدث لك أن تلمح عفوا، في سناء الشمس، وأنت تندس بين صخرتين، عالما مليئا بأزهارٍ مختلفة الألوان؟ هل عثرت على حديقتنا القديمة؟quot;.
لقد تسرعتُ إذن، وكشفتُ عن فقدان الحديقة. لكنني أثرت الانتباه إلى أن الحديقة ليست حديقةً منسية ومهملة وبلا اسم ولا مُلاك. إنها حديقة هان وأوو. لأن الفنانة هان يونهي تقصد هنا حديقة قد وُجدت تربتُها وأزاهيرُها يوما. وهي الحديقة التي شكلت نوعا من مُقابلٍ لخضرةِ وتفتح وتبرعم الحب الذي جمعها بأوو هيوني، هذا الذي سألَتْه، كتابةً، إن كان باستطاعته استعادة حديقتهما.
ستظل الحديقة هنا، مع ذلك، حديقتين. الأولى هي تلك التي ذكرناها حالا، كونها واكبت نمو نبتة الوجد وسريان نسغ الهيام في عروق هان وأوو. مثل ما نلمح في متاهة هذا التساؤل الهام: quot;كيف يمكن التعبير عن المشاعر التي تثيرها رؤية النباتات الأولى وهي تنبعث من التربة؟ في البدء لا نلمح سوى انبثاق بعضها، تلك التي لا ندرك حينها، أهي زهور أم أعشاب طفيلية. غير أنه في الصباح، وكأن كل واحدة منها قد خاطبت صاحبتها أن انبعثي، فقد طلع قدر كبير منها من الأرض. تتسم الوريقات الشابة بخضرة فاتحة وشفافة، وهي في الواقع جد هشة، إلى درجة أنه يبدو أن هبة ريح أو سقوط رذاذ خفيفين قد يحطمانها، لكنها تنمو بسرعة وفي رمشة عين.quot; ص. 203.
إنها ربيع عاطفي بين رجل وامرأة. غير أن العاشقين ليسا عاديين. أوو مناضل ثوري وهان ابنة مناضل قديم ومتعاطفة مع النضال الذي يخوضه صاحبها ورفاقه من أجل الحرية.
وليست الحديقة الثانية إلا ما يطمح إليه أوو ثم هان بعده. أعني بذلك تلك الحديقة الشاسعة والواسعة التي تتفتح فيها أزهار ونباتات أخرى. من أجل سعادة الجميع، في خضم صراع كوريا الجنوبية نحو الديمقراطية تحت وطأة القمع والديكتاتورية، خاصة إبان التمرد الشعبي الذي عرفته كونغجو، في سنوات الثمانينيات، والذي قُمع إذ ذاك بقوة الحديد والنار. واعتقل خلاله، قبله وبعده، عدد هائل من النشيطين اليساريين، وزج بهم في سجون النظام المتسلط.
لم يفارق بطل هاونغ سوك يونغ ملء ناظريه حديقته؛ سواء تلك التي خلفها في بلدة كالمو حيث استقر لزمن مع حبيبته، قبل أن تستبد به بإلحاح رغبتُه في تلبية نداء النضال، ثم تلك التي سُمح له بإنشائها في باحة السجن، والحديقة الكبرى التي تشكل أنوار الشمس أزاهيرها؛ أي الحرية!
مادام الأمر يتعلق بحديقة داخل حيطان السجن، وأخرى بعيدة خارجها، فإن عالم الحدائق قد صار للتو مظلما، وباتت الأزهار مجرد أشواك في ليل كبح الحريات واقتياد الأفراد ضدا على إرادتهم إلى كهوف إذلالهم واقتراف كل صنوف الإجرام في حقهم باسم quot;الأمن الوطنيquot; تارة وquot;الوحدة الترابيةquot; وquot;الإجماع الوطنيquot; تارة أخرى. في الوقت الذي كانوا فيه دعاة التحرر وإعطاء كل ذي حق حقه، من أجل بناء وطن ديمقراطي حر.
بغض النظر عن الحقائق الاجتماعية والسياسية التي تصدر عنها رواية هوانغ سوك يونغ، وبُعدها النضالي، فإنها، في نظري، رواية تراجيدية بامتياز. إذ الحديقة المزهرة تظل في حكم الماضي والبحث عنها أمر مستعص، وإلا quot;هل عثرتَ يا أوو، كما خاطبته هان، عن حديقتنا؟quot;.
تعج الرواية بالموتى، مقابل ولادة وحيدة وإشكالية، هي بنت هان وأوو. سمتها أمها، مادام أبوها حينها رهين المحبس، بأونجيول، ما يعني باللغة الكورية شعاع الشمس المسلط على أديم ماء النهر. أيُّ اسم لبنت سوف يتشتت والديها قسرا!
إذا ما بدأت رواية سوك يونغ البيوغرافية بخروج أوو هيوني من السجن، فإنها قد انتهت باستحالة لقياه مع ابنته في آخرها. مرورا بسفر هان يونهي إلى برلين (منفى الكاتب)، ثم بوفاتها قبيل خروج أوو من السجن ببضعة أشهر.
الحديقة التي لم أذكرها هي حديقة السرد، إذ أن معظم بنيان الرواية شُكل من استعادات تأتت من رسائل هان، ثم من دفاترها خاصة. وتكاد الرواية أن تكون كلها مبنية على ذلك المضمار. لأن أوو هو الذي تفقد تلك الوثائق وشارك القارئ في الإطلاع عليها. وهي تقنية متداولة في الكتابة الروائية.
أتى هوانغ سوك يونغ في روايته على تاريخ النضال الكوري ضد الديكتاتورية، وقد عرف السجن بنفسه، إذ كان مناضلا في صفوف الحركة الطلابية، ووصف ما قاساه المعارضون السياسيون من مطاردة وتعسف واعتقال. إضافة إلى ذكره للمطاردات التي تطال المناضلين عادة: quot;المناضل لا يعتقلquot;. مثل ما نجده بشكل مشابه في أغلب أدبيات الاعتقال السياسي وحيثياته.
تتسم كتابة هوانغ سوك يونغ خلاف ذلك بكثير من الشعرية. مثلما نجد مفهوم الحديقة الذي أشرنا إليه منذ البدء من خلال الزهور والطيور والأشجار التي تملأ عوالم النص. إذ يحاول الكاتب الإمساك بجزئيات مهمة بخصوص النبات والحيوان.
ذكر الكاتب بعض قراءات البطل ولو أنها قليلة جدا بالمقارنة مع السنوات السبع عشرة التي قضاها أوو في السجن، في حين لم يقض فيه سوك يونغ إلا خمس سنوات. وضع الكاتب مقطعا لبروتولد برشت في المفتتح، ثم أنهى الرواية بمقطع آخر لنفس الشاعر جاء فيه:
quot;أين إذن؟
ليس في أي مكان.
بعيدا عمن؟
عن الجميع.
ومنذ متى كانا مجتمعين؟
منذ زمن يسير.
متى سوف يفترقان؟
سريعا!quot;
[email protected]