كيف عرفت كل ذلك يا مسكين..؟
وكيف دسست بين سطورك كل تلك التلميحات والألغاز..؟
ومن أين واتتك الجرأة على أن تعريني أنا - تيمور العظيم - الذي أحكم بقبضته على البلدان من أقصاها الى أقصاها.. كيف..؟
وهل تظنني لا أقوى على فك الرموز وأستشفاف ما بين السطور، وفهم الفذلكات، وأنارة زوايا الصفحات المعتمة التي قبعت فيها كلماتك الساخرة ومماحكاتك الغريبة..؟
آه.. يا أبن رمق.. آه.. لأنك أخطات كثيراً حين أوقدت شمعداناتك في دهاليز الأيام الماضية.. أخطات هذه المرة..! وحسبي ان ذاكرتك قد خرمتها أبرة المعاناة التي كانت تدق على العصب، حتى جعلت أناملك تستطيب خط أفكارك المجنونة، وفضحت ما عجزت عن قولة منذ زمن بعيد.
أني لأشعر بنشوة النصر يا مسكين لأنك وقعت !.. وقعت دون أن تدري، ولا يشفع لك ما تمتلكه من قوة برهان، ولباقة وبيان، حين أغرتك معرفتك في الأستبطان، وكشف ما حدث في سالف الأزمان، حين أيقظتني وأفزعتني بعد أن كنت راقداً في واد عميق من النسيان !.
وآه أخرى يا مسكين.. وكلامي معك لا ينتهي.. لا ينتهي طالما أنك نقبت في أوراقي القديمة وعرضتها على الملأ، ولم تكتف بكل ذلك، بل أضفت عليها من خيالاتك الجامحة، وسكبت فيها من براعتك وحسن رصفك للمفردات ما يوحي لمن يقرأها بأن ذلك قد حدث بالفعل، وبذلك مزجت السم بالعسل.
من الذي ذكرك بي يا أبن رمق..؟
ولماذا تناسيت ( تيمورك) ولاحقت سيرتي بعد أن نسيها الناس وأستعادت المدن هيبتها بعد طول أنكسار، ومضى على ذلك قرون عديدة، وجاءت ملوك وذهبت ملوك، وفتكت بالعالم حروب مجنونة فيها من البطش والقسوة والخراب ماشعرت أزاءه أنا - تيمور العظيم - بالخجل !.
تنسى كل هذا يا مسكين وتتذكرني، وتسلبني هناءة الموت الذي لم ينازعني عليه أحد..؟
لقد اقضت مضجعي كلماتك وحيلك التي ابتدعت هذا الأسلوب الماكر، ولأجل أن تحقق لنوازعك القلقة وروحك الهائجة، الهدوء والدعة، ولتبين للخلق اكتشافك لجانب كان سرياً في حياة القائد تيمور العظيم !.هل تريد ان تخبىء انكسارك مثلما خبأت امانيك منذ زمن بعيد..؟ امانيك العتيقة التي كنت تخبأها بخوف تحت وسائدك.. امانيك التي دسستها قسراً في نخاع عظامك وفي تلافيف مفاصلك، وهاهي اليوم تستيقظ وكأنها ولدت للتو، تستيقظ لكنها عمياء برغبة شاردة ولت وجهها شطر ماض بعيد خوفاً من مخالب حاضرك، تستيقظ لتفضحني وتشوه مامضى من حياتي وماصارت اليه سيرتي انا - تيمور العظيم - الذي ابكى العباد وحرق اليابس والأخضر والتهم البلاد، وهشم الرؤوس، وخافت منه السباع والضواري، وارتعدت من هيبته الجبال.
آن الأوان يا مسكين ابن رمق كي ابكيك، انت الذي كنت رفيق البكاء في رحلة لا تعرف لها من نهاية، حتى صار البكاء ذاتك الأخرى، وكنت تتربص الوقت لتسرق منه أية هنيهة لتحرق بها مناديلك ببكاء حار مرير.. آن الأوان كي تعرف جسامة ما أقدمت عليه، حتى اجعل تلك الومضة التي خطفت في تضاريس خيالك تخبو والى الأبد..
ستتولاك لعنة تيمور العظيم وتميتك الميتة التي تلائم فعلتك، ولتكونن عبرة لمن ينبش سير الجبابرة الذين لاهم لهم سوى الفتوحات بقوة السيف، وبسط النفوذ على جهات العالم الأربع لكنهم يانفون ان يدسوا انوفهم في امور صغيرة.
ثم هب ان العالم كله عرف ما أجتهدت انت على اظهاره بالصورة التي صورتها، هل سيعيد ذلك الزمن الى الوراء، او يصلح امور الماضي بعد ان تلاشت احداثه منذ قرون..؟ قل.. ان كنت تملك المزيد عسى ان يعرف الأخرون اشياء يجهلونها عني، قل ماتشاء فلم يعد الأمر قابلاً لمساومة، أو أعادة نظر تجعل كل منا ينصرف لشأن !
ثم مالذي سأخسره انا الميت المنسي المتلاشي من ذاكرة الأنام بعد ان شغلتهم الحروب والتكنولوجيا وسياسة الحصارات، والعولمة..؟
اتظنني لاادرك مايكتسح عالمك الذي تعصف به العواصف..؟
لماذا اقدمت على هذه الفضيحة التي ندت لها جباه الأموات (ازيدك علماً ان عالمكم فان لارجاء فيه وهو يواصل سيره الحثيث الى العدم، ومحال ان يفقه ما يجري) وازيد على ذلك واخبرك انكم ميتون مثلنا ولكن شبهت لكم الحياة.
يا ابن رمق.. لقد عزمت انا الميت المنسي المتلاشي ان أنبئك ماستؤول اليه حياتك
bull;- اية حياة تذكر مامر بك - وستذوق مرارة الحقيقة التي ستكتسح عاجلاً.
* أيضاح :- مامر من كلام كان على هيئة حلم داهم السيد مكسين ابن رمق.. حلم ظل يتكرر لأكثر من ثلاثة اشهر متعاقبة، وفي أحد الأيام استيقظ السيد مسكين من نومه فزعاً وصرخ آآآآآآ.. آه ومات *
-------------------------------------------------------------------------------
*قالت الزوجة: اطلق صرخته في الساعة الرابعة صباحاً.. صرخة أرتجت لها جدران البيت، وهرع لسماعها الجيران فزعين متسائلين.
واضافت الزوجة، انها رأت روحه تنطلق من جسده مثل هالة ضوء تتصاعد نحو الأعلى مخترقة السقف، تاركة جسده يسيح على الفراش مثل كتلة الشمع ذائب.
ياويلتاه !.. لم أر في حياتي ميتة كهذه، لقد كان على مدى ثلاثة أشهر مرت لم يكلم احداً، ولم ينظر في المرآة، كان يئن طوال الليل أنيناً موجعاً تتقطع له الأكباد، أنات كانت تملآ البيت كانها تنبىء بحدوث امر جلل سيداهم حياتنا التي تحولت هي الأخرى الى آنين.. وشيئاً فشىء تحول كل شىء الى كابوس مرعب غير ملامح الأشياء.. حتى الجدران بدت عتيقة مبقعة بسخام الآهات، والأثاث غطاها الغبار واحالها الى أجداث ساكنة وكأن قرون عديدة مضت عليها، ولم تسلم حتى صورة زواجنا حيث تصحرت الوانها واصبحت مجرد خطوط سود..
آه.. كل شىء تغير في ثلاثة الأشهر المنصرمة، ولاشىء يدل على الحياة غير الآنين في الليل وتجواله القلق في النهار وسط البيت لا يدري ماذا يفعل، وما الذي تلبسه، ولا هم عنده سوى البكاء والحذر من النظر في المرآة، بل انه حطم كل مرآيا البيت وكل ما يعكس الصور من زجاج وأوان ٍ صقيلة..
لا أدري !، حالة لم أسمع بها من قبل ولم أرها في حياتي قط، والغريب انه كان يستيقظ قبيل الفجر فزعاً ويهرع الى مكتبه، يكتب اشياء غريبة لم افقه منها شيئاً، والأكثر غرابة من ذلك هو ان خطه قد تغير واصبح يشبه الخطوط القديمة التي كان ينسخها الناسخون في عصور مضت مستخدماً المداد واليراع فيما يكتب.
كان يكتب بانهماك شديد وكأن الزمن سيتلاشى وعليه ان يفرغ ما بجعبته قبيل شروق الشمس، ليواصل اطلاق آهاته وبكائه على شىء مضى، لكني مع ذلك استطعت ان افك بعض رموز كتاباته حيث جاء في احدى الصفحات من مخطوطته :-
لم تكن أناتي من حلم داهمتني فيه، ولا تأنيب رماه جبروتك على مسامعي، و لا هيبة توهمتها وانت هناك مجرد أشلاء مزروعة في باطن الأرض لم تحييها امطار قرون انصرمت.. لم يكن كل هذا ما افزعني مع اني اقر بحكمة الموت التي اعادت خلايا تفكيرك عن جدوى الصراع والبقاء والفوز والخسران.
ياتيمور ! الذي تناسلت منه بذرت الشر والاخلال بميزان الطبيعة الازلي، انما فجعني حقاً هي بذرتك التي سرت مثل جراثيم اثيرة في عقول العباد، وأوغلت الى غرب الأرض حيث المكان الخصب والتكاثر وتقنين الفكر، وابتكار
ما يفجع الخلق ويفسده ويحيل الرياض الى جدب.
لقد شممت رائحة quot; الديناميت quot; تنبعث من فمك وانت تلقي خطبك علي في الحلم، وازعم انها عدوى حملتها الريح لتخيم على رأسي، وتفسد علي حياتي.
لقد رأيت في عينيك الشبقتين اللتين يحتدم فيهما البغض والحرب والموت والخراب، رأيت فيهما تلك الرغبة المستميتة لتحطيم قوانين الزمن، والقفز الى الحياة لتمارس دورك السابق وانت تومىء لجرذانك وعقاربك وكل كائناتك
السامة باكتساح الأرض مرة أخرى اينما امتدت.
ثم أردفت الزوجة قائلة : هذا ما استطعت قراءته مما كتبه زوجي، ويبدو ان بقية الصفحة قد انسكب عليها الماء بطريقة ما شوهت الكتابة، ومحت الخط المكتوب بالمداد واليراع.. لا أدري ربما يكون هذا الماء من نهر دجلة العظيم الذي اعاد الى ذاكرتي هجمة المغول على بغداد.