مد يده ليتناول ملعقة من مربى الفراولة الموضوعة أمامه في طبق صغير. في نفس اللحظة وقفت الذبابة اللعينة، التي لم ينجح في إبعادها أو سحقها، فقد كانت تطير مبتعدة وكأنها تحس أن ثمة ضربة قاضية طريقها إليها من جريدة (توربون دو جنيف) المطوية في يده.
ذبابة وحيدة، لكن عنادها يعادل عناد عشر من الذباب العراقي. تطير مبتعدة عنه، لتقف بعد لحظات على وجهه أو يده أو إحدى فتحتي أنفه. والإزعاج الذي تلحق به يعادل إزعاج سرب من الذباب في مدينة كركوك، في بيتهم الذي كان ثمة مياه أسنة تجري أمامه لم تنجح الحكومات السابقة واللاحقة من تجفيفها..لكن ضربة واحدة كانت تكفي لإرسال عشرات منها إلى الجحيم، لو كانت ثمة جحيم خاص بالذباب في الآخرة. كما أن تيار المروحة الكهربائية أو (المبردة) بإمكانه أن يدفع بالذباب بالابتعاد عن البشر، والركون في بقية أرجاء الغرفة أو الأماكن العالية من جدران غرف البيت، لتعود بعد الساعة المحددة لانقطاع التيار الكهربائي إلى سابق عهدها في زيارة وجوه أو أقدام الذين يواصلون قيلولتهم.

لقد ترك منذ سنوات مدينته أو بالأحرى وطنه، ليبدأ حياة جديدة في جنيف. لكنه كان يستغرب حقا من ظهور الذباب وإن كان قليلا قياسا بوطنه في مدينة ترقد فيها النظافة في كل مكان. كل ذلك لم يقف حائلا في أن يتساءل هل أصبح بطرا بحيث بات يضيق من وجود ذبابة واحدة، وهو من بلد فيه للذباب شنة ورنة..؟
كان صوت يحيى حمدي المنطلق من آلة التسجيل يضيف شجنا مضاعفا على فضاء صالة البيت:

عيونك حلوة سحّارة
مثل عيونج الحلوة
حرام تلبس نظارة

لم يتبق إلا فترة قليلة على حضورها. تعطر من جديد. ألقى بنظرة في المرآة على وجهه.لا بأس به فسماره مرغوب فيه هنا. بدأ يترنم بغمغمات موسيقية مخزونة في ذاكرته من زمن غير هذا الزمان.
ألقى نظرة طويلة على غرفة النوم.أغلق الستارة، ليضفي عليها جوا من الرومانسية. فهو يعتقد ان الستائر المغلقة والغرفة شبه المعتمة تدفع بالجسدين إلى المزيد من الحميمية.
فتح زجاجة بيرة مثلجة، وصبها في قدح طويل كان قدحه المفضل عند تناوله للبيرة. أحضر طبقا من الكرزات. كان ذهنه منشغلا تماما بلقائه المرتقب بصديقته جانيت التي أشغلته طويلا، وتركت نيران جسده حامية لفترة طويلة من الدلال والممانعة دون أن تسد الباب في وجهه تماما.
بدأ عبدالوهاب في زاوية المطبخ بأغنيته الشهيرة ( بافكر في اللي ناسيني) منتقلا بصوت آسيان من جملة موسيقية إلى أخرى، أشد حزنا وعتمة إلى أن وصل إلى المقطع الذي يردد فيه ( مظلوم..لكن المقسوم مقسوم)، وهو المقطع الأثير لديه، وكلما سمعه يستغرب كيف يمكن لمطرب الملوك والأمراء الارستقراطي، أن يلحن هذا المقطع بكل هذا النوح والشجن. وعندما أراد أن يقترب من المسجل، قطع اندماجه عليه طنين الذبابة اللعينة.. زززز..ززز في أذنه اليمنى. طردها بحركة عنيفة من يده فانتقلت ززز..إلى أذنه الثانية. كان يكتشف لأول مرة عناد الذبابة السويسرية.
تذكر كيف أصيبت أخته الصغيرة بالتراخوما ووصلت فيه معاناتها إلى عدم قدرتها على فتح عينيها الجميلتين اللتين تحولتا إلى بركة قانية اللون.
كما يتذكر تلك الأمسية التي حضر فيها إلى بيتهم معلم درس العلوم في المرحلة الابتدائية نامق أفندي، وفي أثناء حديثه مع والده الذي كان يعمل فراشا في المدرسة عن السيرة الشريرة للذباب الذي لايحمل معه إلا التراخوما و البلهارزيا والزحار، وبقية الأمراض المعدية.
بعد أن نفث والده دخانا كثيفا من سيكارته، سمعه يقول لنامق أفندي:
ــ لكنني يا استاذ سمعت من إمام المسجد حديثا عن فخر الكائنات سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، بأن في إحدى جناحي الذبابة الداء وفي الأخرى الدواء. فإذا سقطت على إحدى جناحيها في قدح من الماء،وجب تغطيس الذبابة في القدح كاملة، لأنه في إحدى جناحيه الوباء والأمراض، وفي الأخرى الشفاء.
أطفأ نامق أفندي سيكارته وقد بدا الانفعال على وجهه واضحا:
ــ يا حاج لا يمكن أن يكون ذلك حديثا صحيحا،بل هو مختلق، فهذا الذي يعيش على القاذورات لا يمكن أن يكون إلا مصدرا للأمراض والأوبئة.
لم يرغب والده في استمرار النقاش، بل اكتفى بأن يقول القول الفصل:
ــ الله أعلم.
أينما يوجد كائن حي، يوجد فيه ذباب. وقد قرأ مرة معلومة طريفة عن سبب خلق هذه الحشرة المزعجة، في أن سلطانا أذل ملوكا ودولا، بدأ يشكو من الذباب الذي كان ينغص عليه راحته،ولم تنفع كل الوسائل لقطع دابر هذه الحشرة من الوقوف على وجهه الكريم، أو يطن قرب أذنه عند النوم، أو ان يقرص قدميه المقدستين قبل أن تنزع إلى الفرار..فكان أن سأل عالما عن فائدة خلق الله تعالى للذباب ؟.. فقال العالم وكان شجاعا، لقد خلقت الذبابة لإذلال الطغاة الذين يذلون شعوبهم.
عاد بذهنه إلى الواقع، إذا صدقت جانيت وعدها فلم يبق على حضورها إلا فترة قصيرة. كان متلهفا أن يرى شعرها الذهبي منثورا على مخدته، وهي تنظر إليه بعينين باسمتين فيهما لون البحر وصفائه.
في الساعة الموعودة رن الجرس.فتح الباب بلهفة. قابلته بابتسامة عريضة وهي تقول:
ــ كما ترى لقد وفيت بعهدي لك كما وعدتك.
أخيرا رأى شعرها منثورا على مخدته كما تمنى. رأى جسدها الباذخ ممتدا بسخاء على فراشه كضيف عزيز طال انتظاره.سكت الكلام، واستباحت الشفاه لذة القبل.
كان يحيط بجسدها العاجي كما يحيط أسورة بالمعصم. هذه اللحظة التي طالما تمناها منذ زمن طويل، بدا يعيشها في فراشه الذي حرص قبل وصولها على تغيير شرشفه،والذي أصبح الآن مبعثرا.
كانت هي أكثر توقا منه لهذا اللقاء المنتظر ـ المؤجل بسبب دلالها وهي ترد في كل مرة على إصراره بغنج:
ــ عندما أريد أنا فقط !
وظل يجاريها ويداريها ويصبر حتى هذه اللحظة التي يجمعهما الآن في عناق حام وكأنهما جسد واحد.
مد شفتيه ليرتشف مايشاء من القبل الحامية من شفتيها المستسلمتين لفمه... فجأة أحس بالذبابة الملعونة وهي تقف فوق إحدى عينيها المغمضتين من النشوة. سحبت شفتيها من فمه، وطردت بكفها الضيف الثقيل.
عاد يمطر قبلاته على جيدها العاجي، فأحس بالضيف غير المرغوب فيه على الاطلاق خاصة في مثل هذه اللحظات المختمرة من الشهوة، يقف على فتحة أذنه اليمنى. سحب نفسه قليلا من فوقها وحاول بكفه طردها بشدة وكأنه يصفعها.
بدا على ملامح وجهها نوعا من القرف:
ـ ألم تنظف الغرفة بما فيه الكفاية ؟
لم يجبها بل ترك شفتيه تبحث عن مكان لها في جيدها ووجنتيها وكتفيها بقبلات قصيرة متتابعة، لتستقران على فمها.. لتوقد من جديد نار الشهوة،فراح الجسدان يمتعان نفسيهما بالمزيد من العناق، والشم، والبوس واللمس.. في لحظة الذروة هذه، أحس بوقوف الذبابة الملعونة على مؤخرته. الأمر الذي رفع من درجة انفعاله وسخطه دفعته إلى النهوض من فوقها..حيث وقف للحظات كالمجنون يبحث عن الذبابة الوحيدة التي تبدو عازمة وعن سابق إصرار وترصد على إفساد لحظاته الممتعة.
كانت تنظر إليه بـتأفف وهو يهز الستارة لعله يعثر عليها هناك، لينزل بها ضربته القاضية.
جلست على الفراش وأشعلت لنفسها سيكارة بدأت تمتص دخانها بعمق، لتطلقه صوب المرآة ليصطدم بها قبل أن يختفي.
انطلق إلى المطبخ للبحث عن مبيد ترسل رشة منه هذه الذبابة اللعينة إلى الجحيم.بحث في أدراج المطبخ فترة من الزمن ثم في أماكن أخرى في زاويا المطيخ عن أي مبيد مهما كان نوعه، فقد كان عازما على التخلص نهائيا من هذه الحشرة المقرفة. لكنه مالبث أن أوقف بحثه يائسا.
رجع إلى غرفة النوم ليكون قريبا من جسد جانيت الجميل.لم يرها.كانت الغرفة خالية،وكان الفراش خاليا إلا من شذاها. أيقن أنها رحلت ساخطة عليه. نظر بأسى إلى الفراش الذي كان يضمهما قبل قليل.
كانت الذبابة وحدها تقف على بياض الوسادة كبقعة صغيرة سوداء.