عبد الجبار العتابي من بغداد: نعت نقابة الفنانين العراقيين المطرب الريفي العراقي الكبير سلمان المنكوب، الذي وافاه الاجل فجر الجمعة، الثاني من ايلول/ سبتمبر عن عمر تجاوز الثمانين عاما بعد معاناة طويلة مع مرض عضال، وقد شيع الى مثواه الاخير من داره في مدينة الصدر شرقي بغداد الى مقبرة السلام في مدينة النجف لتنهي رحلة طويلة من الشهرة والغناء نالها المنكوب الذي يعد واحدا من ابرز رواد الاغنية الريفية في العراق، بل انه نال العديد من الالقاب التي اطلقها عليه محبوه من ابرزها لقب (اسطورة الجنوب)، وقد عاش سنواته الاخيرة في بيت مساحته 120م2 ومكتظ بالعشرات من ابنائه واحفاده، فيما كانت بعض وسائل الاعلام تنشر استغاثات عن حالته الصحية المتدهورة التي اختتمت كما يبدو بجلطتين دفعتا به الى الرحيل عن الدنيا، وهو القائل عن حاله قبل سنوات: (انني وصلت الى الشيخوخة وضنك العيش والمرض، وعصاي التي لا اهش بها غنمي انما لأخيف احفادي الصغار وادعوهم الى الصلاة والحد من شقاوتهم).
ولم يكن المنكوب مطربا عاديا بل علامة فارقة فارقة من علامات الغناء الريفي العراقي بأسلوبه الجديد الذي لم يكن يعرفه الغناء الريفي من قبل وكان صدى صوته يتردد في جنبات الاحياء الشعبية خاصة، ولا يمكن ان يقال ان هنالك عرس وفيه سلمان المنكوب الا وكان الالاف حاضرين، يجيئون من مسافات بعيدة للاستماع ومشاهدة الرجل الذي اسمه وصوته يثير في السامعين نوعا من الجاذبية الغريبة، لذلك كان المنكوب مميزا وسط المطربين الريفيين الذين كان لهم حضور غير عادي لدى الذائقة الشعبية ااناس، هو الرجل الذي لم يذهب مع المدرسة الى ابعد من المرحلة الإبتدائية، لكن يتمتع بذاكرة قوية وحس عالي وموهبة جعلته يتكلم خمس لغات من خلال المعايشة اليومية للانكليز والهنود والاتراك والايرانيين، مثلما جعلته يكتب الشعر القريض والشعبي أيضا، الموالات والابوذيات والاغنيات التي كان صوته الشجي الحزين وسيلته الى اعماق الناس.
ولد سلمان المنكوب في مدينة الكميت بمحافظة ميسان (جنوبي العراق) عام 1931 من اسرة دينية، من داخل بيت غلام بن آية الله شرهان سالم المياحي، الشيخ الذي خرجّ من مدرسته خطباء المنبر الحسيني في المدينة، أعلن تمرده أول مرة وهو بعمر 10 سنوات عندما أطلق لصوته العنان ليغني أغاني (مسعود عمارتلي) واغاني فناني زمانه، حيث كان يستقطب أقرانه من الصبية والبنات ليغني ما يحفظ بصوته المميز، وصل خبره الى أبيه الذي ثار لان كان يريد ابنه ان يكون خطيباً حسينياً، لكن سلمان وجد في ذلك تحديا كبيرا لطاقاته وارادته فتوجه فيما بعد الى بغداد، ويشير المتابعون له عن لسانه انه في عام 1947 سار نحو الأحتراف بعد دخوله أول مرة الإذاعة العراقية اللاسلكية مع زميله المطرب داود زيدان وكانت بدايته أغنية (أوياكم).. التي كتبها ولحنها، ثم توالت الأسطوانات مع شركة (بيضفون) والجقماقجي ومن ثم الجلسات الغنائية التي وصلت بحدود (600) جلسة. كما سجل وصور لإذاعة وتلفزيون العراق العديد من الأعمال الخالدة عازفاً للعود والكمان والربابة، ويؤكد هؤلاء انه كان يحب المرأة ويتعامل مع كل أمرأة مثل أغنية، كما انه يتعامل مع كل اغنية مثل المرأة ولهذا تزوج (13) أمرأة.
وكانت من اشهر اغانيه (هضيمة) و(امرن بالمنازل) و(ياسوالفنا) و(هلي ياحيف) و(على يادان دان) و(حبيبي وين هاي الغيبة)، وهذه الاغاني كانت جزء من شهرته التي طبقت الافاق بشكل اصبح الناس يرددونها لاسيما اغنيته (امرن بالمنازل / منازلهم خليه/ أكلها وين أهلنه/ تكول أكطعوا بيه)، حيث اقتبس من الكاتب نعيم عبد مهلهل ما قاله عنها (صارت بحة حنجرة سلمان المنكوب ثقافة مطلوبة من اغلب مطوعي ومجندي القوات المسلحة العراقية وهو يطلق سيمفونيته الشهيرة:( أمرن بالمنازل..منازلهم خليه...أكولن وين أهلنه..يكول اقطعوا بيه )..!، ويذكر المتابعون له ان لقب (المنكوب) جاء بسبب النكبات العديدة التي مرت عليه في حياته
يقول المنكوب: منذ طفولتي طلقت الدنيا، ولم ازل اصر على رأيي، كنت اتأمل الاشياء والمخلوقات بعمق منذ صغري، انظر الى الشجرة كيف جاءت ومتى اخضرت اغصانها ونضجت ثمارها، وهذه تحيلني الى قدرة الخالق، عرفت منذ زمن بعيد تفاهة وجودنا، فرحت اعيش حياتي بكل عنفوان تزوجت ثلاث عشرة مرة، أنجبن 38 ولداً وخمس بنات، ولي عشرات الاحفاد، عشقت بقوة واحببت كثيرا، وكنت (خيامي) المزاج نسبة الى الشاعر عمر الخيام.

وعن محطات مهمة من حياته يتحدث المنكوب قائلا:
- سجنت لقضية شخصية، بينما كنا في الزنزانة، وصلت بشارة، فرح بها المساجين، وهي مرحمة، فخرج من خرج، وخفضت احكام البعض. اما انا فلم تشملني المرحمة، فأصابني الهم والحيف وضاقت بي الدنيا، فكتبت قصيدة اشرح فيها مظلمتي وأبث فيها شكواي وحزني ويقرأ لنا المنكوب ابياتها التي مازال يتذكرها جيدا ومنها: (كلها طلعت بس ترى المنكوب ظل/ أظن توفيقي يا خويا بي عطل) الى ان يقول: (كل هظيم وعيني ما شافت النوم/ وبقت اطفالي يا ابن قاسم تحوم/ وين تنطي الوجه من غيرك اليوم/ يا زعيم الشعب يا عبدالكريم)، واذا اخي يأتي ومعه بشارة الخير، فقصيدتي قرأها الزعيم، وخط عليها بالقلم الاحمر، حيث شملني بالمرحمة، وخفضت محكوميتي من عشر سنوات الى سبع سنوات.. لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد حدث الانقلاب، بعدها نقلت الى سجن بعقوبة ثم الى البصرة، حيث اعيدت محاكمتي ووبخني الحاكم، الذي اخرج القصيدة كشهادة ادانة لي، وصب جام غضبه علي قائلاً:(خلّي يفيدك زعيمك) لاغياً المرحمة وهددني، اذا نطقت بكلمة اخرى، سيضاعف الحكم عليّ، وهكذا قضيت عشر سنوات في السجن.
- في زمن النظام السابق كنت تحت المطرقة، داخل الوطن، ورغم تحفظي، غالباً ما يفلت لساني، وتكون النتيجة اعتقالي ثم اخرج من السجن بقدرة قادر، وتكررت معي عدة مرات.
- لطيف نصيف جاسم كان محباً كبيراً لصوتي وغالبا ما يسلطن عند سماعي ويذهب في غيبوبة، والحق يقال، كان دائما يتدخل لإخراجي من السجن.
- ارسل الرئيس الراحل احمد حسن البكر بطلبي وحين قابلني قال لي: لا منكوب بعد اليوم، وأكرمني واعطاني هوية حمراء، احتفظ بها الى الآن، وعندما قدمت للتعيين في الاذاعة وقف الصحاف حجر عثرة في طريقي، لأنه طلب مني الانتماء الى حزب البعث فرفضت طلبه بلباقة، وقلت له: انا رجل حر، انتقل من مكان لآخر فلا استطيع الالتزام، وهكذا راحت الوظيفة وتوصية البكر.
- وزارة الاعلام في النظام المقبور، حولت المطربين الى جوقة تتغنى بشخصية الطاغية، وكان المطربون مُحرجين، فالذي لا يغني لصدام تتحول حياته الى جحيم.
- ان رموز النظام المباد كان يكره كل ما هو اصيل، فقد همش الرواد والاغنية الريفية واضطهد منشديها، وجاء بالغجر وفضلهم حتى على زوجاتهم بل بعضهم تزوج من غجريات وانجب منها.
- كنا في ضيافة احد الشيوخ في الاحواز حيث يجتمع اكابر المجتمع الاحوازي والايراني، وكان معي المرحوم داخل حسن وشهيد كريم ومجموعة كبيرة من المطربين والمطربات فغنى الجميع وبعدها طلب مضيفنا ان نغني للشاه مجاملة لنسيبه الذي كان ضيفا على الشيخ العلوان، فغنى الجميع ورفضت انا مدعياً بأني رجل موظف في الحكومة العراقية ولا استطيع ان امدح الشاه فهو ليس بملكي، ومازلت اذكر المرحوم داخل حسن الذي غنىquot;ايران صارت جنةquot; وبعد يومين القي القبض عليّ وسجنت، فتدخل السيد نعمة احد الوجوه المعروفة والمحترمة في ايران واطلق سراحي واوصلني مع فرقتي الى الحدود العراقية بخفي حنين.. اكتشفت فيما بعد ان الامير شاه خان نسيب الشاه، لم يفوت لي رفضي الغناء فأمر بحبسي.
- لم يقلدني احد، لأن طوري صعب، حاول المرحوم رياض احمد ان يقرأ على طريقتي ولم يوفق، فقد دعاني المرحوم رياض في بيت كاظم اسماعيل الكَاطع، لكنه لم يستطع تقليدي ومع ذلك اخذ عني ابو ذية وكذلك قحطان العطار، الذي اعطيته موال اماه لا تحزني
- بعد رحيلي سيُقبل الجمهور على اغنياتي وسيكون ثمنها مضاعفاً، ربما لم احصل على ربح مادي لكني حظيت بحب الناس وتقديرهم، فأنا اينما ذهبت القى الحفاوة والتكريم، جمهوري ليس الناس البسطاء، انما هم النخبة، لأني اديب وشاعر ومغن وشبيه الشيء منجذب اليهِ.