بيني وبين العتاوي ما صنع الحداد؛ لن أنسى كيف طفر واحد أملح من فوق التلفزيون بينما كنا نتفرج على فلم السهرة في الطارمة وكاد يفقأ عين أختي. أكره القطط ولا أطيق ملمس جلدها الناعم ولا يعجبني تطفلها ومراقبتها لنوافذ المطابخ والغرف بحثا عن منفذ.
وquot;عتوي المطابخ quot; كناية عراقية لطيفة تطلق على كل من لا يهتم سوى ببطنه ويتلصص للعثور على الملذات من اللحوم والسمك. وquot;البزونةquot; كما يعتقد الذهن الشعبي تدعو على أهلها بالعمى ليتسنى لها الأكل من قدورهم دون أن يروها وهي أيضا مثال لطول العمر إذ أن لديها سبعة أرواح كما نعتقد ونحن نقول أيضا لمن لا تعجزه الحيلة في التخلص من المآزق ـ فلان مثل البزونة منين ما تشمره يوكع على رجليه!
الحق أنني تذكرت القطط هذه بسبب قصيدة كتبها الشاعر سعدي يوسف قبل ايام في أحد المواقع. قصيدة تستعير من أغاني الأطفال منطقها ومن عقليتهم طريقة لعبها: يقول والعهدة على الموقع: أهلُ طنجةَ، من شأنهم، أنهم يعبدون القططْ / يفرشون لها في الشوارعِ / يُـسْـــــمونَها خيرَ أسمائهِم / وينامون بين القططْ.
ـ روح بفالك أيها العتوي!
ليس تهكما ولكنه نقد quot;شعبويquot; جديد أحاول به التماهي مع هذا النوع من الشعر، فمع القصيدة حرص شاعرنا على وضع صورة له في طنجة وهو يعتمر قبعة عريضة ويصب لنفسه كأس خمر بانتعاش، مميلا الكأس كما يفعل المحترفون فاتحا فمه وكأنه يقول عبارة ما.
أتخيل أنه يكاد يصرخ ـ والشوارعُ مكتظّةٌ بالقططْ / وهي تلبسُ أبهى ســراويــــلِها / وتُبادِلُكَ النظَراتِ الغلَطْ.
لا أدري، لكنني أحتفظ لسعدي يوسف بصورة أخرى من ملفات شبابي. كنت أدمنت قراءته في الثمانينيات لدرجة أنني حفظت بعض قصائده حينها. أتذكر له بيتا من الشعر ظللت دهرا أترنم به: سموت فردتني سماء خفيضة..وعدت فما أحلى المعاد وما أبهى.
أين تلك القصائد من هذه الألاعيب! أين ذلك الشعر من هذا العبث: أهلُ طنجةَ يصطحبونَ القططْ / في الـمَشاربِ / أو في المقاهي / وفي عُلَبِ الليلِ، حيثُ تموءُ القططْ.
الحال أنني أتفهم ما يصطنعه بعض الشعراء من انغماس متخيل في عوالم ما، لكنني لا أتفهم كيف يصر شيخ تجاوز الخامسة والسبعين، شيخ هو quot;الشيوعي الأخير quot; كما يزعم، على النظر إلى النساء هذه النظرة الشعبية، بل الحيوانية التي تذكرني بكنايات عبود الشالجي وجلال الحنفي :
ــ فلانة جنهه بزيزينه..ناعمة بس تخرمش!
وبمناسبة الحديث عن الكنايات المرتبطة بالقطط والعتاوي أتذكر أننا، في الطفولة، كنا نهزج إذا رأينا رجلا أرمل ـ الله يساعد العتوي..من ماتت البزونه!
هل الأمر مرتبط بتلك المواءات الفضائحية التي كنا نسمعها في quot;شباط اللبّاطquot; حيث صرخات القطط وهي تتزاوج تشبه صراخ نساء مفجوعات. شخصيا كنت أشعر بخوف شديد وأنا أسمع تلك الأصوات، أصوات اللذة المتبدية على شكل تأوهات ألم.
كنت أسأل ـ ليش تبجي البزونة؟ فيجيبون أجابات غامضة. مرة يقولون أنها تلد وتارة يقولون أن أبناءها ضاعوا وهي تناديهم. حين كبرت عرفت أنها نداءات الحياة وأن الطبيعة تتجدد بالنسبة لها في مثل تلك الأوقات.
وذات يوم رأيت ما لم أصدقه؛ عتوي كبير رمادي اللون منطرح تحت القتفة وثمة قطة بالكاد بلغت الرشد تداعبه وتغازله عمليا وهو يكاد ينام. كانت هي منشغلة به بينما هو يغالبه النعاس.
هربت من الغرفة لأخبر أخي فجاء الأخير وطردهما.
المقطع الأخير من قصيدة سعدي ذكرني بهذا المشهد : فإذا أقبلَ الصيفُ / كانوا معاً في الشواطىءِ، حيثُ القططْ / تركبُ البحرَ / أو تتكلّمُ بالعربيةِ / أو تتثنّى، مُــنَـعَّـمةً، كالقططْ / هل تكون معي / في فراشي بلندنَ.../ إحدى القططْ؟
لا تيأس أيها العتوي ولا تخف. لن أراكما ولن أخبر أخي.