عبد الجبار العتابي من بغداد: أحيت دائرة الفنون الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة العراقية يوم الخميس ذكرى قارئ المقام العراقي الخالد يوسف عمر بإقامة مهرجان احتفى به عشاقه وزملاؤه بتلك القراءات التي كان صوته فيها ينبعث من أرجاء القاعة فيما كانت صورته تحاكي الحضور بتلك الحركات والاهتزازات التي تميّز بها وهو يشرح حنجرته للسامعين.
ساعتان من المتعة والطرب والمؤانسة عاشها الحاضرون في قاعة الرباط الكائنة في شارع المغرب في الاعظمية وهم يستمعون الى قراءات مختلفة من المقام العراقي خاصة بمطرب المقام الراحل يوسف عمر، بمرافقة الانغام الجميلة المنبعثة من تلك الآلات الموسيقية التراثية التي كانت لها نكهتها الخاصة، تلك القراءات أدّاها عدد من قراء المقام المعروفين فأجادوا وتفاعل معهم الجمهور الذي طلب المزيد ولكن الوقت لم يسمح بذلك مثلما ان البرنامج كان على هذا التميز الاحتفالي حيث اقيم المهرجان الذي حمل عنوان (يوسف عمر.. نغم المقام الخالد) ونظمته دائرة الفنون الموسيقية
وقدمت فيه اولا فرقة بيت المقام في بغداد (مقام حليلاوي) مع اغنية (مروا بنا من تمشون/ بلجي على حالي تحنون/ تاه العقل صار مجنون/ سهران ليلي ما انام / جيبوا حبيبي الاسمر ) اداء الفنان جبار ستار، ثم قدمت فرقة بيت المقام العراقي مقام (شرقي رست) مع اغنية (الليلة حلوة) اداء قارئ المقام الرائد عبد الجبار العباسي، ثم قدمت
فرقة رواد المقام مقام (بنجكاه) مع اغنية (مرابط) ثم مقام (حجازي كار) اداء الفنان قارئ المقام الرائد خالد السامرائي، ثم جاء دور فرقة انغام الرافدين لتقدم مقام (النوى) مع اغنية (يل زارع البزرنكوش) اداء الفنانين طه غريب وستار ناجي وصباح هاشم، وكانت فرقة ناظم الغزالي مسك الختام للمهرجان حين قدمت مقام (حكيمي) مع اغنية (ما حن عليه) واغنية (سلمت القلب بيدك) اداء الفنان نجاح عبد الغفور، وجميع تلك الفعاليات اعادت الحاضرين الى اجواء الاصالة لاسيما ان اغلب الحضور كان من كبار السن الذين ابتهجوا كثيرا فكانت ايديهم ترتفع مصفقة لكل نبرة صوت معبرة يطلقها قارئ المقام، وقد عبر العديد منهم عن سعادتهم بهذا الاستذكار الجميل الذي هو تقدير لعطاء يوسف عمر فضلا عن انه تنشيط لفن المقام الذي غاب كثيرا عن الساحة.
يقول موفق البياتي مدير بيت المقام في بغداد : الفنان الحاضر في الذاكرة، في ذاكرة العراق عندما شاءت المصادفات ان يلتقي يوسف عمر عام 1948 بأحد الخبراء في اذاعة بغداد واسمه سلمان ليخبره بأنه له رغبة في قراءة المقامات العراقية وانه يمتلك القدرة على أدائها، فكان له ذلك واجتاز الاختبار بكل جدارة عندما اختار اصعب المقامات وهو مقام الرست وبقصيدة (غيري على السلوان قادر/ وسواي في العشاق غادر) فأدهش بها اعضاء اللجنة واصبح قارئا معتمدا في اذاعة بغداد، ومن هنا بدأ رحلته مع المقام، فاستمع الى القبانجي وتأثر به الى حد كبير وأخذ من اسطواناته طريقته الاولى في الغناء وحفظ جميع أشعاره ومقاماته واصبح هذا التأثر واضحا من خلال الاستماع الى تسجيلاته الصوتية وأخذ يتابعه فنيا اينما حلّ حتى اعتقد انه لا يستطيع التخلص من حالة التقليد هذه ولكنّه استطاع فيما بعد أن يوجد لنفسه شخصية مستقلة من خلال سماعه الى الرواد القدامى مثل رشيد القندرجي وسلمان موشي وجميل البغدادي ويوسف حريش وعباس الشيخلي وجميع المدارس المقامية الاخرى التي سبقته وان يستقل بشخصيته التي تميز بها.
واضاف : يوسف عمر استطاع بتميّز اسلوبه الجماهيري ان ينقل المقام من حالة الترف وبيوت الاثرياء التي سادت في فترة من فترات الزمن الى الواقع الشعبي من أوسع ساحاته وبجميع مستوياته الاجتماعية وكانت ابداعاته على مدى 40 عاما من العطاء الثرّ قد اغنت المكتبة الموسيقية الاذاعية والتلفزيونية بكم هائل من التسجيلات الصوتية بفن مقتدر وراقٍ استطاع ان يرسي قواعد مهمة في اصول الاداء النغمي والتحرك المحسوس والمحسوب بمساراته اللحنية، وصال وجال في اعماق قالب المقام وسخر فنه في ترسيم قالبه وهذب ورتّب اوصاله وأحكم سيطرته في الاداء اللفظي واللحني حتى اصبح مرجعا تعليميا من خلال تجميعه لفن المقامات العراقية بالاشتراك والاتفاق مع الفنان القدير المرحوم شعوبي ابراهيم وشرح فيه الاخير كل مقام من المقامات على حدة واعطى لكل جملة شعرية وغنائية حقها في التصويب والتوضيح كما أحيا عددا من المقامات التي كادت تنسى، يوسف عمر ابدع في (البستات) التي رافقت المقامات ونقلها الى اذهان الناس بشكل فني راقٍ راقت لها اذواق المستمعين.
اما الفنان الدكتور هيثم شعوبي فقال : المهرجان استذكار لما قدم الفنان الخالد يوسف عمر من عطاءات في مجال المقام العراقي والبستة البغدادية، إذ يعد الفنان الراحل مدرسة في مجال المقام العراقي لما يمتلكه من خزين نغمي في هذا اللون العراقي الثرّ، والحديث عن الفنان يوسف عمر هو حديث عن المقام وعن انجازات هذا الرجل الذي استطاع ان يثبت اركان هذا الفن ويوسع مجالات نشره للمتلقين، حيث كان المقام العراقي محدودا في بعض المناطق فاستطاع ان ينشر هذا الفن في عموم بغداد وفي عموم العراق ويصبح سفيرا لهذا الفن بعد ان كان محدودا، كما انه استطاع ان يشكل ثنائيا مع الفنان الراحل شعوبي ابراهيم في خان مرجان وحفلاتهما الشخصية ويقدمان اللون البغدادي الاصيل من مقامات وبستات واغانٍ عراقية، وايضا الفنان يوسف عمر لايجيد فقط فن المقام وانما كان يجيد (الابوذية) و (العتابة) لتأثره بالمطرب ابو جيشي والمطرب عبد الامير الطويرجاوي في مجال الابوذية، وايضا فإنه يمتلك حنجرة قوية مؤثرة في المتلقين والسامعين وله جمهوره الواسع، يعني ان اكثر قراء المقام من منتصف القرن العشرين وصعودا اكثر انتشارا واكثر تأثيرا بهم هو الفنان يوسف عمر.
واضاف : اهمية هذا المهرجان تكمن في انها استذكار الرموز واعلام الفن في هذا البلد، يعني ليس كل من يتوفى ننساه، بل يجب ان يستذكر في مهرجان وان يكون له تقدير لمكانته وتقدير للناس الذين يعملون ايضا في الوسط كي يعرفوا ان غدا اذا ما قدموا عطاء وتركوا بصمة سيتم استذكارهم ايضا.
فيما قال قارئ المقام خالد السامرائي : هذا المهرجان من الطراز الاول حيث انه يقام لاول مرة على شرف دائرة الفنون الموسيقية بتوجيه من وزارة الثقافة، ويشرفني انني شاركت وقدمت احلى ما قدم يوسف عمر هذا الفنان الكبير الذي توفي قبل 25 عاما وما زالت قراءاته للمقام وبستاته تحظى باهتمام الكثير من محبي المقام وهو علم من اعلام هذا الفن العريق.
واضاف : المهرجان احيا ذكرى رائد كبير من رواد المقام العراقي يستحق الكثير، وللمهرجان صدى جميل في نفوس العراقيين لا سيما عشاق المقام حيث كان الاحتفال متنفسا لهم بعد ان كنا نقيم الاماسي كل يوم جمعة ولكننا حرمنا منها بسبب الظروف ولكننا عازمون على اعادة هذا المتنفس، وانا اشكر وزارة الثقافة ودائرة الفنون الموسيقية لانهما تستذكران رموز الفن الكبار وتحييان فنونهما.
يذكر ان يوسف عمر.. ولد عام 1917 في محلة جديد باشا في شارع الرشيد، واعتزل المقام عام 1985 بعد تدهور حالته الصحية وتوفي ليلة 14/15 تموز / يوليو عام 1986 إثر نوبة قلبية.