حميد مشهداني: حرفية فولكنر الادبية وجديته لم تسحر جيله على الاطلاق، لانه كان أكاديميا بحتا ذا أسلوب جاف وحتى خاليا من الانفعالات أحيانا. لذالك كان يعتبر كاتبا كلاسيكيا مقارنا مع معاصريه من المبدعين، يقولrdquo;جبرا إبراهيم جبراrdquo; في مقدمته لترجمة ldquo;الصخب والعنفrdquo; في 1963. rdquo;كتابات فولكنر ليست يسيرة القراءة. بل ان أكثر القراء كانوا يجدون بادئ الامر في أسلوبه، الطويل الجمل، المركب الصور، المعقد المبنى و المليء بالكلمات المزدوجة الصياغة إشارة الى ضرب من الفوضى الذهنية والعاطفية في المؤلف، وعائقا لهم عن تذوق فنه rdquo;أنا شخصيا اربكتني كثيرا قراءتي الاولى لرواية ldquo;الصخب والعنفrdquo; والثانية ايضا، الى ان قرأت الترجمة الاسبانية.
فولكنر كان متقشفا جدا في حياته اليومية ذات البساطة العجيبة. هذا ما يقوله كل مرة ابن أخيه ldquo;جيمس فولكنرrdquo; الحارس الوفي ومدير تراث عمه الادبي والفني في بيته القديم في ldquo;اوكسفورد. ميسيسبيrdquo;. لا أحد يعرف سبب انزوائه في اوكسفورد، هل كان بسبب ضيق مالي أو عدم طموح بالسفر؟ رغم انه في شبابه الاول زار أوربا متصعلكا كما العديد من معاصريه مثل ldquo;همنجواى. فتزجيرالد، وهنري ميللرrdquo; وأخرين. وبعدها تسكع في ldquo;نيويورك، و نيو أورليانز rdquo;لفترة ليعود بعدها عالمه الخاص، الذي كان يشعر بنقصه وفقدانه عناصر السحر، ومواصفات مقاطعة، كانت تتمتع بنوع من الحساسية الشاعرية والفنية. فعاد ليصوغها عالما جديدا في كتاباته، ولم يتزحزح منها الا مرات معدودة اهمها هو عقده مع شركة rdquo;مترو غولدوين مايرrdquo; السينمائية في بداية الثلاثينيات، لذالك فمسرح معظم رواياته كان خياليا سماه ldquo;يوكناباتوناrdquo; وتعني بلغة الهنود الاصلية rdquo;الارض المفطرةrdquo; وربما ldquo;فولكنرrdquo; كان يريد استذكار rdquo;اليوتrdquo; ويباب ارضه. ورسم لها حدودا وأعد لها احصائية بسكانها ldquo;6298 من البيض، و9313 من السود. وهذه الخيالية سمحت له التعبير عن ldquo;هوسهrdquo; بالتاريخ والعنف وقسوة التقاليد الجنوبية، والمشاعر المكبوتة، والعنصرية والانحطاط العائلي، كثمار لتلك الحرب الاهلية بين الجنوب والشمال.
هو في معظم رواياته لم يترك حجرا على حجر، فبين حساسيته من اللبرالية الشمالية، وكرهه لنفاق الجنوب الاخلاقي اضطر الى خلق عالم روائي خيالي، وحتى جغرافي مفترض وهنا أستطيع القول ان ldquo;فولكنرrdquo; هو اول من وضع بذور ldquo;الواقعية السحريةrdquo; ففي مقدمة لدليل مئويته في عام 1997 التي احتفلت بها جامعة المسيسيبي كتب ldquo;غابرييل غارثيا ماركيثrdquo; التالي: ldquo;منذ قراءتي الاولى- لفولكنر- في العشرين من عمري rdquo;الحرمrdquo; وrdquo;النور في ابrdquo; بدا لي كما كاتب من الكاريبي وصار لي واضحا اثناء وصفي أجواء rdquo;ماكوندوrdquo; ووجدتني ابذل جهدا مريرا لكي اتجنب التشابه معه، وهذا عكس ما يعتقده البعض، فمن الصعب على كاتب محترم، هو ليس تمثيل وتقليد كتاب يحبهم بل العكس تماما وهو معرفة كيف تجنبهم. وأكتشفت لب المشكلة، وهي ان الكاريبي ليس بقعة جغرافية تحاذي البحر فقط، وإنما فضاء اكبر حجما وأكثر تعقيدا مع تركيبة ثقافية شاملة تبدأ من شمال البرازيل حتى جنوب الولايات المتحدة، ويشمل هذا بالطبع مقاطعة ldquo;يوكناباتوماrdquo;، وفي داخل هذا المنظار الواقعي لم يكن فولكنر وحده، وانما معظم روائيي الجنوب الامريكي المليئين rdquo;بعفاريتrdquo; الكاريبي ولكن ldquo;فولكنرrdquo; هو الذي علمني الوعي بهاrdquo; هنا ينتهي ماركيث.
فولكنر، بدأ شاعرا فبين عمر 16 الى 27 سنة كتب شعرا أكثر من اي شئ أخر، وقرأ واستوعب كل الرومانسيين وما بعدهم من الانجليز، وفهم الرمزية الفرنسية، والشعراء الامريكيين مثل ldquo;روبرت فروستrdquo; وrdquo;ريتشارد الدغتونrdquo; ولكن تأثره الاكبر كان ب ldquo;ت. س. اليوتrdquo; الذي الهمه في كتابة اجمل قصائده في اول دواوينه quot;رؤيا الربيعquot;.
معظم الكتاب اللامعين في القرن الماضي كانوا قد بدأوا شعراء وانتهوا روائيين وقاصين من الدرجة الاولى، فطموح ldquo;فولكنرrdquo; في ان يصير شاعرا انتهى، حينما أكتشف بنفسه اولا وثم النقاد ان شعره النثري القصير والطويل، لم يستجب لروحه المبدعة، وهو عرف ان تعقيد اسلوبه في الشعر النثري كان له فضاء محدود بسبب غموض مفرداته، وسرده، لهذا يكتشف قارئ ldquo;فولكنرrdquo; في معظم رواياته حسا شعريا مرهفا يقوده احيانا الى وهمية توحي باختلاط في الاسلوب، لان مفرداته الكلاسيكية الاكاديمية، توهم القارئ بمعنى ما يريد قوله، لذالك كان كاتبا صعب القراءة جدا. احد النقاد سأله مرة rdquo;ماذا عن القراء الذين قرؤوك مرتين أو ثلاثة ولم يفهموا شيئا؟rdquo; فأجاب الكاتب ldquo;عليهم ان يقرأوا مرة رابعةrdquo; وهذا يعني ان ldquo;فولكنرrdquo; لم يكن ليعير اية أهمية، لا للنقاد ولا حتى لقرائه. لذالك بقى سنين عديدة مجهولا من النقد والشهرة في بلده، ويبدو ان نشره رواية ldquo;الصخب والعنفrdquo; و ldquo;بينما احتضرrdquo; لم تكن كافية، كان عليه ان ينتظر نشر رواية ldquo;الحرمrdquo; لكي ترفعه الى الشهرة والثراء، وهذه الرواية بالذات كان يعتبرها من اسوأ رواياته، لانه كتبها بتكليف حسب اعترافه لاحقا، وهي الرواية التي جعلت النقاد يعتبرونه كاتبا مثيرا، بسبب كونها تصف انحطاط الجنوب الاخلاقي، وتناقضاته، اضافة الى العنف الجنسي. المعروف حينذاك عن فولكنر هو عدم شغفه بالسينما على الاطلاق، ولكن الضائقة المالية التي كان يعانيها اضطرته ان يقبل وبسرعة عقدا مع شركة ldquo;مترو غولدوين مايرrdquo; ككاتب سيناريو مقابل 500 دولار اسبوعيا، لم يكن ليصدق ان يربح هذا الراتب. فأنتقل الى ldquo;هوليوودrdquo; التي لم ينسجم معها أبدا ولكن علاقته الحميمة بسيد الانتاج والاخراج انذاك ldquo;هيوارد هيوزrdquo; الذي كان يعتبر ldquo;فولكنرrdquo; كاتبه المفضل ساعدته على تحمّل مدينة صناعة السينما، بكل تناقضاتها وريائها، وكان يخاف طعنة في الظهر صاعدا سلم شقته كما كتب مرة لواحد من اصدقائه، رغم ذلك كتب وساهم في أفلام ldquo;هيوارد هيوزrdquo; مثل ldquo;التملك أو عدم التملكrdquo; وldquo;النوم الابديrdquo; وأعاد كتابة العديد من السيناريوهات التي كتبها اخرين بتكليف من شركة ldquo;متروrdquo;، وأشتغل مع ldquo;جون هيوستنrdquo; في اهم افلامه.
هذه تفاصيل، اكتشفتها حين وصولي اوربا، فالترجمات المحدودة الى العربية لمؤلفاته وسيرته لم تشر ولا واحدة منه الى عمله السينمائي، في اسبانيا، عدت وقرأته مرة أخرى، ولحسن الحظ أكتشفت عدم أسطوريته كما كنت أتخيله في ldquo;بغدادrdquo; الان أراه رجلا عاديا شاعرا و روائيا وكاتب سيناريو. ارى اسمه في العديد من الافلام السينمائية التى تعتبر جواهر تلك الفترة، وهذه الرؤيا الجديدة كانت تريحني فمعظم كتابات ldquo;شاندلرrdquo; وداشيل هامتrdquo; البوليسة هو حولها حوارات لافلام تأريخية معظمها كانت ببطولة ldquo;همفري بوغارتrdquo; الذي صار من أعز أصدقائه.
يحكى مرة انه كان في رحلة صيد مع ldquo;هيوارد هيوزrdquo; وrdquo;كلارك غيبلrdquo; وهذا الاخير أنفرد بفولكنر وسأله عن الكتب الحديثة التي تستحق القراءة و من هم في اعتقاده أحسن الكتاب في تلك الايام، اجاب الكاتب (همنجواي، توماس مان، وجون دوس باسوس.. وأنا) فعلق الممثل، ها؟،، حضرتك تكتب؟ فأجاب ldquo;فولكنرrdquo; نعم.. وحضرتك ماذا تعمل؟؟. هذه الحكاية تصور عدم أهتمام فولكنر بالسينما، اضافة الى عدم انسجامه مع جو ldquo;هوليوودrdquo; فلجأ الى الويسكي، وهذه كانت بداية صداقته الحميمة مع ldquo;همفري بوغارتrdquo; وبعد عدة أفلام مع شركة ldquo;متروrdquo; انتقل الى ldquo;فوكس القرن العشرينrdquo;.
فترة ldquo;هوليوودrdquo; كانت متقطعة ففي اي مناسبة، ولو كانت قصيرة، كان يختفي سرا ليعود الى مقاطعته في ldquo;الميسيسبيrdquo; دون دراية رؤسائه في الشركة الذين وبخوه أكثر من مرة سلوكه هذا rdquo;الصبيانيrdquo; حسب تعبيرهم لذالك كان يحسد في كل مناسبة ldquo;مارسيل بروستrdquo; قائلا، rdquo;هو يضطر مصارعة ثعابين هوليوود، يا ليتني كنت لو عشت حياتي مع ldquo;الربوrdquo; في غرفته الوثيرة تلكrdquo; ولكنه رغم ذالك يعترف متأخرا ان سنوات علاقته بالسينما كانت تجربة مثيرة أغنت رواياته اللاحقة.

برشلونة. اسبانيا