التركمانستاني اوراز ياغمور

نصرت مردان: حصلت قبل سنوات عن طريق الصدفة من الكاتب التركي عرفان نصرالدين أوغلو، على عنوان الروائي والشاعر والباحث التركمانستاني اوراز ياغمور دون سابق معرفة، وأرسلت إليه مجموعة من قصائدي التركمانية (ثمة فرق بين لغة تركمان العراق ولغة سكان تركمانستان). وقد سعدت كثيرا فيما بعد بتواصلي معه عن طريق الهاتف. ومما زاد من تواصلنا، قيامه بنشر بعض قصائدي في كتابه المهم (انطولوجيا شعراء العالم التركي،مؤسسة (تورك صوي) الثقافية،عام 2000).
استمرت صلتنا الودية حتى عام 2003، وانقطع بعده بسبب الفترة التي تلت احتلال العراق من قبل القوات الأمريكية، لكن هذه الصلة استعادت مجددا قوتها قبل اسبوع عندما وصلتني منه رسالة الكترونية مفاجئة. فبدأنا من حيث ماانقطعنا مضطرين.

من هو اوراز ياغمور؟
اوراز ياغمور من مواليد عام 1947، ويصف نفسه بأنه يحب العوم ضد التيار. في عهد غورباتشوف اشتهر بروايته المعروفة (حين يتبدد الدخان) عام 1989، والتي تعكس ما يمكن تحقيقه عند تعاون المافيا مع بعض رجالات الحزب الشيوعي. وقد تم بيع 57 ألف نسخة في تركمانستان وحدها عندما كان عدد سكانها أربعة ملايين نسمة. وقد قام مسؤول حزبي في إحدى المحافظات السوفيتية بشراء 1600 نسخة من الرواية وأشعل فيها النيران، معتقدا ان الرواية تمسه شخصيا. وحسب الروائي فانه كان على حق في ظنه. وقد تبع ذلك تلقيه تهديدات عديدة من بعض المسؤولين.
ككاتب يعمل اوراز ياغمور على تعريف تركيا في تركمانستان، وتعريف تركمانستان في تركيا. كتب عن مؤسس المذهب العلوي حاج بكتاشي ولي (1209- 1271)،والشاعر الشعبي المتصوف يونس أمرة وهو أحد مريدي حاج بكتاش ولي (1238- 1320)، والشاعر الشعبي قره جه أوغلان (1606 ـ 1679)، ومولانا جلال الدين الرومي (1207ـ 1273).
ولسبب غير معروف كان محظورا الكتابة عن الشاعر الشعبي قره جه اوغلان، إضافة إلى منع طبع أي كتاب عنه، فكان أن كتب اوراز ياغمور مقالته الشهيرة بهذا الخصوص (من يخرج قره جه أوغلان من سجنه؟). وكانت بمثابة صك غفران لإخراج الشاعر الكبير من سجنه السوفيتي.


زيارة غير معتادة إلى تركيا

في عام 1990يتلقى اوراز ياغمور دعوة من تركيا للمشاركة في مهرجان عن الشاعر الشعبي الذي مر ذكره، قره جه اوغلان بمدينة آدانه (آضنه). وحسب التعليمات فكان يجب الحصول على موافقة موسكو مسبقا. وقد تم كل شيء دون أي عائق. ويحضر ممثل من اتحاد الأدباء السوفييت لتوديعه. حيث يوصيه بأن quot; ثمة مجاعة في تركيا، ومن الأفضل أن يرفق معه أكبر كمية من الخبز، لتوزيعه هناك على الجائعين quot; ولا ينسى طبعا توصيته بشراء صور وتذكارات عن لينين والكرملين لتوزيعها على زائريه.
كان أول ماحرص عليه كاتبنا هو ملء حقيبتين من حقائب السفر بكميات كبيرة من الخبز، وسط إحساس إنساني رائع بأنه سيخفف من غلواء المجاعة والنقص الكبير في الخبز الذي يعاني منه أبناء جلدته من الفقراء في تركيا.
يعاني اوراز ياغمور من نظرات الشك والارتياب في عيون رجال الكمارك في مطار استانبول. متسائلين عن سبب وجود هذه الكمية من الخبز بين حقائبه. وعندما يراهم وهم يقطعون الخبز إلى نصفين للبحث عن شيء سري في داخله،يفكر في ان يقول لهم quot; تفضلوا خذوا ماتشاؤن من الخبز! quot;. لكنه سرعان مايقول لنفسه quot; ان رجال الكمارك عامة لا يجوعون على الأغلبquot;. كما يلاحظ بأن لا أثر في وجوههم للجوع أو القحط الذي حدثه عنه ممثل اتحاد الكتاب السوفييت. ويستغرب الكاتب عندما لا يصادف في (آدنه) فقراء يشحذون الخبز. بل يستغرب عندما يجد صالة الطعام في الفندق الذي يقيم فيه عامرة بأطايب الطعام والشراب، ويدهش عندما يرى كميات كبيرة من الخبز على كل مائدة. لكنه سرعان مايقنع نفسه بأن الفندق الذي يتناول في صالته الطعام هو فندق خمس نجوم، والحالة هذه فلابد أن لا يظهر على رواده علائم الفقر والمجاعة.
إلا أنه رغم ذلك لا يتوانى من سؤال دليله هامسا:
quot; أخي العزيز..لقد أحضرت معي كمية كبيرة من الخبز في حقيبتين، كيف نستطيع توزيعها على المحتاجين؟ quot;.
وتبرق عينا الدليل وهو يقول له: quot; لم أفهم ماذا تعني؟quot;.
ورغم أنه يعيد السؤال نفسه، إلا أنه يفهم منه بأن الدليل يسأله عن سبب إحضاره الخبز معه دون شيء آخر. فيوضح له بنفس منكسرة بأنه بسبب المنع لم يتمكن من إحضار لحم وسكر معه، فاضطر إلى إحضار الخبز فقط للمحتاجين.
عند عودته لغرفته يقترح على منظفة الغرفة أن تأخذ ماتريد من الخبز من حقيبتيه، لكن العاملة تشكره قائلة إنها ليست بحاجة إلى الخبز. ويعطيها الحق بأنها ربما رفضته لأنه رجل غريب بالنسبة لها. وعندما يدخل الدليل إلى غرفته يعرف الحقيقة عندما يرى الحقيبتين المليئتين بالخبز. حيث يبدأن بالضحك معا.
خلال هذه الزيارة يتوافد عليه مواطنين من مدينة أدانه لدى سماعهم بزيارة أول تركماني لمدينتهم من الاتحاد السوفيتي، حيث يبدأ اوراز ياغمور عند انتهاء الزيارة بتوزيع صور لينين والكرملين إليهم. ويلاحظ أن الابتسامة تختفي من وجوه البعض عند رؤيتهم لتلك الصور، حيث يتدخل الدليل قائلا: quot;نحن لا نحب لينين، من الأفضل عدم توزيعها quot;.


فقير في القصر الجمهوري

تلهم زيارة اوراز ياغمور إلى مدينة (جناقلعة) الشهيرة بذكريات وآثار المعركة التي قادها آتاتورك ضد القوات الاسترالية والبريطانية وقوات أخرى، وانتصاره فيها بتأليف كتاب عنوانه (أنا آتاتورك). وعند الانتهاء من الكتابة، يتحول إلى درويش يطرق شتى الأبواب بهدف طبع الكتاب المذكور. إلا أنه لا يجد إلا معسول الكلام والوعود التي تبقي على رف الانتظار الذي لا ينتهي، وتسد كل الأبواب في وجهه لمدة ثلاث سنوات متواصلة. عندما يبلغ الصبر حدوده النهائية يرى الحل في مراجعة السفارة التركية في عشقباد، ويتلقى بعد فترة اتصالا تليفونيا من أحد العاملين مع وعد بطبع الكتاب المذكور، وعندما يتم سؤاله عما يريده من مستحقاته عن الكتاب كمؤلف يقول، بأنه لا يريد قرشا واحدا، بل أن همه هو أن يرى كتابه النور. وفي النهاية يتم طبع الكتاب.
يستدعى في أحد الأيام إلى السفارة التركية بعشقباد، حيث ينقل إليه أحد الموظفين تحيات رئيس الجمهورية التركية لمساعيه في تقريب الصلات بين الجمهوريات التركية، ويعلن عن قيام حفل تكريمي له بالمناسبة يقلد خلاله وسام تقدير من الدرجة الأولى. وبدلا أن يفرح لهذا الخبر السار فإنه يفاجيء مسؤول السفارة بقوله quot; أشكركم على هذا التقدير العالي، لكنني لا أود السفر إلى تركيا، هل من الممكن إرسال الوسام إلى عنواني في عشقباد؟quot;.
ويصاب المسؤول بالدهشة لرفضه فيؤكد مجددا، إنها دعوة من رئيس جمهوريتنا سليمان دميرال!
كان مرد تردده في السفر عائدا إلى حذائه البالي،وعدم قدرته على شراء حذاء جديد بحجم 46، ولم يكن من اللائق أن يسافر لحفل يحضره علية القوم، بحذاء يعاني جانبه الأيسر منه من ستة شقوق طويلة. إلا أن أصدقاءه ينجحون في إقناعه بعد ثلاثة أيام من التردد. في النهاية وعند حضوره إلى مكان الاحتفال في القصر الجمهوري (جانكايا) يحاول جاهدا إخفاء حذائه، ويحس وهو يمشي في صالة الحفل بأن يمشي على تل من الدبابيس. بينما كل من حوله من المسؤولين والوزراء والنواب يرتدون ملابس أنيقة للغاية، واحذيتهم تلمع كالمرآة. ويكتشف باندهاش بأن معظمهم ينظرون بدهشة إلى حذائه، رغم محاولته المستميتة في إخفائه بقدر الإمكان.
يجلسوه في الصف الأمامي حيث الوزراء والنواب، ويجد الكرسي الذي في جانبه فارغا إلى أن يكتشف
أن صاحبه هو رئيس الجمهورية سليمان دميرال، الذي سرعان مايجلس إلى جانبه،ولا يستطيع أن يمنع نفسه من النظر إلى حذاء رئيس الجمهورية الفاخر اللماع، ويكتشف خلال تلك الفترة أن دميرال بدوره يتطلع إلى حذائه المتهريء الذي كان يحاول إخفاءه بجره تحت المقعد قدر استطاعته.
عندما يستدعى للمنصة يحس بالارتباك والخوف، ويحرص على أن لا يرفع قدميه عند المشي،، مع رغبة ملحة في نفسه في أن يقول quot; إن الفرق الوحيد بين الكتاب ورؤوساء الجمهوريات هو: أن للكتاب أحذية مليئة بالثقوب !quot;.
بعد انتهاء الحفل، يسأل أوراز ياغمور دليله quot; إلى أين سنذهب الآن؟quot;.
فيقول له الأخير ضاحكا: quot; إلى السوق، لشراء حذاء جديد quot;.