بيروت:صدر حديثاً للكاتب اللبناني محمد الحجيري رواية quot;طيور الرغبةquot; عن دار quot;قناطر الشرقquot;، وهي باكورة المؤلف تروي سيرة خروج شاب من بلدته النائية في البقاع بعد شعوره باليأس والمرارة واكتشافه رغباته، يلتحق بالميليشيات الشيوعية اللبنانية في بلدة الرميلة الشوفية، هناك يتأمل للمرة الاولى أجساد النساء على شاطئ البحر يسافر، في متاهات العريّ الذاكرة. يهرب من بلدته ليجدها امامه لدى عناصر الميليشيات الشيوعية، من بعد أسابيع يعود يعود الى بلدته يأساً من أحلام الشيوعية، ثم يعود إلى منطقة سقي الحدث(شرق) ويبدأ باكتشاف آثام الحرب الأهلية على خط التماس بل ينتبه إلى السنوات التي أمضاها بعيدا عن والده الذي كان يسكن بمفرده في سقي لحدث، يعيش لحظات مؤثرة في التذكر المرير ويغرق في التساؤل والكوبسة، لا يحتمل البقاء والعيش إلى جانب والده فيلجأ إلى العمل في شارع جبل العرب في بيروت كحارس لإحدى المؤسسات، من هذا الشارع يغرق في متاهة المدينة وكواليسها ونسائها وناسها وكذبها وبشاعتها وجمالها وسيارتها وامكنتها وشعرائها ومقاهيها وحاناتها، ومن هنا يبدأ باكتشاف العلاقات الجنسية للمرة الأولى من خلال الذهاب الى مباغي رأس بيروت التي كانت تحتر، ومن ثم التعرف الى الفتيات بطريقة درامية قائمة الحيرة والارتباك.
تخيم على الرواي في quot;طيور الرغبةquot; اشباح الموت والرغبة والحب والفقدان واللوعة، يتأمل أحوال المدينة وعالمها السفلي في الليل تذكر لحظات نومه الشقية، يراقب أثر الحرب الأهلية على الشباب ولغتهم اليومية. رواية تمزج الواقع بالخيال، مكتوبة بلغة فيها الكثير من الشفافية والجرأة وأحيانا الحقد(على الحرب) والشغف بالأخبار، والمزاجية في قول الآراء. بل هي مرآة لجيل ما الحرب الأهلية وما آلت اليه الأمور خلال مرحلة التسعينات وصولا إلى المرحلة الراهنة.
يقسم المؤلف الرواية الى مجموعة عناوين quot;الرميلةquot; (بلدة لبنانية شوفية)، quot;سقي الحدثquot;(منطقة في الضاحية الجنوبية) شارع جبل العرب(غرب بيروت)، وشارع الحمرا الشهير، وquot;عين الرمانةquot; منطقة في بيروت الشرقية اندلعت فيها شرارة الحرب الأهلية من خلال البوسطة، وعرش أيل بلدة بقاعية، وكل عنوان له سيرته كمكان أصابه التحول في كل شيء.
مقطع من الرواية:
هذه الرواية ليست عن الحرب، والحرب ليست رواية، إنها أكثر من احتلال.
إذا أردت أن تمقت الحرب أكثر عليك أن تسمع الحكايات أو الأفكار المرمية بين القمامة ووقعها لن يكون أقل من زئير الأسد.
الساعة الثانية ظهراً، الشمس تثقب الرأس في حزيران، وصلتُ إلى قبالة المسبح الشعبي في بلدة الرميلة الساحلية، ترجلت من السيارة. المسبح يسيطر عليه عناصر من الميليشيا الشيوعية. بدت لي الرميلة كمحطة للمسافرين في فيلم أميركي وهي التي أخذت صيتاً قوياً لدى شباب عرش ايل بسبب توافد المقاتلين من أحفاد لينين إليها، كأنها محطة في حياة كل شاب. صورة الرميلة في الخيال أكبر من الواقع، كانت صورتها أقرب إلى الحلم الثوري. ما هو الحلم الثوري؟ لا أعرف! ربما هي أطياف الوهم، الرميلة الحلم، كانت في الواقع لحظات من الحر الشديد... الحلم يسقط في أول خطوة أو يغدو في الواقع كناية عن حماقة. رحت أبحث عن شخص اسمه أبو جعفر ليرشدني إلى ثكنة الحزب الشيوعي، أبو جعفر كان زارنا في سنوات طفولتي الأولى وعلمت أنه يعمل في المسبح قبل أن أغادر الضيعة بمدة.
الحرّ الشديد موت آخر.
أخذني مشهد الرميلة للحظة برونقه برغم طيف الحرب والمهجّرين، هناك حيث شتول البقول والأشجار والعنب لا تشبه اليباس والقفر في عرش ايل. من خلف نبات الصبّار وشوكه، أتأمل النساء العاريات في المسبح. نساء أجهلهن، ينمّن تحت مظلاّت ملونة وكبيرة، أو يسبحن تحت شمسّ حزيران الساخطة. الرطوبة ثقيلة على الساحل، والعرق ينساب على رقبتي كدبق لزج، أمرّر أصابعي على جبيني وأمسح عرقي المتصبّب وأبصق قرفاً... موج البحر يأتي متهادياً، وينبعث صوته عند الرمل أو الصخر الكالح، صوته الذي لم أتآلف معه على الفور. هل الحلم الذي أبحث عنه في نساء البحر، في الأجساد العارية على رمل الشاطئ؟!
بعينين ذئبيتين أنظر إلى نساء البكيني على الشاطئ الرمليّ، كأن أسرارهن سقطت بسقوط ثيابهن. التأمل يتشتت في كثرة الأجساد تحت الشمس، أجساد تتبادل مشاعرها مع البحر والهواء والشمس. نساء يدلّكن أجسادهن بالزيت الواقي من الشمس، وأطفال يطلقون صيحات البهجّة في المسبح المخصص لهم، وشبان يشربون البيرة الباردة تحت المظلات، يتأمّلون فتيات البحر اللواتي يتنقلن بأقدام عارية على الرمل. أن يرى الشاب الجبلي مشهد العري على البحر لأول مرة، فذلك يجعله يسافر في كواليس المهبل ربما لا يخرج منه إلا بصدمة. هل يبقى المهبل مع العري أم أن المخيلة تصنع كل شيء؟! أكثر من عقدين مرة على مجيئي إلى الرميلة وغرقي في مشهدية نساء البحر، الآن أكتب عن هاتيك اللحظة في خضم ما يسمى ldquo;الربيع العربيrdquo;. ينتابني شعور أن أكبر جدار في وجه الثورات هو غشاء البكارة، هو الوهم الذي لا نقدر أن نتخطاه منذ ابصرت عيوننا نور الشمس، منذ خرجنا من الطين ونحن نبني في هذا الجدار، وجاءت الأديان العتيدة لتزيد من ارتفاعه وعذابات البشرية.
لم تكن صدمة حين دخلت المسبح خلسة من وراء الشريط الشائك. رأيت الشاب يدلّك جسم صديقته بيده، وتسرح نظراته على ردفيها المكتنزين... الحلم ليس ldquo;حياة ثانيةrdquo; كما يقول نيرفال. الحلم أكذوبة اليأس، الرميلة أكذوبة، نساء البحر أكذوبة مدمرة...
أمام السابحات، أشعر أني رجل شريدٌ بلا قوام أو أناي مهشّمة محطّمة كقصبة خيزران. أحاول أن أتخيّل العري قبل أن يكون موجوداً على الشاطئ، تعود إلى ذاكرتي صورة فوزية الجربنتي تغسل ثيابها في ldquo;الطشتrdquo; قبالة بيتها الطيني العتيق، وقد ارتدتْ جلابيّة شفافة، وهي بعد زواجها ارتدتْ التشادور وأطال زوجها لحيته وصار داعية في البلدة.
هناك على الشاطئ تقف فتاة على الرمل، تربط منديلاً على ردفيها، تستنشق الهواء دفعة واحدة، تنتظر وصول الموج، يتاح للزبد أن يلامس أصابع قدميها. أنظر إليها، أتخيل أن يقبض عليّ أحدهم بتهمة التلصص، أن يمسك برقبتي قائلاً: ldquo;شو عم تعمل هونrdquo;؟ أتخوّف ان يكتشف أحدهم أني أحاول منع عضوي من الانتصاب!!
هل تنتهي حكاية الرغبة مع عري النساء؟!
عري النساء يسرق الوقت. أشعر في لحظة أن لا شيء يضاهي بصرياً أن يرى الجرديّ امرأة عارية، تنام على رمل البحر، يبلّلُ جسدها الموج، وتروح تتقلب على الرمل أو تضبط أطراف البكيني عند حافة الردفين. وحين تخرج امرأة أخرى من البحر والماء ينساب على جسدها، تبدو كحبّة الفريز، أو هكذا يتبدى ليّ. بدا كأني أصبحت عاجزاً قبل الأوان، البصبصة سبقت اندفاعي الجسمانيّ وسرقتني، كأن جموحي أصبح عاطلاً عن العمل. الرغبة كوحش ضار يحضر في كل زمان ومكان، في مشهد النساء، في شعرهن وعريهن وثيابهن وصوتهن، حتى في لحظات العزلة، لا بدّ من الرغبة.